»يا صبر مين صبرك علي الصبر.« كانت تلك جملته التي لا يمل تكرارها، هي جزء من موال طويل يدندن به في لحظات الصفاء والوجع، بصوت عذب مجروح أثقلته السنوات الطويلة التي تشي بها ملامح وجهه و التغضنات الهائلة التي حفرها الزمن بمهارة وتئن محكم؛ تذكرت الموال و أنا واقف علي حافة النهر، انتظر أن يأتي و يقلني للضفة الأخري، هو ريس مركب المعدية، وأنا قادم من المدينة كالعادة لقضاء أحد المشاوير بقريتي و كل ما أخشاه في هذا المشوار هو عبور النهر. النهر في سطوته الملجمة، تيار عات مستو دون ريح تداعب سطحه فتزغرد المويجات اللطيفة، ووقدة الظهيرة المدارية تلهب الأجواء حولي؛ أكره الانتظار وألعن في سري كل الاسباب والظروف و الأشخاص الذين يجبرونني عليه بقصد أو بدون قصد، طوال الطريق وانا أبتهل أن أجد المركب علي البر و المراكبي علي الدفة حتي لا أبق رهن الانتظار خاصة في هذا الجو والوقت والريح الممتنعة عن الهبوب، كيما تزيد وقت الانتظار وتعطي المراكبي الحجة فلا نستطيع لومه وقد فرد شراع المركب وظل في البر الثاني منتظرا الريح التي لا تهب، في الحقيقة هو ليس في حاجة لأي حجة حتي لو كانت الريح "طياب" والشرع ممتلئ بها، لكنه هو من يمسك بالدفة و يقرر متي يتحرك قاطعا النهر من ضفة لأخري، مهما جري من عتاب ولوم أو زعيق يصل لحد التشاتم، وكأنما لا يعنيه الكلام و منشغل بما في يديه من حبال يربطها أو ينزل في خن المركب، وحينما يزيد الكلام ويعلو الزعيق لايرد إلا بكلمة واحدة: هي الدنيا طارت. تحت نخلة تمدد رجل لم أستطع تبين ملامحه حيث جعل إحدي ذراعيه وسادة لرأسه و الذراع الثانية غطي بها وجهه مستغلا الكم العريض لجلبابه في ستر كافة الوجه عن الضوء والحرارة، هو أحد المنتظرين للعبور، لكن كيف طال باله وقدر علي النوم هنا تحت نخلة يفصلها نهر عريض عن بلدته، هل أقدر أنا علي فعل ذلك مثله، لاأظن ذلك مطلقا، من نشفان جسده ودقة قدميه وتشققاتهما الغائرة، أستطيع تخمين كونه كبيرا، عجوزا في العمر، هل لهذا الأمر علاقة بالصبر، أقصد عمر الانسان وارتباطه بقدرته علي الصبر، أي أن العلاقة طردية هنا، كلما كنا صغارا كلما قلت قدرتنا علي الصبر، وكلما تقدمنا في العمر تمددت قدرتنا عليه، هل هذا صحيح؟ و كيف نفسر والحال هذه قدرة بعض الأطفال علي الصبر بصورة قد تفوق الكبار في بعض الحالات والأوقات، كانت تلك الهواجس تعبر في عقلي وأنا أتابع الحركة الضعيفة التي بدت علي المركب وهو ما أدخل السرور علي قلبي فأشعلت سيجارة وأنا اتلمس الظل بجوار قدمي الراقد، كنت أخشي أن يشعر بحركتي فيستيقظ وقد خمنت من شخيره الخفيض أنه بحاجة للراحة وهذه الدرجة من النوم العميق، التي يجب عليّ أن أغبطه عليها، أغبط قدرته علي تفويت الفرصة علي الانتظار والهرب منه للنوم. أنتبهت علي خربشة أقدام تأتي من خلفي علي الأرض الرملية الملتهبة، ألتفت ورأيت الأقدام الرفيعة داخل الشبشب البلاستك وهي تنفض ذرات الرمل متقدمة نحوي، رفعت وجهي في الجسد المغطي بالثوب الأسود الباهت والحائل اللون لكني لم أتبين ملامح الوجه المغطي بطرحة تحميه من حرارة الجو، وعلي الرأس قفة من الخوص تبدو هائلة بالقياس للجرم النحيف والدقيق للسيدة، لم تكن تسند القفة علي رأسها، بل كانت تمسك بطرف ثوبها كي لا يعيق حركة القدمين، وقفت كي أعينها في إنزال القفة؛ قالت: ازيك يا ضي. تهلل قلبي فهذه الطريقة في التحية تخص الخالة نفيسة، تقولها للأطفال والشباب، لكنها تتغير حين تحي الكبار او السيدات، وللبنات تحية أكثر إشراقا، تقول: ازيك يا نور. قلت: أهلا يا خالة. و أنا اشيل القفة عن رأسها، لم تكن ثقيلة كما توقعت، لكنها في ظني ثقيلة لسيدة في عمر الخالة نفيسة. للخالة نفيسة ولد وحيد، سافر منذ سنوات طويلة لإحدي البلاد العربية بعد وفاة والده، كان يرسل لها بعض النقود مع العائدين، و أحيانا في حوالات مما جعلها تصنع ختما من النحاس يحمل اسمها وتعلقه معقودا بطرف طرحتها، كل هذا انقطع منذ فترة بعيدة، وانقطعت أخباره، البعض قالوا أنه سافر لأوروبا من هناك، و بعض الخبثاء قالوا أنه تزوج من البلاد البعيدة كما تصفها الخالة نفيسة، وتناول البعض و علي نطاق ضيق و سري أنه مات؛ بالأحري قتل، دون توضيح لملابسات وتبريرات القتل، بعد انقطاع النقود والأخبار من الابن الغائب خرجت الخالة نفيسة للأسواق تتكسب عيشها؛ قالت متسائلة: تزوجت يا ضي. ورغم معرفتها بالإجابة، لكنها طريقة لجر الكلام، وقبل أن أجيب كانت تهز قدم الراقد وهي تكلمه: قوم. ثم ألتفتت ناحيتي وراحت تخبرني إنه العم"سن الحجر" الخبير، وكيف يقضي الأيام الطويلة في الجبال بين دروب الصحراء، يقود قافلة من الجمال، أو يكون دليلا للباحثين عن الثراء في الصحراء، عن الكنوز وآثار الفراعنة الأقدمين، والذهب و عروقه في الجبال ثم راحت تتهكم عليه، إنه لما يعود من سفره الطويل يقضي ايامه كلها في النوم حتي يأتيه مرسال جديد ويجره نحو الصحراء، مع أنه خلال أحاديثه في جلسات الونسة وشرب الشاي بعد العشاء، لا ينسي دوما أن يؤكد أنه كبر في السن، وصارت عظامه تؤلمه، و أنه لن يسافر مرة أخري. ثم تنهدت تنهيدة طويلة قبل أن تعلق بمرارة: البلاد الخربانة دي مين يقعد فيها. أعتدل العم حسان المسمي بسن الحجر وهو يقول مقاطعا: يا شيخة حرام عليكِ. وكانت المركب قد وصلت فقام ثلاثتنا و توجهنا ناحيتها و أنا أحمل قفة الخالة نفيسة. رفضت الخالة نفيسة يد العم حسان الممدودة كي تسندها وهي تخطو فوق السقالة التي مدها الريس عبده، وقالت بضحكة لا ينقصها القوة: أنا أسند عشرة زيك. فرد ضاحكا: طولة اللسان لها أسياد. وأنا في قلب المركب أحاول تخمين مكان الظل الذي سيرميه الشراع المفرود، والريس بعد السلامات سند كتفه علي الدفة وأدارها للجهة الأخري، هواء ساخن خفيف يكفي كي تعبر بنا المركب هذا القيظ، جلس العم حسان بجوار الريس عبده، فيما جلست الخالة في مواجهتهما، علي نحو مباغت بدت لي ملامح الثلاثة متقاربة لحد بعيد، في الخطوط والنحافة و التشققات، رغم اختلاف المصائر والتحلي بالصبر العظيم الذي كان يبدو لي غير جدير بالاعتبار، وأنهم أجبروا عليه بحكم أعمالهم و أعمارهم، هو بالنسبة لي حيلة العاجز، و في حالتهم هذه كان أسلوب حياة وقدرة علي التكيف و التحايل أيضا علي الزمن. خلصتي العفش ولا لسه؟ قال الريس عبده موجها سؤاله للخالة نفيسة، ثم مال موضحا للعم حسان الذي هز راسه مستفهما: أي عفش؟ فتبسم الريس عبده وهو يجر حبل القلع تجاهه، أشار للخالة وهو يقول: أصلها بتجهز العفش للولد لما يرجع تزوجه علي طول. رفعت الخالة الطرحة و بللتها بالماء القريب، وراحت تمسح وجهها ثم قالت: خلاص هانت.. بس هو يرجع و أنا أعمله أحلي فرح. واختنق الكلام بحلقها، وأنا أصابتني رعدة فداريت وجهي في صفحة الماء للنهر الذي تقطعه المركب بتمهل وثقة.