عند سؤال الأديب الراحل «نجيب محفوظ» عن سبب تمسكه بالوظيفة حتي سن الإحالة للمعاش- رغم ما وصل إليه من شهرة ورغم أن السينما والقراء يتخاطفان رواياته قال: الأدب ما بيأكلش عيش والإبداع «حالة» وليس مهنة، وحتي يستمر إبداعك لابد أن تضمن قوت يومك! هل لهذا السبب تحول العديد من الأدباء والمبدعين المصريين إلي ناشرين ليس بالطبع لضمان نشر مؤلفاتهم، لكن باعتبارها بزنس أو مهنة لأكل العيش رغم ادعائهم غير ذلك!! سؤال يبحث عن إجابة في هذا التحقيق الصحفي.يقول الأديب الشاب «الطاهر شرقاوي»: بعد فشل الدولة في دورها كناشر وحيد اضطر كثير من الكتاب إلي الاتجاه لدور النشر الخاصة، وهنا تحدث دائماً مفارقات لعل أهمها أن دور النشر تبحث بالدرجة الأولي عن الربح وفي نفس الوقت تحاول أن تنجم بعض «الكّتاب» بهدف تحقيق هذا الغرض صحيح أن هناك دور نشر تابعة لوزارة الثقافة ومنها «الهيئة العامة للكتاب وهيئة قصور الثقافة»، ولكنها تتعرض لانتكاسات عديدة حتي أن قوائم الانتظار قد تمتد في بعضها إلي عشر سنوات، وليس من المعقول أن ينتظر كاتب عشر سنوات لنشر كتاب في الوقت الذي أدي فيه انخفاض عدد القراء إلي إحجام كثير من دور النشر المستثمرة في هذا المجال مفضلين علي سبيل المثال الكتاب الديني الخفيف وكتب المطبخ والأزياء وأبراج الحظ. أما الأديب «إبراهيم عبدالمجيد» صاحب دار الياسمين للنشر والتوزيع فيقول: إن هدف الدار يقوم أساساً علي النشر للشباب الواعد في مختلف مجالات المعرفة من آداب وفنون وتاريخ وعلم اجتماع بصفة عامة إلي جانب المترجمات، وأكد ضرورة عودة الحياة النقدية في الأدب في مصر وان علي دور النشر مسئولية كبري في انتقاء المنتج المطبوع- وألا تقبل إلا الأعمال الجيدة التي تسهم بالفعل في النهوض بالحركة الثقافية وتكشف عن مبدعين حقيقيين. وتقول الأديبة الشابة نهي محمود: لولا ظاهرة انتشار دور النشر الخاصة في السنوات الأخيرة واتجاه بعض المبدعين للاستثمار في مجال النشر وتبني بعض رجال الأعمال للمبدعين الشباب من خلال تنظيم مسابقات أدبية وجوائز مثل جائزة «ساويرس» للقصة والرواية والشعر - ما كان للعديد من المواهب الشابة ان تُكتشف أو أن يكون لها مكان علي الساحة، إضافة إلي ذلك أن العديد من الصحف الخاصة والقومية والمجلات المتخصصة قد منحت صفحاتها لإبداعات وآراء الشباب ومناقشة قضاياهم، وهو ما لم يكن متاحاً فيما مضي مما جعل تواجدنا علي الساحة الثقافية حقيقة لا تقبل النقاش أو الجدل، خاصة بعد أن استطاع بعضنا اثبات ذاته ليس علي المستوي المحلي أو الإقليمي بل ترجمت أعمال البعض إلي أكثر من لغة أجنبية- تأكيدا لاصالة إبداع هؤلاء الشباب وترسيخا لشكل جديد للرواية والنقد والقصيدة متناسب مع روح العصر ومعبر عنه وليس مستوحي من أشكال قديمة أو مدارس من قرون ماضية. ويؤكد «د. طلعت شاهين» المترجم وصاحب دار سنابل للنشر: ان من أهم معوقات النشر في مصر ارتفاع أسعار الورق والأحبار - مما يضاعف تكلفة الطباعة - في المقابل تضاؤل من أصبحت لديه رغبة في القراءة - بالإضافة إلي سوء التوزيع - لأنه في الغالب يتم دون دراسة علمية لطبيعة المنطقة ثقافياً وتفضيل الناشرين للكتب الاستهلاكية دون النظر لمستواها الثقافي.أما الخطر الأكبر في رأيي- فهو الإنترنت والمدونات، خاصة بالنسبة لصغار الشباب الذي يخطون أولي خطواتهم في الإبداع حيث يصور لهم أصدقاؤهم عبر الفيس بوك ووسائل الاتصال الإليكترونية الأخري أنهم عباقرة!! مما يفرز لنا انصاف وأرباع مبدعين علي الساحة. ويقول الأديب «السماح عبدالله» مدير دار التلاقي للكتاب: الحقيقة لقد عاني الأدباء الشبان كثيراً من النشر المؤسس - الذي يخضع لبيروقراطية الدولاب الوظيفي ورغم أن مصر تمتلك أكبر دار للنشر علي مستوي الوطن العربي «هيئة الكتاب» بالإضافة إلي الكثير من منافذ النشر الأدبي الأخري بأشكاله المختلفة مثل «مبدأ هيئة قصور الثقافة والمجلس الأعلي للثقافة» إلا أن النشر الرسمي أصبح عاجزاً ويهيمن عليه مجموعة من موظفين لا علاقة لهم بالإبداع. كما أن دور النشر الكبري الخاصة التي تمتلك أيضاً مكتبات توزيع مثل «مدبولي والشروق» فإنها تعتمد في قبول توزيع الكتاب علي الأسماء المعروفة فقط وترفض التوزيع للأسماء غير المتحققة إعلامياً. ومن هنا نتأكد أن مستقبل الثقافة في مصر يقع حالياً علي عاتق ضمير دور النشر الخاصة التي يمكنها ان تختار الجيد فقط ولا تطبع لمن يدفع أكثر حتي لا نفاجأ بسيل من الأعمال التي لا تستحق حتي القراءة أو الأعمال التي تشبه فيروس السرطان الذي يتوغل في جسد الثقافة المصرية وأخلاقياتها. ويضيف الأديب «مكاوي سعيد» صاحب دار النشر «الدار للنشر» لابد أن نفرق بين الناشر التاجر والناشر المبدع حيث إن المبدع غالباً ما يكون لديه مشروع ثقافي يحلم بتنفيذه - لذا سيحاول أن يقيم صيغة جادة تحترم حقوق المؤلفين ولا تهدر إبداعاتهم وذلك من خلال عقد ملزم وشروط مرضية للطرفين وعموماً أكبر المشاكل التي تواجه الناشرين هي «التوزيع» فالمكتبات التي توزع الكتاب تحصل علي 35% وربما أكثر من سعر الغلاف كربح صاف لها في حين أن الناشر أو الطابع أو المؤلف لا يحصل أحد منهم علي مثل هذه النسبة. ويقول الأديب «د. فهمي عبدالسلام»: للأسف إن الفساد لم يدخل حياتنا السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية فحسب - بل تعدي ذلك حياتنا الثقافية. والمصيبة الأكبر الان هو فساد «النخبة» الثقافية - أخص بذلك بعض كبار النقاد والمتخصصين الذين أصبحوا يسيطرون علي لجان القراءة والتحكيم في المسابقات والمهرجانات والجوائز الأدبية سواء داخل مصر أو خارجها - ليس فقط دور النشر الحكومية بل وصل الأمر إلي الجوائز الخاصة والعربية حيث تستعين دور النشر والمنظمات المهمة بأمور الثقافة والأدب بنفس الأسماء التي أفسدت الحياة الثقافية في مصر خلال النصف الثاني من القرن الماضي. ولذا أصبحنا نعاني نجومية مصطنعة لأنصاف مبدعين وهذه النخبة أنتجت لنا ما يمكن ان نطلق عليه «ألا قصة وألا قصيدة» بل مجموعة من الأدباء الشبان - كما يطلق عليهم!! لا خلفية ثقافية أو حصيلة لغوية أو مضمون أو مشروع - ساعدهم في ذلك بعض دور النشر التي أضافت إلي أغلفة مؤلفات هؤلاء عبارة «الأكثر مبيعاً» رغم أن الحقيقة تؤكد أن كل طبعة لا تتعدي «المائة نسخة» باستخدام المطابع المتطورة - والطريف أن هناك مؤسسات أجنبية تدخلت لترجمة أعمالهم إلي لغات أجنبية «لأهداف مشبوهة» حتي أن بعض هؤلاء أصبح محاضراً في بعض الجامعات الأوروبية أو الأمريكية عن الرواية المصرية والعربية المعاصرة لنفس الغرض أيضاً- في الوقت الذي لا يحمل فيه أية مؤهلات علمية أو إبداعية تميزه، كل هذا بفضل الدعاية المصطنعة من قبل دور النشر أو نقاد «السبوبة» المهيمنين علي سوق الإبداع في مجال الرواية والشعر والقصة القصيرة والهيئات الأجنبية التي تهدف إلي طمس الثقافة المصرية وضياع ريادتها وجذورها التاريخية والحضارية بهدف أن تكون السيادة لنظام العولمة. ويقول الأديب «طاهر البربري» صاحب «دار أرابيسك للترجمة والنشر»: إن معظم دور النشر تجتهد لتقديم صورة مميزة للثقافة المصرية والإبداع المصري وأضاف أنه لم يفكر في دار نشر لهدف شخصي - فهو لم يطبع أي عمل من أعماله في هذه الدار وإن كان قد استطاع كما يقول أن يصنع توازناً بين المنتج الاقتصادي والمنتج الثقافي، حيث إن من أصعب أشكال الاستثمار هو مجال النشر في بلد القراءة فيها علي هامش الاحتياجات الإنسانية - لذا فدور النشر في رأيي تحتاج لدعم حكومي باعتبار أن الكتاب سلعة ثقافية مهمة يجب أن تتكاتف جميعها للترويج لها جماهيرياً بمختلف الوسائل. ويقول الفنان «د. أحمد الجناني» مؤسس دار إيزيس للإبداع والثقافة والنشر: الحقيقة انني اتبني بشكل شخصي مشروعاً للإبداع في مجال إخراج الكتب التي تحمل أغلفتها رؤية تشكيلية، كما تنظم الدار ورش عمل للفنانين التشكيليين والشبان في هذا المجال بالإضافة إلي حلقات مناقشة حول الأعمال الإبداعية والقضايا والإشكاليات الثقافية. وتقول الأديبة الشابة «منال فاروق»: لا شك أن هناك مبدعين شباب قد اثبتوا وجودهم علي الساحة، لكنهم قلة حيث إن المعظم ليس لديه حصيلة ثقافية أو قراءات إبداعية لرموز ورواد وعمالقة الرواية والقصة القصيرة والقصيدة وربما الكثير منهم ليس لديه القدرة علي التمييز بين أسلوب إحسان عبدالقدوس ويوسف السباعي، أو بين يحيي حقي ويوسف إدريس علي سبيل المثال أو التباين بين أعمال بيرم التونسي وفؤاد حداد وعموماً المبدع الحقيقي سيستمر مهما وجد من صعوبات المهم أن يدعم نفسه بالقراءة لمختلف المبدعين علي مستوي العالم وعلي مدي العصور، حتي يجد لنفسه شخصية متفردة ومشروعاً إبداعياً خاصاً به، أما أنصاف المبدعين أو الذين صنعتهم الدعاية الزائفة فهم إلي زوال أكيد، وللإضافة فإن بالنسبة لاتجاه بعض المبدعين لإنشاء دور نشر خاصة، فهي في رأيي مجرد مشروع تجاري لأجل العيش والصرف علي إبداعهم الشخصي حيث إن المبدع الحقيقي في بلادنا يعتبر من أفقر خلق الله. يستثني من ذلك بالطبع بعض المبدعين الذين يتولون مناصب أو وظائف عليا في الدولة وهؤلاء بالطبع ليسوا شباناً. ويبقي تساؤل: إلي متي سيظل المبدع بين مطرقة النشر الخاص وسندان بيروقراطية النشر الحكومي؟!