في روايته "عشب الليالي" (غاليمار، ديسمبر 2012)، ينطلق باتريك موديانو عبر صفحاتها كي يصطاد أطياف الطفولة الغريبة والمهددة التي لم تهجره أبدا. باريس، رجل يبحث عن المرأة التي أحبها قبل أربعين عاما، في الستينيات. "عشب الليالي"، عنوان مستعار من أحد أبيات (أوسيب) منذ أكثر من أربعين عاما، يمنحنا موديانو نفس الشعور بأننا نقرأ نفس الرواية، ببعض التغيرات الطفيفة، ويأخذنا الي غوامض عالمه السحري. هنا، شابة غامضة، تدعي داني، تقيم لبعض الوقت في جناح المغرب في المدينة الجامعية، تتعارف علي بعض الشباب المشبوهين، ثم تختفي في ظروف لم تزل مبهمة. في هذه الدائرة الثامنة يحوم الخطر، ورجل مدفوع بالرغبة يتذكر. بالنسبة لنا، كل شيء بدأ. كما في كل رواية من روايات موديانو، نسقط تحت جاذبية سوداويته إذ إن هناك سوداوية موديانية نمطية : شخصياته الذكورية التي تبحث عن نساء اختفين تبين لنا أنه من اللازم مرور العديد من السنوات، بل والعقود، لكي نفهم أننا أحببنا بصدق، وأن الوقت حاليا قد مضي. ومع ذلك، لا نوستالجيا لدي هذا الكاتب الذي استقبلنا في مكتبه ذي الحوائط المغطاة بالكتب ودليل باريس، حيث تتصدره أريكة حمراء شبيهة بآرائك عيادات التحليل النفساني. هنا، يكتب عن ماض يلاحقه. بالضبط كما الأحلام المتواترة. بيد أن الحلمية، لدي موديانو، تمتلك بعض مظاهر الكابوس وأن الكاتب ارتبط دوما بالذكريات، بالذاكرة، مهتم قبل أي شيء بالنسيان. في هذه الرواية الجديدة، يتعلق الأمر مرة أخري بباريس، بالستينيات، برجل ينطلق بحثا عن امرأة أحبها... يقال أحيانا إنك تكتب دائما نفس الكتاب. كيف تري إلي هذا ؟ - أشعر في غالب الأحايين أن الكتاب الذي انتهيت من كتابته غير سعيد، ويدفعني لأنني لم أدركه جيدا. بما أننا لا يمكننا الرجوع إلي الماضي، يلزمني أن أبدأ كتابا آخر، كي أتم السابق. وبالتالي، أستعير بعض المشاهد كي أطوره باستمرار. هذا التكرار له جانب مرتبط بالتنويم المغناطيسي، كاللازمة المضجرة. لا أحلل نفسي حينما نفسي، ثم أنني لا أقرأ كتبي القديمة لأن هذا الشأن سيمنعني من الاستمرار... تعرفين، من الصعب التوصل الي شيء من الوضوح حول ما نكتب. ربما يأتي التكرار من كوني أشتغل علي فترة زمنية من حياتي تأتي بلا انقطاع إلي ذهني. الستينيات ؟ - نعم، وقتما كنت أبلغ من العمر ما بين 17 و22 عاما. الستينيات المحرك الروائي لأنها كانت فترة غريبة الأطوار، مشوشة. لم أكن أمتلك أي قاعدة عائلية أو اجتماعية. هذه العناصر تتأتي الي ذهني كما الأحلام المتواترة. ماذا كنت تفعل ما بين 17 و22 عاما ؟ - لا أدرس. كنت في باريس بعد أن أنهيت دراستي في المدرسة الداخلية. لدي غرفة في منزل والدتي التي تكون موجودة به دائما. اهتممت بنفسي. فترة من العلاقات الغريبة، مع أناس يكبروني سنا، يمنحوني الشعور بالخطر الدائم. لم يكن الشعور عظيما بأنني عشت كل شئ بطريقة غير شرعية، في حالة من التشرد. كيف تختار أحياء باريس التي تدور فيها رواياتك ؟ - ترددت علي هذه الأحياء وبعضها يأتي الي ذهني بطريقة ملحة، كما مع الحي الثالث عشر، قرب مونسوري والمدينة الجامعية في "عشب الليالي". ارتبطا بهذه السنوات الخمس، اللذين يمثلان قوسين غريبين في حياتي، وأيضا بأشياء عشتها سيئا. كانت مثل الثقب الأسود. الناس الذين التقيتهم من الممكن أن يقذفوا بي الي الخطر، وكان الشعور بالتهديد مستمرا. ولهذا كانت باريس وقتذاك مثيرة للقلق. في "عشب الليالي"، كانت باريس تتبدي جلية ملاحقة بهاجسي الكولونيالية وحرب الجزائر... - لأن بعض أحياء باريس مثيرة للقلق خلال حرب الجزائر : الدائرة الثالثة عشرة أو باب كلينياكور. أناس يأتون الي شقة أمي، علي المحطات، كانوا لطفاء معي ويصطحبوني الي أماكن غريبة. كانوا مرتبطين بحرب الجزائر. كانت هناك مقاه قرب ميدان ايطاليا، جادة فانسان-أوريول، حيث كان هناك رجال ينتمون الي الشرطة وكانوا يراقبون الجميع من فرنسيين وجزائريين. كانوا أيضا من المخبرين السريين الذين يتم إرسالهم الي الجزائر للتخلص من تنظيم الجيش السري AOS. كل هذا أصابني بالرعب. وبالتالي تكتب بشيء من النوستالجيا للماضي ؟ - لا، ليس تماما. تلك أشياء تتبدي لي حلمية لأنها بعيدة زمنيا. أشياء رأيتها وعاشرتها، أشياء مهددة... في مايو 1968، في اللحظة التي نشرت فيها روايتك "ميدان ليتوال (النجمة)"، في الثالثة والعشرين من عمرك، هل أصبحت أفضل حالا ؟ - في الواقع، قبل أن أكتب هذه الرواية، كتبت قبلها. حاولت أن أكتب شيئا ما يتعلق بي بطريقة أوتوبيوغرافية أكثر مباشرة. بيد أني فقدت جزءا كبيرا من هذا النص، انتقلت الي كتابة هذه الرواية، "ميدان ليتوال". ينتمي فقد إلي المناخ غير المقبول لشبابي، وهو نفس مناخ مراهقتي. حينما كنت طفلا، تركتني أمي لدي صديقة لكي تهتم بي في منزلها، في ضواحي باريس وهناك جرت لي حوادث غريبة. ثم اهتممت بالاحتلال، بما أنني نتاج هذه المرحلة حيث ولدت في 1945. وكان هناك أناس يرون أبي غريب الأطوار أيضا خلال طفولتي، وهذا يتجه نحو مستنقع الاحتلال. ، هل ترجع إلي الأماكن التي تتحدث عنها في رواياتك ؟ - نعم، ولكن هذا في غالب الأحيان غير سار. كل ما قلته عن نزل شارع مونبارناس، "النزل الفريد"، هو ما رأيته خلال الستينيات. عدت اليه، ومع ذلك لم يكن النزل موجودا، لقد أصبح فندقا كبيرا. الانزعاج، أنه لم يذكرني بشيء. كأنني أكتب وأحلم بالقدرة علي العودة الي الماضي وأن أعيش ما عشته سيئا وقتذاك. كأنني أجتاز مرآة الزمن وأرمم الماضي. ولهذا دوما، في كتبي، تحاول الشخصيات العودة إلي ماضيها. وحينما تختفي الأماكن، تصبح العودة واصلاح الأخطاء مستحيلة. من رواية إلي أخري من هي هذه المرأة التي يسعي بطلك الي العثور عليها ؟ - هي نفس الشخصية التي تأتي في رواياتي، وانما كالطيف، ليس لأنني أحب الذوات الأثيرية، وإنما كصورة نخرها عفن الزمن والنسيان. إنه النسيان الذي يعتبر جوهر المشكلة، وليس الذاكرة. من الممكن أن نكون حميمين للغاية مع شخص ما ولكن بعد سنوات نجد هذا الشخص يتبدي جليا في الذاكرة كصورة غير واضحة. هي شذرات النسيان التي تستهويني.