"هذا مرقد الشيخ العالم محمد عياد الطنطاوي الذي كان مدرس العربية في المدرسة الكبيرة الإمبراطورية ببطرسبورج المحروسة، وتوفي سنة 1278 من الهجرة ، 1861 ميلادية عن خمسين سنة " هكذا كُتب علي قبر هذا الشيخ المصري الجليل المدفون في قرية "فولكوفا" الروسية ، وقد حفر اسمه بالروسية والعربية معا علي شاهد القبر الذي ما تزال بلاطته السوداء تحتفظ بجملة تؤكد أستاذيته وهي مكتوبة باللغتين العربية والروسية "أستاذ جامعة بطرسبرج الشيخ محمد عياد الطنطاوي". إن شخصية هذا المستشار تبرز بروزا فريدا في تاريخ كرسي اللغة العربية وآدابها مدي قرن ونيف في جامعة بطرسبرج أولا ثم بتروجراد ، وليننجراد بعد ذلك ، ولعل رصد تاريخ هذا الكرسي يؤكد علي الدهشة والغرابة لأن أول من مثل هذا الكرسي العربي كان فرنسيا اسمه "ديمانج" (1822) وكان لا يميل إلي مهنته ولا إلي البحوث العلمية ، خلفه البولندي سنكوفسكي (1822- 1847) ، وقد خلفه المصري الشيخ الطنطاوي من سنة 1847 حتي وفاته 1861 ، وليس مدهشا أن يصبح عالماً مثل الشيخ الطنطاوي العربي الوحيد الذي يحمل لقب أستاذ في الجامعات الروسية ، أما بقية العرب ممن كانوا يعلمون هناك فقد كانوا من صغار المدرسين . لقد ظلت أخبار تاريخ حياة الشيخ مبعثرة في بلاد مختلفة يتعذر علي إنسان واحد جمعها دون تنقيب خاص ، ولما بدأ بعض أسلاف الطنطاوي الاهتمام به وبسيرته تمخض هذا الاهتمام عن مجموعة من المقالات منها مقال العلامة أحمد تيمور باشا الذي كتب مقالاً في مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق حينما أراد أن يصحح خطأ في اسم الشيخ الطنطاوي ، فقد كتب ديبو المعلوف الذي عاش زمناً طويلاً في روسيا نبذة عن حركة الاستعراب وذكر اسم الشيخ هكذا "محمد عياض الطنطاوي" بالضاد بدلا من الدال ، و يعد كتاب حياة الشيخ محمد عياد الطنطاوي الذي ألفه أغناطيوس كراتشكوفسكي وترجمته الفلسطينية كلثوم عودة أهم ما كتب عن العالم الرحل ، ولا غرابة في تجاهل التنويريين له بوصفه كان "ينور" في بلد الفرنج لا في بلادنا ، وإذا كانت المقالات العربية قد أطلت علي تاريخ الشيخ وحياته في القاهرة وقبل ارتحاله إلي روسيا فإنهم ربما لا يدرون أن أهم ماكتب عن حياته هو ما خطته يده خاصة عن حياته في مصر . الطنطاوي من محلة مرحوم إلي روسيا كان أبو الطنطاوي من محلة مرحوم ، تلك البلدة الصغيرة التي تجاور طنطا، ومن هنا جاء نسبه "المرحومي" الذي كان يطلق أحيانا عليه ، وقد كان لمحلة مرحوم أهمية أكبر من طنطا حيث كانت تفوقها اقتصاديا وكذلك في تعداد سكانها ، لكن الحالة تغيرت حين بني علي بك الكبير مسجدا كبيرا وبجانبه قيسارية كبيرة في طنطا تبجيلا للسيد أحمد البدوي .بعد أن اضمحلت حالة محلة مرحوم وبدأت دكاكينها في التهدم أخذ أبو الشيخ في التنقل بين البلدان المجاورة حيث كان يتاجر في البضائع ومعه مصطفي الأخ الثاني للشيخ محمد، وحين بلغ الطنطاوي الثالثة عشرة من عمره رحل مع عمه إلي القاهرة، وبعد وقت قصير تبعه أبوه تاركا طنطا، في هذا السياق وفي الأزهر صادق رفاعة وتعلم علي الباجوري وحسن العطار الذي كان عالما وشاعرا ومثقفا تنويريا لم يرفض في شيخوخته أن يكون محررا لأول جريدة عربية ومصرية ، ورغم أن رفاعة الطهطاوي أحد أركان النهضة كان يكبر الطنطاوي بعشر سنوات إلا أن فارق السن لم يحل دون صداقتهما للدرجة التي جعلت الشيخ طنطاوي يكتب "وصف روسيا" . الظروف القاسية تقوده للتفوق لم يتمكن الطنطاوي من استكمال علومه في الأزهر في هذا الجو الطيب إذ إن والده توفي في السنة الخامسة من إقامته في القاهرة، وبعدها تضعضعت أحوال الأسرة المالية، حينئذ اضطر الشيخ أن يترك الدراسة مدة سنتين لكسب العيش، فكان يقضي أكثر أوقاته في طنطا يزاول التدريس حينا والدراسة حينا آخر، وفي طنطا اتسعت معارف الشيخ وأعطي إجازة في تدريس الحديث ، ورغم ظروفه القاسية فقد عاد للتدريس بالأزهر بصفة معاون وهذا يفسر لنا اهتمامه بعلمي النحو والعروض، فضلا عن تفسير القرآن والمنطق، هكذا كانت حياة الطنطاوي تسير إلي أن كاد يقع فريسة للوباء الذي تفشي في القاهرة وكانت حالته خطيرة جدا حتي شاع خبر وفاته ، ظل يقوم بالتدريس في الأزهر علي أن ذلك لم يكن يكفل له الكسب الكافي لأهله لذلك نري الطنطاوي كغيره يعمل في عمل ثان وكان أنسب عمل للإنسان المتخرج في الآداب في ذلك الوقت أن يعمل مصححا لمسودات المطابع ، وقد كان أناس ذوو شهرة أدبية يعملون كذلك في جريدة الوقائع المصرية كالشيخ حسن العطار أستاذ الطنطاوي، وصديقه رفاعه والشاعر شهاب الدين، بعده بدأ يدرس العربية في المدرسة الإنجليزية بالقاهرة ، وبدأت شهرته تظهر كعارفي اللغة العربية الفصحي، وكان الدور الذي لعبه مع فئة من الأوروبيين أهم من الدور الذي لعبه إبراهيم الدسوقي معلم إدوارد لين مؤلف "المصريون المحدثون" ، ولعله الشيخ المصري الوحيد في هذا الوقت الذي يدرس لغته بمحبة واهتمام ويدرس كتب الآداب العربية القديمة، وعليه بدأ يذيع اسمه في أوروبا كما تملك الإعجاب به كل من قابله، وعندما نقل لين "ألف ليلة وليلة " إلي الإنجليزية نقلها عن نسخة صححها، وعلق عليها الشيخ الطنطاوي، لقد بدأت شهرة الشيخ تتسع بين الجالية الأوروبية في القاهرة، بعدها سافر الطنطاوي إلي روسيا، وقد كان سفره حدثا مهما في حيانه لأنه يقدم للمرة الأولي علي سفر طويل بحرا . الطنطاوي من القاهرة إلي روسيا غادر الطنطاويالقاهرة عام 1840، بعدها ابتدأ بإلقاء محاضراته في جامعة بطرسبرج، وهناك بدأت ملكاته تتوهج بالعلم والدراسة حتي أن أحد تلامذته قال عنه "أنت تسألني: من هذا الرجل الجميل قي لباس شرقي وعمامة بيضاء كجناح الغراب وعينان تشعان بإشعاع غريب علي وجهه سمة الذكاء وقد لفحت الشمس بشرته، وليست بالطبع شمس بلادنا الشمالية الباردة، هو ضيف جديد علي روسيا من ضفة النيل الشيخ الفاضل محمد عياد الطنطاوي " إن الطنطاوي ربيب الأزهر حيث التقاليد الكلامية كان مفوها عظيما ، فضلا عن ذلك فقد ترك أكثر من أربعين مؤلفا ومخطوطا ربما لا نعلم عنها الكثير ، وسوف أفرد لها مقالا مستقلا ، لقد رحل هذا العالم التنويري الجليل دون أن يعلم أهل بلدته للدرجة التي عرف بذلك بعض العلماء المصريين المشاركين في مؤتمر المستشرقين المنعقد في استكهولم سنة 1889 وذلك بعد وفاة الشيخ بثمانية وعشرين عاما . رحم الله الشيخ العالم المصري الجليل الذي أثري حركة العلم نقلا ودراسة وتدريسا عبر المستشرقين ومازالت أعماله رابضة هناك تحتاج من يفض مغاليقها ليفتح لنا أفقا لم يزل غامضا أرخ له ذلك الشيخ الجليل .