ترحل عنا أيها الصديق، وأنت في صفاء ما كنت دائماً بمثابرة ترعاه: حرية الشاعر. تلك هي الحرية التي سافرت إليها بتؤدة وصبر وعناد وكرامة في قصيدتك وحياتك. حرية أن تكون في أمة تريد أن تكون. أصداء تاريخ القصيدة تتردد فيها، مثلما تتردد أصداء المنفي والعذاب والعزلة التي عانيت كثيراً منها. ولم أكن أراك متبرماً من الحياة بقدر ما كنت أجدك حريصاً علي حماية حريتك. هل أقول إن ما بقي لنا منك هو الذكري؟ أبداً. أنت الحاضر اليوم، كما كنت علي الدوام حاضراً بأعمالك التي تعلمنا منها، نحن جيل السبعينيات، في أكثر من أرض عربية، وحاضراً بمواقفك العربية ذات النفس المقاوم، منذ أيامك الأولي، وحاضراً بصداقاتك لشعراء وكتاب تبادلت وإياهم أمانة الكلمة ومعناها، وحاضراً بصبرك الذي لم يعرف تخاذلا أو ندماً. ترحل كعادة الكبار، الذين لا يودعون لأنهم باقون، من أجل القصيدة ومن أجل العالم الذي نحب أن يكون. صمتي بعد سماع نعيك هو صمتي مع كل الذين أحببتهم ورحلوا. وفي الصمت كل ما لا يقال بحق الكبار. وأنا قريب منك، في المنوفية، عبر البريد الذي كان يقرب المسافات بيننا. كتب ورسائل ودعوات. كأن ما كتبته يتكلم في نفسي الآن، وفي نفس كل الذين قرأوك وأحبوك، بدون تقسيط. فأنت الذي بحثت عن بذرة الفكر في القصيدة وحميت الكلمة من البلادة والخيانة في آن، تحضر بيننا ونحن من بلاد لا نقدر علي رسم خريطتها. عندما التقينا أول مرة في ليبيا سنة 1977، وكان ذلك بمناسبة مؤتمر لاتحاد الكتاب العرب، كنت أهديتني ديوانك "كتاب الأرض والدم" الصادر سنة 1972 في بغداد. كنت من قبل تعرفت علي قصائدك من خلال مجلة الآداب ودارها التي كان صدر عنها ديوانك "ملامح من الوجه الأومبيذوقليسي"، كما تعرفت عليك في مجلة "مواقف" عندما نشرت في عددها الثالث "عن الحسن بن الهيثم". ثم توالت اللقاءات في بغداد نفسها وفي القاهرة بعد عودتك من المنفي وفي المغرب وباريس، التي كانت آخر مرة استمعت فيها إليك وأنت تقرأ قصائدك في أمسية أقامها لك المركز الثقافي المصري صحبة الشاعر برنار نويل. مرات كنا فيها نجدد الحديث عن القصيدة العربية وعن قصيدتك. وكنا لا نتوقف عند ما يفسد الحياة. شيء من التواطؤ كان بيننا ونحن نتحرر في كلامنا من أمراض لا تزال تفتك بخطابات ثقافية تنتصر لنفسها. وفي القاهرة كانت لنا الصداقات المشتركة مع سعيد الكفراوي وعبد المنعم رمضان ومحمد سليمان. بمجرد ما كنت أصل أسأل عنك ولا تتباطأ في الالتحاق بنا. عندما صدرت أعمالك الشعرية في ثلاثة أجزاء كنت فرحاً بها. وفي الدارالبيضاء أهديتني نسخة وكأنك تمنحني نفسك. شكرتك مرتين: لأنك أقدمت علي جمع الأعمال باختيارك وأصدرتها في طبعة أنيقة، ولأنك أهديتني نسخة منها. في مفتتح الجزء الأول "من مجمرة البدايات" كتبت كلمة مكثفة تقدم بها الأعمال، مما جاء فيها "أخليت المجمرة من رماد كثير، واستبقيت بعضاً من حصي التذكر الحميم". تلك هي طريقتك لا في وضع الأعمال الشعرية، بل في كتابتك. كنت تخلي المجمرة الشعرية من رماد كثير كان يغطي جمرة القصيدة. طريقة شاعر أحب الشعر والفلسفة في آن، فكنت وفياً لعتاقة شعرية تتردد عبر التاريخ. باتباع الطريقة نفسها كانت قصيدتك نسيج وحدها في مصر. وكم أحببت كلمة "الطمي" لديك كما لم لو كنت أول من كتبها وأخرجها من أعماق النيل. فيها كنت أسمع أغنيات الفلاح المصري وكنت أتلذذ بعذوبة نهر مصر، الذي مجدته أناشيد الفراعنة. اقترب منك الجيل الجديد في مصر كما اقترب منك الجيل نفسه في أراض عربية. ففي قصيدتك بحث عن تلك الجمرة التي تريد لها أن تظل متوقدة، تضيء ولا تحرق. ومن ثقافة الريف المصري جمعت قيم النبالة مثلما تعلمتها من حكماء اليونان والعرب والغربيين الحديثين. قصيدتك هي هذا المجموع المتفاعل بعضه مع بعض، في تركيب هو لك. حتي أصبحت قصيدتك ممهورة بإمضاء لا يلتبس علينا، نحن قراؤك الأوفياء. أكثر من ذلك، كان لمواقفك ما سيظل مدرسة في المحافظة علي معني الشاعر. وأنا، هنا، أعترف لك مرة أخري بالفضل، كبيراً وجميلاً. كلمتك الحق كانت بداية كتابتك وصورة حياتك. وفي الحالات الصعبة كنت تنأي عما يعدي القصيدة ويعدي الموقف. لذلك كانت إقامتك في المنوفية عنوان اختيار حرية لا تشيخ في حياتك. وجميع أصدقائك يعرفون. حقا، إنك الشاعر النبيل. كلمة فيها ما يبقي لنا من كتاباتك ومواقفك، من طريقتك في حياة أنت رسمت حدودها بحرية وسهرت علي تلك الحدود، ضد ما يغري وما يفسد. وبك وبمثلك يحق لنا أن نفخر بأن نكون شعراء. وها أنت، اليوم، بعد رحيلك تعود إلينا، لنقترب منك ونتعلم في حياة لم تعد تقبل بحرية الشاعر كما لم تعد تقبل بمعني الكلمة ومعني القصيدة. ليكن. يحسن بنا أن نقرأ ما كتبت وما كنت، بالعين التي أحببناك بها، وبعين ما لم نكن نعرفه أيضاً. " لا بأس إذا عشنا في التيه كطير مذبوحْ"، كما كتبت في إحدي قصائدك الأولي سنة 1957. تلك حكمة قصيدتك وهي تظهر في دواوينك، ملحة علي ما يجب أن تكتبه القصيدة، حيث " لا كلام سوي دويّ الإرث من ليل القراءة في/ دم التعذيب والهول المؤبد في بلادك والخنوميين/ في منفي التواريخ التي أبقت دم القتلي يبيد/ ويستعادْ...". تلك هي كلمتك، مشرقة في طريق حريتك التي صممت بنفسك مسالكها في حياة كان سجن طرة سنة 1991 أحد معالمها. وكنت الفرح بما تريد للقصيدة ولحياتك، حياتنا. وفي كل مرة، أنت الشاعر النبيل.