«تختلف دورة حياة الإنسان عن دورة الأشجار، لأن الإنسان خلق ومن صفاته أن يغير شكل الحياة من حوله، ولم يخلق لكي يكون جزءاً مكملا للحياة مثل الأشجار.. قدر الإنسان أن يحلم وأن يغير شكل الكون وأيضا قدره أن يكون ضحية لهذا التغيير». هذه الكلمات للكاتبة الرائعة، الجميلة شكلا وخلقا الصديقة الراحلة «نهاد جاد» التي رحلت عن عالمنا منذ عشرين عاما وبقيت ذكراها.. وأعمالها الإبداعية في القصص القصيرة للكبار وللأطفال وفي مسرحيتين، وفي مقالات مدهشة، محللة سياسيا واجتماعيا، وكأنها كانت تتنبأ بما سيحدث للعالم.. أعرض بعضا من آخر مقالات كتبتها في أوائل ثمانينيات القرن العشرين في زيارتها للولايات المتحدةالأمريكية بعد سنين طويلة من دراستها في جامعة «أنديانا». أين تسير أمريكا العملاقة؟! كتبت نهاد: «كنت أشعر بسعادة وترقب وحماس لعودتي إلي الولاياتالمتحدة بعد عشرين سنة من الغياب عندما تركتها بعد انتهاء البعثة والدراسة، ماذا حدث للقارة العجوز الشابة منذ الستينيات سني الأحلام والآمال ماذا تحقق منها وماذا لم يتحقق هل تغير كل شيء كما تغيرت أنا بعد أن تركت ورائي أنا الأخري فترة الستينيات الممتلئة بالحياة والتوقعات، وبالأماني العريضة عندما كان يشعر الإنسان وهو في مقتبل العمر بأن من حقه أن ينجح في كل مايريد وأن الفشل لن يكون أبدا من نصيبه. كانت أمريكا الستينيات تريد من المستقبل أن يحمل كل جديد حتي ينسيهم كثيرا من الأخطاء ، وفقدت أمريكا الستينيات أصواتا ثائرة قوية علي الطريق مثل الرئيس «جون كيندي» وزعيم الزنوج مارتن لوثر كنج وفقدت أيضا قدرتها علي وضع خطوات جديدة لثورة أبنائها أين ستنتهي بهم الحرية؟ إلي أين تسير أمريكا العملاقة، وما الخطوة التالية للأحلام؟ أين أحلام الستينيات في أمريكا الثمانينيات؟ هل قامت أمريكا بتغيير شكل العالم وقدمت حضارة التكنولوجيا والفضاء للعالم كله ووقعت أمريكا نفسها ضحية هذا التغيير؟!» أليس هذا هو وضع أمريكا الآن كما كتبت عنه نهاد .. زمان؟! الأممالمتحدة في برج عاجي كتبت نهاد : « أتأمل مبني الأممالمتحدة ترفرف أمامه أعلام الدول الأعضاء، كان هذا المبني يوما حلم الإنسان في تحقيق العدالة وإرساء قواعد حقوق الإنسان .. لكن ماذا حدث مع السنين؟ أشعر بأن هذا المبني أصبح فندقا فخما من الممكن تسميته فندق العشرة نجوم لأن البشر الذين يصولون ويجولون في ردهاته من نجوم السياسة في أنحاء العالم لكن .. من منهم يحمل علي أكتافه هموم البشر، بصرخ بأعلي صوته يطالب بالحقوق للأرض المغتصبة ولكن لا حياة لمن تنادي.. يالضيعة أحلام الإنسان: لقد حاول الإنسان أن يبني مجتمعا مثاليا ولكن نسي أنه يحمل بين ضلوعه من الشيطان وإن كان له وجه الملائكة.. تتجه البشرية في طريق ينتهي بكوارث شديدة التعقيد وتعيش الأممالمتحدة رمز الخلاص في برج عاجي تقدم المذكرات القانونية والاعتراضات الدبلوماسية، وقد كتبت بلغة ماهرة وتفسيرات منطقية عاجزة عن حل مشاكل الكرة الأرضية التي زادت عن حدها. الرؤية من حيث أقف بجانب مبني الأممالمتحدة تشعرني بضآلة الإنسان أمام مايحدث: ثلث العالم يعاني من المجاعة.. أو علي وشك أن يعاني منها، وثلثا العالم مهدد بحروب نووية والخوف كل الخوف أن ينتهي العالم إلي كارثة.. واللجان في الأممالمتحدة في حالة مناقشة لا تتوقف، يختارون الكلمات المناسبة لوصف ما يحدث.. هذا الكلام الذي كتبته نهاد جاد في أوائل ثمانينيات القرن العشرين .. أليس هو ما يحدث الآن؟! في قبضة بوليس مصر..! كنت أتحدث مع الفنان الرسام إيهاب شاكر عن صديقتنا نهاد: كان في داخلها طفولة لألعاب ومغامرات الأطفال وطيبة لحبها للحيوانات وبسبب تلك العواطف الإنسانية وقعت في قبضة البوليس المصري بسبب الأطفال.. تذكرنا أنها كانت تكتب مسلسلا للأطفال بعنوان «عوامة العفاريت» لمجلة أطفال.. وكان ضمن الأحداث مكان في حدائق القناطر الخيرية .. فذهبت مع إيهاب لتعيش المكان وليرسمه إيهاب.. كان ذلك في أوائل ستينيات القرن العشرين وكان في ذلك الزمن ممنوع التصوير في الأماكن الحساسة في البلاد ومنها القناطر الخيرية وبينما إيهاب يرسم ونهاد تكتب .. جاء العسكر وقبضوا عليهما.. وبلا كلمة ذهبا إلي قسم البوليس .. وشرحت نهاد للضابط قصتها وقدمت له أوراق كتابتها وتحقيق شخصيتها وكذلك فعل إيهاب. بدأ الضابط بالشك ثم بالضحك عندما فهم الموقف .. لكننا لم نتذكر جيدا كيف خرجا من القسم! ؟ وفي قبضة بوليس أمريكا.! وكما وقعت نهاد وإيهاب في قبضة البوليس المصري بسبب الأطفال.. وقعت هي وزوجها د.سمير سرحان في قبضة البوليس الأمريكي بسبب حبها للحيوانات.. وقد كتب سمير هذه الحكاية بأسلوب ساخر تماما كما حكتها لي نهاد.. عندما كانا يدرسان معا في جامعة «أنديانا». كان سمير ونهاد وصديق لهما مستغرقون في المذاكرة في شقتهما التي كانت في الدور الأرضي عندما سمعوا صوت نقر علي زجاج النافذة وصوت.. ناو.. ناو.. فقامت نهاد مسرعة لتفتح الباب لقطتها التي كانت غائبة من أسبوعين.. انتفض صديقهما العربي الذي كان يخشي القطط ليخرج من بيتهما الذي ستدخله قطة.. عندما شاهدته القطة مندفعا من الباب خافت وجرت.. جرت خلفها نهاد وهي تناديها وعندما وجد سمير أن نهاد تجري في الطريق المظلم بملابس البيت بعد منتصف الليل خاف عليها من عاطلي الشوارع فجري وراءها . وجري صديقه العربي وراءه ليعيده للبيت. وأصبح المنظر كما وصفه سمير : قطة تجري في الشارع المظلم وزوجتي تجري وراءها وأنا أجري وراء زوجتي وصديقي يجري ورائي إلي أن وقفت زوجتي تحت شجرة عالية في الغابة التي كانت تقع علي مشارف الجامعة ونظرت إلي أعلي الشجرة تبسبس للقطة في رجاء وتوسل ووجدتني أساعد زوجتي فأبسبس أيضا .. أما صديقنا فوقف جامدا متصورا أنني وزوجتي أصبحنا في عداد المجانين. إزاء ذلك المشهد وصلت ثلاث سيارات بوليس أحاطت بالمكان وسلطت علينا كشافاتها ونزل منها ضباط مسلحون أخذوا ثلاثتنا وأداروا ظهورنا إلي جذع شجرات وقاموا بتفتيشنا بحثا عن أسلحة.. وقد أنقذهما الصديق العربي الذي كان في سترته بطاقته الدراسية والإقامة.. وشرح لهم سمير الموقف ليعلموا أخيرا أنهم يريدون القطة من فوق الشجرة.. وأن زوجته سيدة كاملة المعاني ولا يعيبها إلا شيء واحد وهي إنها مجنونة حيوانات بكل أنواعها وأنها تكلمهم مثل د. دوليتل ولما تحققوا من بطاقة صديقهما وبوجود القطة فوق الشجرة صعد أحدهم برشاقة متمكنة إلي الشجرة وأحضر القطة التي زاد زعيقها وحملتها نهاد فرحة. رئيسة عصابة للخير.. هذه الصفة أطلقها عليها زميل عمرنا الصديق الكاتب المتميز صبري موسي .. هكذا قلت للصديق الفنان إيهاب .. أثناء تبادلنا حكايات ومواقف من ذكرياتنا الجميلة مع الكاتبة المبدعة نهاد جاد.. وفجأة تساءل إيهاب: لماذا نتذكرها اليوم بشدة؟ قلت سارحة: لقد رحلت في آخر هذا الشهر يونيو منذ عشرين عاما قال بشيء من الروحانية: إنها معنا الآن تذكرنا والغريب أنه قد حدث نفس هذا الحدث منذ عدة سنوات مع زوجها الراحل د. سمير سرحان.. فقد كتب مقالا في جريدة أخبار اليوم عن زوجته الراحلة نهاد جاد ، نشر بالصدفة الغريبة يوم رحيلها.. وقد قابلته بعد يومين في مكتبه بالهيئة العامة للكتاب حيث كان رئيسها وقلت له: هل تدري أنك كتبت عن نهاد في يوم ذكري رحيلها، تعجب وقال متأثرا إنه لم يتذكر ذلك اليوم لكنه يتذكر أنه قد رآها في أحلامه لعدة أيام سابقة.. قلت: «ربما جاءتك لتذكرك .. وربما عقلك الباطن تذكر.. وربما قلبك تذكر لأنها الوحيدة التي تسكنه» نظر إلي طويلا.. ولمعت عيناه بدموع. لقد كتب الكاتب الأستاذ الراحل سمير سرحان عن قصة لقائه وحبه وزواجه من العزيزة الراحلة نهاد جاد في كتابه «علي مقهي الحياة» من أجمل كتب السيرة الذاتية التي قرأتها. حكايات كثيرة عشتها مع نهاد العزيزة منذ بداية صداقتنا في أواخر خمسينيات القرن العشرين. كم من حكايات ثقافية وعملية وطريفة .. كم فرحنا .. كم حققنا وكم فشلنا.. كم ضحكنا .. وكم بكينا.. وكم حزنا .. ذلك الحزن النبيل الذي لايوجد مثله الآن. وكما أطلق عليها الصديق صبري موسي إنها كانت رئيسة عصابة للخير يتذكروها الكتاب والصحفيون الذين احتضنتهم بأمومة وأرشدتهم بأستاذية عندما كانوا شبابا في أول عملهم في مجلة «صباح الخير» وقد أصبحوا متألقين ومتألقات الآن سواء في مجلتنا أو .. خارجها.