أيهما أكثر قيمة.. كيف تعيش؟ أم كيف يذكرك الناس بعد موتك؟ قد تبدو الإجابة سهلة وليست في حاجة للتفكير، فطالما لن تكون جزءا مما سيحدث بعد رحيلك فما أهمية الانشغال بما سيقوله الناس عنك! ثم إن من يريد الخلود غالبا لا يناله، التاريخ لا يلتفت لمن يريد اقتحامه.. لكن هنا بالطبع علينا تحديد: أي تاريخ؟ يدرس الطلاب في المدارس ما يطلقون عليه "التاريخ"، مادة لا بد للطالب أن يحفظ كل ما جاء فيها من معلومات بلا نقاش، محتفظا بأسئلته، إن وجدت، لنفسه، أو لأهله إن كانت لديهم القدرة والإمكانية لتشجيعه علي البحث عن حقائق محتلفة عما تقدمه له وزارة التعليم. تبدو الأمور يسيرة عندما تتعلق تلك الوقائع بأحداث بعيدة عنا نسبيًا، لن يختلف الناس مثلا حول سعد زغلول، وثورة 1919، لم يناقش أحد تلك المعلومة التي حفظناها غيبا "محمد علي باني مصر الحديثة"، وكان علينا الانتظار طويلا، والقراءة كثيرا لنفهم أن الأمور ليست علي هذا القدر من السطحية، وأنه من الضروري قراءة كل المعطيات حول أي فترة تاريخية قبل إصدار أحكام ما بشأنها، وحتي في تلك الحالة فإنه في التاريخ ليس ثمة حقائق نهائية، لا يصلح ما أراه وأؤمن به للجميع، بل إن ما أظنه قد كان بالفعل معرضا للتغير والاختلاف علي ضوء رواية جديدة كانت غائبة. طه حسين كان مدركا لهذا وسجله في مقدمته لكتاب "فصول مختارة من كتب التاريخ" والذي كان مقررا علي الفرقة الثالثة ثانوي قي 1952، قال: "الحادثة التي تحدث منذ قرون طوال ثم يسجلها المؤرخون إثر وقوعها، ثم يأخذها عن هؤلاء المؤرخين جيل آخر من كتاب التاريخ، ثم تتناقلها الأجيال وتصورها في الكتاب، لا تصل إليك خالصة من كل شائبة، مبرأة من كل أثر لهؤلاء من الذين تناقلوها، وللظروف التي أحاطت بهم حين تناقلوها، ولحظوظهم المختلفة من الدقة في النقل، والصدق في الرواية، ومن حسن الفهم، وصواب الحكم، وبراعة التصوير والتعبير". ينبه طه حسين في مقدمته تلك (يمكن العودة إليها في "أخبار الأدب" عدد 30 - 10 2010) إلي كيفية قراءة التاريخ، يوشك أن يقول للطلاب فيها لا تبالوا بما تدرسونه في هذا الكتاب، واعتمدوا علي أنفسكم ومعارفكم إن أردتم معرفة التاريخ. هذه الأيام أصبح لدينا منهج جديد في دراسة التاريخ وتلقينه يعتمد بشكل أساسي علي الأهواء السياسية، وزارة التربية والتعليم قررت أن تدخل مباشرة علي الخط السياسي، وتجر معها إلي ذلك المعترك ملايين الطلبة الذين تعتقد أن عقولهم ملك خالص لها، وأن ما تؤمن به وتراه هو الحقيقة الأفضل لهم، وعلي هذا أدخلت في منهج التاريخ الخاص بالصف الثالث الثانوي شيئا عن الثورات، 25 يناير و30 يونيو، وكان من وجهة نظرها أن حركة تمرد هي خلاصة ذلك كله، فكتبت عن دورها وعن قياداتها، ثم كتبت أيضا عن الأحزاب الدينية وخصت "حزب النور" كنموذج، بأنها أحزاب لا قانونية. بالطبع قامت الدنيا ولم تقعد بعد، وثارت أسئلة يمكن تصنيفها تحت بند ال"خناقة" وليست المناقشة الجادة، ووراء الخناقة هدف غالب: من الذي له حق دخول التاريخ من الثورتين؟ سجالات علي شاشات التليفزيون وفي الجرائد ومواقع التواصل الاجتماعي ولا يمكنك أن تستخلص منها سوي مطالبة زاعقة: طيب وأنا فين؟ أو: وماذا عن دور فلان الذي ضحي وقدم للوطن ولولاه لما... من المفترض أنه ليست هناك حاجة لتوضيح كارثية هذا الأمر، لو كنا في زمن طه حسين لما كنا في حاجة للكتابة حول موضوع كهذا، أما الآن فيبدو أن كل الأمور لا بد لها من شرح وتوضيح بما فيها تلك البديهيات، أن التاريخ مثلا ليس ملكا لأحد، وأن الأمانة تقتضي، عندما يتعلق الأمر بجهة كوزارة التعليم، الحياد قدر الإمكان، إلا أن كان ما يحركها في هذا مقولة إن "التاريخ يكتبه المنتصرون"، وحتي في هذه الحالة كيف تضمن أن ما تدرسه للطلاب وأنت وسط واقع سياسي مشحون، لن يكون سببا في تحويل المدارس إلي ساحة عنف؟ وبجانب هذه الأسئلة هناك ما يطرحه الناس الذين لم يصل صوتهم إلي الوزارة: من يكتب التاريخ؟ وأليس من المفترض أنه لكي نصنف هذا الحدث علي أنه تاريخ، أو مجرد حدث حالي أن تمر فترة ما من الزمن؟ فلنفرض أنك وزير التربية والتعليم حاليا بماذا ستجيب علي أسئلة كهذه؟ الدكتور محمود أبو النصر وزير التربية والتعليم مثلا اكتفي بالاعتراض علي المعترضين، وكانت حجته في الرد علي خص دور حركة تمرد أنه «ذكرنا اسم حركة تمرد علي الماشي كده، وما ذكرناه بالكتاب حقيقة». بالتأكيد لا بد أن نقف عند كلمته "علي الماشي كده" مطولا، هل هي مثلا منهج جديد في دراسة التاريخ لا نعرفه، أم أنه يقصد ألا ندقق كثيرا وأن ذكر الحركة ودوره جاء استجابة لواقع سياسي مشحون يحاول كل فريق فيه إثبات أحقيته فيه. أبو النصر صرح أيضا بأن الوزارة قررت تشكيل لجنة من أجل مراجعة الجزء الخاص بوصف حزب النور ب"الديني المخالف للدستور" ومراجعة الخطأ إن وجد. لم يسأل أحد سيادة الوزير كيف ستقوم وزارته بهذه المراجعة، هل ستلجأ إلي مجلس الدولة مثلا لمعرفة التكييف القانوني لحزب النور، أم ستؤسس في المقابل حزبا يكون من بين أولوياته منع تكون الأحزاب علي أساس ديني، وبهذا، وإضافة إلي النصر السياسي الذي سيتحقق لها، فإنها تحقق نصرا بالتأكيد علي صحة معلوماتها التاريخية. في قصص الأطفال عادة ما يتم تصوير "التاريخ" رجلا غزا الشيب شعر رأسه وذقنه، حكيما وصاحب مهابة. هذا التصور الساذج والملائم ربما لعقلية الأطفال، بات واقعا الآن، لكن الصورة الخيالية تلك تغيرت بفعل الصراع علي المجد.. يمشي التاريخ بيننا الآن بملابس رثة، تتصارع من حوله الأطراف المشاركة في العملية السياسية ليسجل دورها، بلا إدراك أن من يقفان أمامه ليس إلا منتحل شخصية، وأن الآخر الحقيقي هناك في مكان آخر لا يرونه فيه، يدون هذا الصراع كما يدون كل شيء آخر وعلي صفحاته ابتسامة هازئة.