عند غروب شمس كل يوم تجلس روضة في شرفة بيتهم التي تطل علي النهر، ترقب هذه اللحظة، تعيش مع أبيها وأمها في بيت يتكون من طابقين، الطابق العلوي يحوي أشياءها الخاصة، ذكرياتها، أحلامها، مرت عشرون عاما هي كل سنوات عمرها في الدنيا، كان اليوم شتاء شديد البرودة عندما امتلأ بيت العم عبد الوهاب الصياد بالناس المهنئين بقدوم العسولة روضة، أصرَّ أن يسميها علي اسم المرحومة أمه التي رحلت عنه وهو في ريعان شبابه وقبل أن تفرح به وتراه عريسا، لحظة مؤلمة في حياته عندما وجد نفسه بلا أم، بعدها بشهور رحل أبوه في حادث سيارة، تألم كثيرا عندما وجد نفسه وحيداً في الحياة. روضة كالنسمة الجميلة، إذا تحدثتْ تشعرك بأنها ملاك، الحياء يغمر روحها الطيبة، البنات في فصلها يشعرن بالغيرة منها، ضفيرتا شعرها جميلتان، عيناها الدعجاوان تلفتان الانتباه، بالرغم من كثرة مُحبيها إلا أن مسحة الحزن الشفيفة ما زالت تكسو وجهها البريء، تتأمل روضة طيور البحر وهي تسبح مستسلمة لتيار الماء المتجه شمالاً، أحياناً تغوص بمنقارها إلي أسفل في عمق الماء، طيور أخري تسكن أسفل شرفتها عندما يحل الظلام، أعواد بوص نبات الفارسي تكسو شاطئ النهر، تتخذها الطيور مأوي لها . الصياد أنا وأنا الصياد ياروضة، هل لك أن تمنحيني قلبك، أفتح أبوابه المغلقة، أدخله ويدخلني، أحكي للنهر حكاية حبنا وتقولين إن النهر يفشي الأسرار، يحكي للقمر هذه الحكايات والقمر يدور بها علي البيوت يحكيها للناس، الكل بات يلوك حكاياتنا، لماذا أيها النهر تحكي للقمر، ألم تدر أن القمر يدور علي البيوت وينثر حكايات العشاق علي مسامع الناس ؟ في هذا الصباح تصحو روضة علي حلم كئيب، تنهض مسرعة، تنظر من شرفة حجرتها، تغمرها نسمات النهر الطازجة، تغسل ماتبقي من الوجع الذي يتمدد في روحها الرائقة، تجلس في الشرفة، تبعث للنهر تحية الصباح، تسرد عليه تفاصيل الحلم الكئيب الذي حلمت به، غصة تسكن قلبها، ألم يتمدد في أعضاء جسدها، الأيام الوحيدة التي تغيب فيها عن النهر أيام الدراسة في الجامعة، يظل النهر حزيناً، تعوَّد علي إطلالة روضة له كل صباح، تمنحه الحكايات والقصص والابتسامة البريئة. في أيام الصيف أجلس تحت أشجار المانجو التي تصطف علي شاطئ النهر، يغمرني الهواء الطري الممزوج برائحة النهر، عندما كنت صغيرا أتسلق فروع الأشجار، أحضر ثمرتين طازجتين، واحدة لي والأخري أعطيها لروضة، تفرح بها، أتابع طريقة أكلها الرقيقة للمانجو، أحاول تقليدها فلا استطيع، بنينا بيوتاً من الطين والقش في هذا المكان، لازلت أحفظ تفاصيل جدرانها ومحتوياتها، كل هذه البيوت تبخرت مع أيام عمرنا ولم تبق سوي الذكريات الممتعة . لماذا تنكرين هذا الحب ياروضة وكل هذه الذكريات الجميلة ؟ الشجرة الضخمة التي تقف أمام بيتها تسكنها القماري، تبني أعشاشها فوق فروعها وسط الأوراق، تفرح روضة عندما تري القماري تطير وتعود إلي الشجرة حيث صغارها، قال أبوها إن هذه الشجرة من عمرها، كبرت معها، أصبحت روحها سارحة مع النهر، تحكي له حكاياتها، يؤنس وحدتها ويمنحها حالة من المتعة والنشوة، لا أدري إذا كان النهر يرسل لها تحياتي وولهي أم انه ينكر ذلك؟ أنهت روضة دراستها الجامعية بتفوق، تقول إنها تنتظر التعيين معيدة في الجامعة، أمها ترفض ذلك، لا تحب لها أن تتغرب أكثر من ذلك، هي وحيدتها وحبة فؤادها، أبوها لو استطاع أن يجعلها تميمة فوق صدره لفعل من شدة حبه لها، أصبحت روضة حلما جميلا لمعظم شباب القرية، كل واحد يحلم أن تكون فتاته، عندما اسمع احد يتحدث عنها، أشعر بالغيرة والضيق، لسان حالي يقول لهم: هذه حبيبتي وتاج فؤادي، ابعدوا عنها واتركوها لي، فلا استطيع الحياة بدونها، صورتها لا تفارق عيني وقت اليقظة، أبوها يعتز بي نظرا لصداقته مع المرحوم والدي، كلما ذهبت إلي مزرعتنا المجاورة لبيته أرد عليه التحية، يصنع لي الشاي الثقيل كما كان يفعل مع أبي، كنت أقول له أشجارنا ونخيلنا تحت أمرك ياعم عبد الوهاب، خذ ما تحتاجه منها . وجدت الفرصة متاحة بعد نجاحها، اشتريت علبة شيكولاتة، توجهت لبيت العم عبد الوهاب كي أقدم التهنئة، من حسن حظي أنها هي التي فتحت لي الباب، زادت دقات قلبي ورقص فرحا، وجهها مشرق كعادته، نظرة واحدة رمتني بها ثم نظرت إلي أسفل، الحياء يكسو وجهها . مبروك النجاح ياروضة . باراك الله فيك يا عمرو، شكرا علي ذوقك . ثم دلفت للداخل تنادي أمها التي جاءت مسرعة بعد أن لفت طرحتها علي رأسها . أهلا ياعمرو، ياابن الغالية، اتفضل . تربت هي وأمي رحمها الله في مكان واحد، كانت البيوت متجاورة والقلوب عامرة بالمودة والحب، كما كانت تحكي لي امي . جلست في حجرة الجلوس المجاورة للباب الخارجي بعدما وضعت علبة الشيكولاتة علي (الترابيزة)، كان العم عبد الوهاب في البحر، تبادلت الحوار مع أمها، عادت روضة تحمل الصينية عليها كوب عصير يبدو من لونه أنه مانجو، قبل أن تضعه بجواري أحببت أن أقول لها، أكل المانجو أفضل من العصير ياروضة، هل تذكرين أيام كنا نأكل المانجو معا؟ شكرا علي العصير ياروضة . جلست بجوارنا، ملاك في صورة إنسان، خصلات شعرها تبدو من الطرحة التي تضعها فوق رأسها، مازلت أذكر لون شعرها الفاحم الناعم الذي كثيرا ما رأيته يتطاير مع نسمات الهوي، تمنيت لو مسحت بيدي عليه، كلما اختلست نظرة إليها وجدت عينيها سارحة إلي أسفل، أمها تحكي لي عن ذكرياتها القديمة مع أمي . مع آخر رشفة من كوب العصير سألتها : لسة بتحبِّي القراءة ياروضة وبالذات الشعر والقصص التي كنا نحب قراءتها معا؟ نعم، القراءة سلوتي في الوحدة . ( ردت بصوت دافيء وناعم ) اشتريت مجموعة روايات سأرسلها لك . ياريت وأكون شاكرة لك . استأذنت وقمت، شعرت أن عينيها تودعني بابتسامة غمرت قلبي بالفرح، أثناء عودتي إلي البيت كانت روحي سارحة بعيدا عن جسدي، صورة روضة الخجولة الرقيقة لا تفارق مخيلتي، هي دائما معي، أتحدث معها وأداعبها . فجأة دخلت روضة عليًّ حجرتي، لا أكاد أصدق، كان شعرها مفرودا فوق ظهرها، ابتسامتها العريضة تملأ وجهها، مدت لي يداها، قبلتهما ثم سرحت في سحر عينيها، كان الطقس شديد الحرارة داخل الحجرة، سحبتها إلي أعلي البيت، القمر ينشر ضوءه الفضي، طلبت مني أن أبسط كفيّ لضوء القمر وفعلت هي كذلك، عيناك رائعتان ياروضة، القمر يقترب منّا، يحدق بشدة في روضة، يدنو منها يعانقها، يأخذها ويطير بها إلي أعلي، أصرخ منادياَ : روضة، روضة، استيقظ شقيقي عمر الذي يشاركني الحجرة علي صراخي . خير اللهم اجعله خير يا مدحت . إن شاء الله خير ياعمر . قمت من فوق سريري، شربت كوب ماء، جسدي مازال يرتعد، لا أستطيع النوم حتي الصباح، لدي شهوة شديدة لرؤية روضة، ركبت المركب الصغيرة، ومازالت تفاصيل الحلم تسكن ذاكرتي، رحت أحكي للنهر أبوح له ما يدور بداخلي، لمحت روضة تجلس في شرفة بيتهم تمسك كتابا تقرأ فيه، كانت ترتدي فستانا أخضر اللون، لم تنتبه لي عند مروري بالمركب، لحظتها شعرت أن غصة تسكن قلبي ....