الفتاة الكبري تمسك بيد رفيقتها الصغري وتعبران الشارع، هما في الثالثة عشرة والثامنة، أوأقل، لا أعلم علي وجه التحديد. أعرف أنهما لا يدركان شيئاً مما يحيطهما، لا شيء واضحاً أومفهوماً. منذ عدة شهور وهما تجلسان يومياً علي الرصيف، في انتظار رغيف أوطبق طعام أوثمرات نصف فاسدة، في حال الشدة يستيقظان صباحاً ليعبثا في أكياس النفايات السوداء. يتفننان في إخراج بقايا تفاحة أوكسرة خبز. هناك دائما بقايا أرز مطبوخ وقشور برتقال. ليست هذه بصدقات، لذلك تأكلاناها بنهم واستمتاع. يأتي من حين لآخر رجل يأكل من الزبالة، هو أقدم منهما، معروف لكل من يسكن الشارع، معروف للزبالين أيضاً. الزبالون بعد إعدام الخنازير الجماعي أصبحوا يتركون أكياساً سوداء علي ناصية الشارع، النفاية العضوية أصبحت عبئاً عليهم. رجل الزبالة حل هذه المشكلة، يقوم الزبالون يومياً بفرز سريع للغاية لمحتويات الأكياس، يعرفون الأكياس الخاصة بهؤلاء المبذرين، غير الحريصين علي بقايا الطعام، يرمونها في الأكياس السوداء بدلاً من أكلها. آخرون لا يرمون طعاماً أبداً، يأكلون كل شيء، يتندر الزبالون علي سكان البيت الازرق في منتصف الشارع، حتي الموز يأكلونه بدون تقشير. يفرز الزبالون نفايات المبذرين بسرعة، يجمعون بقايا الأكل والقشور في أكياس بعينها، يرمونها علي الرصيف علي الناصية، ثم يرحلون مسرعين، أصبح التقاطع مكاناً دائماً للنفايات العضوية. يأتي رجل الزبالة يومياً ليأكل، في البداية يفتح الأكياس بسرعة، يمزقها، يبحث بسرعة محمومة، يمسك بالطعام في يده، يرفعه إلي فمه ويلوكه. المراقب له سيلحظ غياب قواطعه، مما يجعل قضم الطعام مستحيلا، هويكسر بقايا الطعام بيديه، ثم يدخل القطع إلي فمه لتطحنها أضراسه. مع الوقت يبدأ في الإقلال من سرعته، يأكل علي مهل، يمسح بقايا الطعام في قميصه المتسخ في الأصل. ثم يأكل ويمضغ بهدوء. يجلس علي الأرض بعدما يشبع، ثم يبدأ في فرز آخر للأكياس أمامه، هناك دائما فائض من النفايات، يكتشفه رجل الزبالة بعد أن يشبع تماماً، يجمع كل ذلك في كيس أسود، ثم يرحل. يمر يوم أويومان، ثم نراه ينبش في الأكياس مرة أخري. رجل الزبالة كان زبالاً في أحد الأيام، كما يفعل الزبالون الآن، كان يرفع غلقاً ضخماً مصنوعاً من الخوص، يحمله علي ظهره بعدما يملؤه بالأكياس السوداء. يظل يمشي وهو يحمل الغلق، ينحني ظهره بزاوية تكاد تكون قائمة، وجهه نحوالأرض. لا ينظر أمامه ليتحاشي الناس، الناس هم من يتحاشونه، السيارات تخاف الاقتراب منه. الكل يتوقف حينما يمر هو، مهدداً إياهم بالقذارة والرائحة المنتنة. ثم طارت عينه اليمني، وانزلق غضروفه، وكان لا ينطق سوي عدة كلمات، لم يسعفه جسده الآن، لذلك ترك نقل الزبالة وأصبح يمر علي البيوت أول كل شهر ليجمع أجرة الزبال، يمسك بالمال ويقربه من عينه اليسري، حتي سنتيمترات قليلة، يعد الورقات علي مهل، ثم ينظر إلي صاحب المال ويومئ برأسه ثم يرحل. لا ينطق إلا ببضع كلمات، كأنه لا يعرف الكلام. ثم وجدناه في أحد الأيام يفتح الأكياس ويأكل ما فيها. الفتاتان ظهرتا بدون مقدمات، تحتلان واجهة بيت مهجور، بلا محلات في طابقه الأرضي، تجلسان علي الأرض طوال اليوم، تتحركان مع الشمس في الشتاء، تسطع الشمس عليهما من ُفرج متعددة، نتجت من عشوائية ارتفاع المباني الفارعة في وجه شعاع الشمس. بينما في الصيف تسير الشمس في مدار آخر فيتغير النظام العشوائي لظل الارتفاعات الفارعة، يمر الشعاع الشمسي بعيداً عن وجه الفتاتين في الصيف، لكن السمرة المستغربة لشقرة شعريهما تظل واضحة. شجار أليم اندلع، انتهي بأن ُضربت الفتاة الكبري بعنف، علقة ساخنة تلقتها من رجل الزبالة، ضرب حقيقي، أمسك بشعرها وأخذ يلطمها حتي فقدت الوعي، تركها لتقوم بعد ثوانٍ، عاد هو إلي الناصية ليأكل. فهم الجميع أن هذا صراع علي زبالتنا العضوية، انتصر فيه الرجل ببساطة. إيماناً منا بأن الضربة التي لا تقتلك تجعلك أقوي، لم نفعل أي شيء. بعد أيام وجدنا الفتاة الكبري تجلس علي فخذ رجل الزبالة، يضحك هووتضحك هي، يربت علي ظهرها، والأخري الصغيرة تجلس علي الرصيف بجانبهما. الآن كل شيء علي ما يرام. تبدوأمورنا التافهة أهم كثيراً من طعام الثلاثي المتعايش في الشارع، سيفكر الكثيرون في وضع نفايات عضوية أكثر المرة القادمة في الكيس الأسود، هي طريقة غير مباشرة، تحمل معانٍي سامية، تضامنا اجتماعيا وتعايشا اشتراكيا، علي الجانب الآخر تبدو هذه طريقة شريفة لكسب الطعام، علي الأقل أفضل كثيراً من التسول وطلب الإعانة وما يصاحبهما من إهانات. ثم أفقنا علي صوت شجار آخر أكثر عنفاً ، الفتاة تضرب رجل الزبالة هذه المرة، نمرة تخمش وجهه وأذنيه وهو يحاول عابثاً رد أظافرها. انتصر هوفي النهاية، كفان اثنان، كانا كافيان لإفقادها الوعي. هذه المرة، وبكل هدوء، اتجه صاحب الفرن إلي الرجل، وقف أمامه صامتاً أوهكذا بدا لنا، لكنه كان يحدثه وهوساكن تماماً، لم يتحرك. ثم استدار ودخل إلي الفرن. أطاح رجل الزبالة بذراعه في الهواء مستهيناً بالآخر. استمر رجل الزبالة في المجيء، هذه المرة منع تماماً الفتاتين من الأكل من الزبالة، يظل طوال اليوم يأكل ويأكل، بعد عدة ساعات يرتب الزبالة بجانب الحائط، ثم ينام بموازاة الحائط، حامياً زبالته من المتطفلين. يستيقظ ليتابع الأكل، يجمع بعض الفضلات في كيس بلاستيكي، ثم وفي آخر الليل، يرحل. كرد فعل ثوري، قرر الكثيرون وضع المزيد من الفضلات العضوية الصالحة للأكل في أكياسهم السوداء، علي أمل أن يتخم رجل الزبالة ويقرر ترك الباقي للفتاتين، كرد فعل شعبي، قرر هوأن يتبرز في آخر الليل علي ما يتبقي من فضلات عضوية. في العصر، رأينا الفتاتين تتجهان إلي كومة الزبالة، تنبشانها، ثم تأكلان. في اليوم التالي تكرر الوضع، ثم اعتدنا علي ذلك، لم يظهر رجل الزبالة أبداً. بعد عدة أيام سمعنا أنه مات، هو ينام في مكان بعيد، تحت شجرة ضخمة، بجانب سور المترو. قيل إن ثعباناً لسعه أثناء نومه، وجدوه ميتاً في الصباح. لم أعلم أن الثعابين قد تعيش علي أسفلت الشوارع، وسط كل هذا الزحام. مشينا في الشارع ونحن ننظر إلي بعضنا نظرات الدهشة، معترفين بفضل الله ومؤمنين بعدالته المطلقة. بالتأكيد لم تفهم الفتاة الصغيرة ما حدث، صوت الطلقة كان قوياً، عالياً ومؤثراً، علي الرغم من صوت ضوضاء الفرن، ربما ما أخافها وجعلها تبكي بحرقة الدماء المنثالة بغزارة من فم صاحب الفرن، أختها الكبري، ظلت واقفة علي الباب، في تلك الساعة كان شعاع الشمس يدخل الفرن المظلم ذا الجدران السوداء، يطل الشعاع من خلف الفتاتين، يطل عبر فتحة الباب، يقع جزء منه علي ساقي صاحب الفرن، بينما باقي الفرن معتم. كنت أقف علي شباك الفرن، في الحائط العمودي علي الحائط الحاوي للباب، أري ساقي صاحب الفرن وهما تتشنجان بعد أن دوت الطلقة. كان المكان خالياً إلا منه، لذا أدركت أنه أطلق النار علي رأسه. كان جسده مختبئاً في الزاوية، وما تزال ساقاه تتشنجان. أري الطفلة الصغيرة، أو أني لا أراها، فقط أري وأسمع ما يدل علي وجودها خلف الأخري الكبيرة. فقط أسمع صوت شهقة، ثم صمت دام لثوانٍ، تبعه صوات طويل، طال حتي إني ظننت أن الزمن توقف، تبللت عيناي وأنا أظن أني سوف أسمع الصوات طيلة ما تبقي من أيامي. رأيت الرجال والنساء يتحركون وأنا أمسك بالأرغفة وأعود للبيت والصوات في أذني، ثم أنزل مرة أخري وأنجب ولداً وفتاةً ويموت الولد وتتزوج الفتاة وأسافر أنا إلي بلاد باردة ثم أموت في عربة مترو مزدحمة والصوات مايزال في أذني، أصبت بالصمم طوال تلك الأعوام ولم أسمع سوي الصوات. لكن الصوات الطويل توقف، لتتبعه صرخات أخري قصيرة. كانت الفتاة الكبري لا تزال تحجب الصغيرة بجسدها، رأيت الصغيرة، أو أني رأيت فعلها، رأيتها تسحب ذراع الكبيرة بشدة ترغب في الخروج، الكبيرة المسمرة أمام تشنج الساقين تحركت أخيراً وخرجتا معاً، في تلك اللحظة حاولت تذكر وجه الصغيرة، لكني أدركت أني لم أره من قبل أبداً.