كانوا يجلسون علي المقعد الكبير ذي المظلة العالية، وسط طريق كورنيش البحر، قريبين من نادي الصيد بالسلسلة. السيارات تهرع حولهم، ذاهبة وآيبة، وهم يتسابقون في معرفة نوع كل سيارة: أوبل مرسيدس، بيجو.. إلخ. الولد عزت خير من يعرف أنواعها، رغم أن عائلته كلها، ليس بها من يمتلك سيارة. يعمل والده بوابا، يرتدي جلبابا أبيض ويجلس أمام العمارة الكبيرة. عزت نحيف ولونه أسود. الأولاد يحبونه، فهو يجيد الرقص، جسده النحيف يساعده علي ذلك، ويغني لهم أغاني لم يسمعوها من قبل. يقولون إن أقاربه البوابين علموه إياها. سكان العمارة التي يعمل أبوه بها، يحبونه أيضا، تناديه النسوة ضاحكات: تعال يا عزت. والده البواب لا يحب هذا، فهم يعطلونه عن استكمال مذاكرة دروسه. لا يحب أيضا أن يعطينه ما تبقي من ملابس أولادهن. فهو يعلم أن ولده يلعب مع أولاد سكان العمارة، والعمارات المجاورة، وسوف يسوؤه أن يرتدي ما كان يرتديه زملاؤه، وربما عايره بعض الأولاد لذلك. ولكن والده يأخذ الملابس منهن، ويضعها في حجرته الصغيرة تحت السلم. إلي أن يجد بوابا في حاجة إليها. توقف عزت فجأة عن الرقص والغناء، فقد صاح به ولد من أقرانه: عزت، هاجر تقف هناك. نظروا جميعها إلي هناك. كانت هاجر التي تسكن الدور الأول من العمارة التي يعمل أبوه بها؛ تقف بقامتها المديدة علي حافة الرصيف، قلقة، تنظر في ساعتها من وقت لآخر. ردد عزت في صوت خافت: ما الذي جاء بها إلي هنا؟! هاجر هي التي ألحت علي أبيه لكي يكمل تعليمه. كان يريد أن يترك المدرسة، كسائر أخوته الكبار، ويعمل أي عمل، ليساعده في المصاريف. لكن هاجر أصرت علي أن يكمل تعليمه، بل ذهبت بنفسها وقدمت أوراقه للمدرسة الإعدادية. زملاؤه أبناء الحي يعلمون إنها تحبه. ويسألونه: هل قبلتك؟ لكنه لا يجيبهم، فلا يصح أن يحكي لهم ما يحدث بينه وبين هاجر. لقد كانت تحمله فوق صدرها وهو صغير، وتأخذه من أمه ليبقي لديها في الشقة، إذا ما خرجت أمها. هي للآن تنادي عليه، تحدثه كصديق، تسأله عن تسريحة شعرها، لون فستانها. ويجيبها. تقول له: كنت أود أن يكون لي أخ صغير مثلك، فأنا وحيدة أبوي. لم تقبله منذ سنوات طويلة جدا. لكنها لا شك تحبه. قال حمدي يوما، وهو يسكن العمارة المقابلة لعمارتهم: هاجر تعرف شابا أكبر منك، شقيقي الأكبر رآها تركب سيارته. يومها، بكي عزت وخاصم حمدي، لكن ذلك الموضوع مر عليه وقت طويل، فقد نسي عزت هذه الحكاية. وعاد حمدي صديقا له، لكن عزت سمع أحاديث مثل هذه من البوابين أصدقاء والده قال أحدهم: لو كانت هذه البنت في بلدتنا؛ لقتلناها، إنها تركب سيارات الأغراب. لم يبك عزت يومها، ولم يصدقهم. قال حمدي: هي تنتظر سيارة من إياهم. نظر عزت إليه شزرا، لم يجبه، أسرع إلي الطريق، السيارات تهرع أمامه، يري هاجر تقف علي الرصيف المقابل. يريد أن يسرع إليها، لكن السيارات المسرعة تحول بينه وبينها. اقترب أصدقاؤه منه. سأله أحدهم: ماذا ستفعل؟ لمحتهم هاجر. من الرصيف الآخر. حركت ساقيها، ترددت، لعلها أرادت أن تذهب بعيدا. أسرع عزت إليها، أطلق سائق سيارة نفيرها عاليا ليحذره، قفز عزت إلي الرصيف قبل أن تصدمه السيارة، صاحت هاجر فزعة: لماذا تسرع هكذا؟! كان يلهث لا يدري لماذا، فهو يجري مسافات طويلة جدا. دون أن يتعب: أبلة هاجر؟! ما الذي جاء بك إلي هنا؟! آتي إلي هنا مع أصدقائي كل يوم جمعة. نظرت إلي الرصيف الآخر. الأطفال زملاؤه ينظرون إليها ويتهامسون. تعرف هاجر بعضهم: اذهب يا عزت إلي أصدقائك الآن. كانت تحرك ساقيها ويدها التي تحمل الحقيبة، في عصبية. أراد أن يقول شيئا، فلم يستطع. نظر إلي وجهها ثم سار فوق الرصيف، لن يسرع كما جاء. سينتظر حتي يخلو الطريق من السيارات المسرعة. وقفت سيارة أمام هاجر. أخرج سائقها الشاب رأسه، توقف عزت عن المسير. نظر إلي السيارة التي وقفت. وإلي هاجر التي مازالت تنظر إليه في خوف. سار خطوات نحوها. أصدقاؤه يسيرون علي الرصيف الآخر. ناحيته. وقف عزت أمام السيارة، قال الشاب وهو مازال يبتسم: تأخرت عليكِ؟ لم تجبه. نظرت إلي عزت، ثم إلي أصدقائه، قال الشاب: ماذا بكِ؟! أسرعت إلي باب السيارة، وضعت يدها فوق مقبض الباب. اقترب عزت منها أكثر. صار مواجها لها. بعض أصدقائه استطاعوا أن يصلوا إليه. والباقي يراقب من بعيد في انتظار أن يخلو الطريق من السيارات ليأتوا إليه. صاحت هي غاضبة: ماذا تريد يا عزت؟! الأصدقاء الذين جاءوا من الرصيف الآخر التفوا حولهم. صاح الشاب في دهشة: ما الذي يحدث؟ لم تجبه، ارتعشت يدها فوق مقبض الباب، صاح الشاب: من هذا الولد؟! تجاهلت سؤاله، وقالت لعزت: ماذا تريد الآن؟ وضع يده فوق يدها التي تمسك مقبض باب السيارة: أريدك ألا تذهبي معه. صاح الشاب غاضبا: ماذا تريد يا ولد؟! جاء الأولاد الباقون من الرصيف الآخر. أكملوا الدائرة حولهم. وقف بعض المارة وتساءلوا عما يحدث. انتصبت هاجر، تركت مقبض باب السيارة، قالت لعزت في استجداء: يرضيك هذا؟! فتح الشاب باب سيارته وأسرع إليها: من هذا الولد يا هاجر؟ نظرت إليه في حيرة ولم تجبه. سأل مار، ولد من الأولاد: ماذا يحدث هنا؟ تريد أن تركب سيارة هذا الشاب، وزميلنا يحاول أن يثنيها عن ذلك. أمسك الشاب يدها وقال: دعك من هؤلاء الأود وهيا بنا. حركت قدما واحدة نحو السيارة، لكن عزت قال: بربك لا تذهبي معه. صاح الشاب بصوت مرتفع سمعه المار الذي مازال يتحدث مع ولد من الأولاد: هيا يا هاجر، الناس سيلتفون حولنا. حركت القدم الأخري، اقترب المار من الشارع، صاح غاضبا: ماذا تريد منها؟! صاح الشاب لهاجر: هيا .. هيا. لكن عزت بكي: لا تذهبي معه. عدد كبير من المارة اقتربوا من السيارة. نظروا إلي عزت وإلي الشاب، وإلي هاجر. الأولاد يقفون خلف عزت، يؤازرونه. صاح الشاب: هيا يا هاجر. لكنها تركت يده وسارت مع عزت في خطوات وئيدة قلقة. مازالت تتابع السيارة بنظراتها. وقف الشاب حائرا للحظات. ثم ركب سيارته وسار. وسارت هي مع عزت وظل الأولاد في مكانهم. نظر عزت إليهم من بعيد مبتسماً ثم لوح بيده، فلوحوا له مبتسمين.