لا ينبغي النظر إلي "النشر الحكومي" بمعزل عن الدور والرؤية والرسالة الخاصة التي من المفترض أن يقوم بها ويؤديها في المجتمع الثقافي. فدور النشر الحكومية لا يجب أن تشتبك في منافسة مع دور النشر الخاصة، ولا ينبغي أن تكون العلاقة بين الطرفين "تنافسية" بقدر ما يجب أن تكون "تكاملية"؛ بمعني أن دور النشر الحكومية يجب أن تلعب دوراً مكملاً لدور النشر الخاصة. ومن واقع تجارب عاينتها، وشاهدت مظاهرها في عديد من دول العالم، لا أستثني حتي الدول الأقل تقدماً من العالم الأوروبي، فمن المفترض أن هناك منظومة ثقافية عامة تديرها الدولة بشكل مباشر في بعض الأمور، أما بعضها الآخر، وبالمناسبة هو الجزء الأكبر والأوسع، فلا تبسط مظلتها عليه بشكل مباشر، بل تلعب دور الداعم والمانح والمساند بما يؤدي إلي كامل الاستقلالية لهذه الهيئات أو المؤسسات يعمل مستقلًا أو كما قيل لي يعمل علي مسافة "ذراع" من الحكومة، علي أن تكون قادرة في مرحلة ما علي الاكتفاء الكامل والاستقلال المالي والإداري عن الدولة ونفوذها. الدولة بإمكانياتها الراسخة والقديمة، تستطيع أن تقدم ما لا يستطيع الناشر الخاص تقديمه، من التصدي إلي المشروعات الكبري التي لا تهدف إلي الربح، مثلا مشروع لنشر الكلاسيكيات، معلوم أنه مشروع ضخم ولن يدر ربحاً لكن الدور الحكومية باستطاعتها التصدي لمثل هذه المشروعات بغرض أو بهدف الوصول بهذا المنتج الثقافي إلي مستحقه أو متلقيه دون النظر إلي الربح. في المقابل، لن نجد كتاباً صادراً عن إحدي الدور الحكومية، في حدود ما أعلم، وصل إلي قوائم الأكثر مبيعا المعروفة والمشهورة والمنتشرة في كل دول العالم. وبالنسبة للفئات الأكثر احتياجا للدعم والمساندة، هم شباب الكتاب والمؤلفين، الذين لا يجدون جهة أو هيئة تدعم إنتاج عملهم الأول، وبالتالي فكثيرون منهم يلجأون إلي دور النشر الخاصة للدفع بكتابهم الأول مقابل أجر معلوم.. أي النشر بمقابل مادي، وهو ما ظهر في السنوات العشر الأخيرة في عدد كبير من دور النشر الناشئة، وربما قبل ذلك بقليل، مما أدي في النهاية إلي ظهور دور نشر تمارس نشاطها في الأساس اعتماداً علي "النشر بمقابل". النشر الحكومي يجب أن يكون موجهاً لموضوعات وكتب لا يستطيع الناشر الخاص التصدي لها، مثلما سبقت الإشارة إلي نشر الكلاسيكيات مثلا، أو الأعمال الكاملة لأصحاب المنجزات الكبيرة والبارزة في القصة أو الرواية أو الشعر أو أي ما كان. وكذلك الحال بالنسبة للترجمة، فمن يستطيع غير الجهات الحكومية التصدي لترجمة أعمال كبري مثل "الإلياذة والأوديسة" أو "دون كيشوت" من لغتها الأصلية إلي لغتنا العربية، وطرحها بسعر زهيد، أو كما يسميه البعض "مدعوماً". وبديهي، أنه في ظل غياب أي مشروعات حقيقية لدور نشر خاصة للترجمة، تأتي الجهات الحكومية بمشروعها لملء الفراغ لا للمنافسة ولا للمجاملة. فما نراه في الحقيقة، وعلي الأرض، غير ذلك، مجرد "مشروع مهلهل" ليس له اتجاه واضح، جزء منه قائم علي مجاملة المترجمين بشكل مبالغ فيه دون اتجاه واضح، وجزء آخر به أعمال جيدة لكنها "يتيمة" بلا سياسة تدعمها، أو مسار واضح يمكن أن يكتسب حركته الذاتية بما يدفعه للأمام. هناك واقعة شهدتها خلال إحدي زياراتي لألمانيا، ربما تصلح كنموذج حالة لما أريد التدليل عليه أو توضيحه بهذا الشأن. أخبرني أحد مسئولي دار "زور كامب"، وهي واحدة من أعرق دور النشر الألمانية والعالم أجمع، أن مسئولة أحد مشاريع الترجمة الحكومية المصرية طلبت منهم عدداً من الكتب الجيدة بطريقة "علي ذوقكم كده"، كما قالها لي المسئول عن بيع الحقوق للدول العربية. في ذلك الوقت كان بيننا حوار استمر لأكثر من ستة أشهر لنختار عملين نقوم بترجمتهما. وكنا ما بين قراءة الملخص ثم قراءة العمل ككل والبحث عن مدي ملاءمته لخطتنا ولسوقنا، ثم بحث الثمن المناسب لذلك. ليست لدي مشكلة في أن تقوم الدولة بنشر كتب في حالتنا، لكن علي أن يتم هذا في إطار رؤية واضحة لسلسلة معروف أهدافها واتجاهها. وألا يتم هذا عن طريق "موظفين" ليسوا متخصصين ولا علاقة لهم من قريب أو بعيد بسوق النشر أو متطلبات الواقع الثقافي، ناهيك عن وعيهم بالاختلافات النوعية لشرائح القراء واتجاهاتهم.. إلخ. إن سر نجاح أي مشروع هو العمل باحترافية، فحتي التجارب الناجحة من الحكومة ينقصها الكثير؛ إما من مشاكل في الطباعة مثل ما يحدث دائمًا في سلاسل الهيئة العامة لقصور الثقافة، حتي أني أشعر أن هناك شعارا ضمنيا علي الكتب "احمدوا ربنا، علي قد فلوسكم". أو يفتقر تماما للناحية التسويقية، وهنا المفهوم أشمل من التوزيع؛ الغلاف والحجم واختيار الورق والإخراج الداخلي كلها عوامل تؤثر علي المنتج النهائي وجودته. غير أن المشكلة التي يستشعرها كل المتعاملين مع هذه السلاسل وهي عدم وجودها إلا في منافذ البيع الخاصة بهم وملقاة بشكل معبر عن حال المؤسسة ككل. وفي حالة رغبة الدولة دعم الناشر بعيدا عن الطريقة المستخدمة في آخر عشرين سنة عن طريق "مكتبة الأسرة". وهو ما يقوم بدعم كتابين للناشر وللقارئ الذي يجد أمامه تشكيلة سنوية من الكتب المختارة التي في افضل الظروف- تمثل جزءا من ثقافته ولكنه يواجه بثمن باهظ للكتب عند شرائها من المكتبات. وتم حل هذه المشكلة في الخارج بشكل مهم وبسيط وفعال، عن طريق توفير مكتبات عامة مزودة بأحدث وأهم الكتب والتي يستطيع القارئ أن يستعير منها بشكل دوري. فالناشر يستفيد بأنه يبيع لكل المكتبات العامة علي الأقل نسختين من كل أعماله (عادة هناك عدد 500 مكتبة عامة في أي بلد متقدم). والقارئ يجد أحدث الكتب بلا مقابل تقريبا (إلا ثمن الاشتراك الذي عادة ما يكون مبلغاً رمزياً) ويتعرف علي كتب أخري. والدولة تنجح في نشر وعي وعادة القراءة مع دعم الناشر بشكل عادل ومفيد.