الثورات علامات فارقة في تاريخ الأمم، خلال مسيرتها، تعيد الشعوب صياغة الزمان و المكان وصيرورتهما. و من العسير الوقوف علي التغيرات التي تترتب علي الثورة قبل أن تكتمل و مرور فترة زمنية كافية تسمح بتحليل الأحداث و تداعياتها المكانية. وعلي الرغم من مرور ثلاثة اعوام فقط علي ثورة الخامس و العشرين من يناير 1102، الا إن معايشة الفصول الاولي منها تمكننا من رصد بعض تداعياتها العفوية علي جغرافيا المدينة، تجسدت بشكل صريح في تشكل وعي ونشأة أواصر جديدة عند الأفراد والجماعات أثرا علي تغير العلاقات بينهم و بين الفراغات العامة المفتوحة في المدن، فأعادوا تشكيل هيراركيتها ووظائفها و أضفوا عليها معاني و قيما جديدة من خلال تواجدهم فيها و تعبيرهم عن غضبهم و طموحاتهم في التغيير. والفراغ العام المفتوح هو »الحيز المكاني الذي يوجد بين المباني في المناطق الحضرية، تتحقق فيه عدة شروط أساسية، بأن يكون مكانا متاحا لجميع المترددين، ومكان للقاء و التفاعل والجلوس في بيئة طبيعية، معبرا بذلك عن الصورة الذهنية للمدينة التي تنطبع في الخيال الجماعي. و يتسم الفراغ العام بديناميكية عالية، وله أغراض متعددة، ثقافية، سياسية، إقتصادية ».1 ويعتبر وبامتياز مكان« مقاومة الإقصاء وممارسة الحرية«2. وفي بعده العمراني، فإن الفراغ العام يضم أشكالاً متنوعة ومتدرجة من الأماكن، كالميادين، الشوارع،،واجهات المجاري المائية والحدائق العامة. أما في أبعاده السياسية والسوسيولوجية، فهو الوعاء أو المحتوي لتلاقي والتحام الأفراد والجماعات والحشود في حالات الاحتجاج أو الاحتفاء بغض النظر عن انتماءاتهم الطبقية أو الأيديولوجية. غدا بعد ثورة 52 يناير،« موضعا لتجسيد وعي جديد تكون في المدينة، وتغذي بمعانيها، قاد -فيما قاد- الي تجربة الغضب الجماعي طامحا الي التغيير«. 3 ولا تقتصر هذه المعطيات الجديدة علي المدن المصرية فحسب، ولكنها طالت كل مدن الثورات العربية. مما يحذو بنا الي تبني فكرة نشأة البوليس Polis، أي إطار الممارسة السياسية محولة الفراغات العامة، وعلي وجه الخصوص الميادين المركزية، الي مواضع لتمثيل الشعب أو عموم الناس و أماكن أساسية لاجتماعاتهم ولإقامة احتفالاتهم و للتعبير بأشكال مختلفة عن آرائهم و إحتجاجهم وغضبهم في تماهي مع فكرة الأجور أو الفورم في المدن الإغريقية والرومانية التي كرست معاني كالديمقراطية والمواطنة، متحققة بشكل غير مسبوق في مدن الربيع العربي. وإذ لن نتناول هنا البعد العمراني للفراغ العام، حيث لم يصبه تغيير يذكر، عدا آثار الحريق التي طبعت واجهة مبني الحزب الوطني القديم، إثر محاولة إضرام النار فيه مساء جمعة الغضب 82 يناير 1102، وتمثل التغيير الثاني في هذه الحوائط الخرسانية القبيحة التي أقيمت في بعض شوارع منطقة وسط القاهرة للحيلولة دون وصول المحتجين الي منشآت سيادية، كمربع الوزارات و مجلس الوزراء و البرلمان ووزارة الداخلية و السفارة الأمريكية.4 سوف نلقي الضوء علي التغيرات التي طالت العلاقة الجدلية بين الفراغات العامة و المواطنين في بعديها الزماني والمكاني في مدينة القاهرة ، متبنين تصنيف هذه الأماكن طبقا لموقعها الجغرافي ومورفولوجيتها ومركزين علي أربعة أنماط هي: الميادين، ساحات الوقفات الاحتجاجية، تشمل سلالم وأرصفة النقابات و المنشآت السيادية، المحاور الطولية و تشمل الشوارع وواجهات المجاري المائية و الكباري. الميادين للميدان أهمية كبيرة في الحضر، فهو صرة المدينة أو الحي أو الكوميونة ومركزها الحيوي، و هو عقدة التقاء لعدة محاور تتدرج في أهميتها، وناقل للحركة تصب فيه و يعيد توزيعها، أي أنه بمثابة القلب الذي يتحكم في عملية الدورة الدموية في جسد الإنسان، يصله الدم ويعيد ضخه من خلال شبكة من الشرايين والأوعية ، وهو أيضا بؤرة تجمع بصرية لمنشآت معمارية فريدة في تصميمها أو وظيفتها تصنع غلافه الذي يستمد منها سماته التشكيلية والمعمارية والعمرانية. ويمكن تعظيم شأنه بإقامة تمثال يمثل شخصية عامة أثرت في مجريا ت الأمور في الفراغ الأرحب و الأوسع، الوطن، في أي من المجالات السياسية أو الثقافية فتضفي عليه قيمة رمزية تضاف الي قيمه الوظيفية والفنية والتاريخية، في ارتباط تلك الأخيرة بالأحداث التي وقعت به و دلالتها لسكان المدينة. و يمكن للميدان أن يكون مجرد ساحة مغلقة أمام حركة السيارات تطل عليها منشأة دينية هامة، أو قصر أو أي مبني عام يعرف بها و تعرف به. و تتدرج الميادين في حجمها ووظيفتها و أهميتها و شكلها و موقعها الجغرافي و مدي تفاعل العامة معها. وأهم هذه الميادين في مدينة القاهرة، و التي ارتبط اسمها بالثورة، ميدان التحرير- وهو مركز المركز- ميادين عابدين والسيدة زينب، وطلعت حرب وتعتبر من الميادين رئيسية، بالإضافة الي، ميادين عبد المنعم رياض، ، مصطفي محمود، والعباسية. وهي من الميادين الثانوية. لا يعتمد هذا التصنيف بين رئيسي وثانوي علي المساحة، ولكن علي دلالة المكان بالنسبة للسكان ورؤيتهم له و تفاعلهم معه. فهذه الميادين لم تنشأ في الأصل لتكون مجالا لتجمع العامة سواء بالاحتفال أو الاحتجاج، ولكنها اكتسبت تلك الوظائف بتواجد الناس فيها وتدفقهم عليها و تجمعهم فيها في سياقات تاريخية محددة، فرسخت هذه الوظائف في بعضها، وعبرت البعض الآخر دون أن تترك أي بصمة. و علي الإطلالات علي بعض ميادين للغضب قامت بادوار مهمة، إستنادا الي الأدب وشهادات الباحثين تمكننا من التوقف عند بعض المشاهد التي تتيح التعرف علي تطور هذا الدور وانتقاله من موضع الي آخر في ارتباطه مع ديناميكية التحضر و العلاقة بين الميدان بالمدينة وحركة الطبقات الاجتماعية فيها وتشكل وعيهم بها. في رواية أولاد حارتنا لنجيب محفوظ، كان ميدان بيت القاضي هو مسرح الإحتجاج ، حيث تخترقه مظاهرة يموت فيها الطفل سلومة (ص 53) في إشارة دالة و تماهي مع الطفل جافروش الذي قتل أثناء الكوميونة في باريس في رواية فيكتور هوجو، البؤساء)- كما يشير الكاتب الي مظاهرة أخري يموج بها نفس الميدان (ص 61) في حديث الصباح والمساء. وفي سياق تاريخي آخر، إبان ثورة 9191، تنتقل ثورات الغضب الي ساحات أخري، ميدان السيدة زينب و المحطة (رمسيس حاليا) حيث يستشهد فهمي الطالب الثائر في بين القصرين (ص 375). كما تتجه الحشود الغاضبة أيضا الي ميدان عابدين، (نفس الصفحة) 5. سبقت إذن كل تلك الميادين، ميدان التحرير كساحات للغضب، وإذ تواري دورها بعض الوقت لصالح هذا الأخير، الذي سيصبح الوعاء الرئيسي والمحرك الأول لأحداث تاريخية فارقة سالت علي أرضه خلالها دماء المصريين ، فسوف تعود مرة أخري لتقوم بأدوار ثانوية و مكملة لدور الميدان المركزي، التحرير. نشأ هذا الميدان في منتصف القرن التاسع عشر في إطار خطة تحديث القاهرة التي نفذت في عصر اسماعيل، وسمي ميدان الإسماعيلية. ولم يكن في البداية في قلب القاهرة الجديدة و لكن علي تخومها. في حين كان ميدان الأوبرا، الذي كان بمثابة المفصلة بين شطري القاهرة العثمانية والقاهرة الخديوية هو المكان الرئيسي لتجمع العامة لسماع خطبة العرش أو إبان احتفالات الأمراء بأعياد ميلاد أو زواج أبنائهم في حديقة الأزبكية القريبة. لم تكن ساحة ميدان التحرير تستعمل سوي للحشود العسكرية لقاطني ثكنات قصر النيل من الجنود البريطانيين. وقد احتلت تلك الثكنات قصر النيل، الذي شيد ضمن مجموعة من القصور التي إقيمت في عصر الأسرة العلوية حول ميدان الإسماعيلية، كقصر إسماعيل و قصر الوالدة، و كلها إندثرت، وأقيم مكانها منشآت حديثة. وتشير المراجع التاريخية أن ميدان الإسماعيلية بدأ يكتسب وظيفته كقبلة للثوار ومسرح لحوادث مهمة ومؤثرة في تاريخ الوطن مع بداية توسع المدينة علي الضفة الغربية للنيل وبانتقال جامعة القاهرة اليها، فاصبح يحتل منطقة متوسطة بين ضفتي النهر ومعبراً للطلبة في تدفقهم نحو قصر عابدين، أو بيت الأمة في المنيرة أو مقر المندوب السامي في جاردن سيتي. آلا إن المعبر تحول الي ساحة أساسية للاحتجاج و للمصادمات بدءاً من عام 5391. كان ذلك في صباح الثالث عشر من نوفمبر، يوم عيد الجهاد، حيث أعلن زعيم حزب الوفد النحاس باشا أنه سيصدر قرارات مهمة للرد علي الوضع الدستوري المتجمد الذي كانت تعاني منه البلاد آنذاك، أي تعطيل العمل بدستور 0391 ورفض العمل بدستور 3291 الذي تم التوافق عليه. انطلقت مسيرات الطلبة من جامعة فؤاد الأول لبيت سعد زغلول، ودارت بينها و بين الجنود الإنجليز في الميدان معركة أصيب خلالها بعض الطلبة. و بعد تفرقهم، تدفق تلامذة مدرسة السيدة زينب التي خرجت بتوها للميدان تهتف للدستور لتدور معركة أخري، وتدشن بالتالي مولد ميدان التحرير كساحة جديدة في القطر المصري للغضب والحرية و التغييرممتدة الي يومنا هذا. 5 وقد تكررت نفس مشاهد المواجهات في يوم الجهاد 12 نوفمبر 6491، إثر فشل المفاوضات مع الإنجليز، ُأضرب المصريون وانطلقت المظاهرات السلمية في أكثر من مكان في القاهرة واتخذت من ميادين لاظوغلي، الأوبرا، المحطة و فم الخليج، أماكن تجمع لها،أما مظاهرة التحرير فقد انتهت بأحداث دامية حيث صدمت سيارات الجيش الإنجليزي المتظاهرين وأطلق الجنود عليهم الرصاص من الثكنات ومن أعلي أسطح المباني كما يروي لنا فاروق القاضي بعض وقائعها « كنت لم أزل في ميدان الإسماعيلية، وسط الحشد الذي توجه الي شارع سليمان ، ولكننا لم نكد نخطو بضع خطوات داخل الشارع حتي انطلقت رصاصات من إحدي البنايات فوق محل للموبيليا، كشك أو بنترومولي، وسقط بجواري شهيد، فاندفعت الجموع داخل البناية للفتك بمن أطلق النار» 6. كانت حصيلة هذا اليوم 51 شهيدا وعشرات الجرحي. و تجدر الإشارة هنا، الي بزوغ دور شارع سليمان باشا في هذه المواجهة، كمكان للتشاحن والاقتتال، الدور الذي سوف يلعبه شارع آخر يصب في الميدان، و هو محمد محمود بدأ من 61 نوفمبر 1102. ظل ميدان التحرير، يقوم بدوره كساحة للاحتجاج السلمي أو الغاضب لمدة خمسة عشر عاما، و قبل أن يوضع بين قوسين بدءاً من عام 25 استقبل مسرحه أول مليونية، فيما عرف بمظاهرة موكب الشهداء الصامتة، يوم الأربعاء 41 نوفمبر 1591علي خلفية مطلب أساسي للقوي الرطنية التف حولها جموع الشعب المصري بكل أطيافه، وهو رحيل المحتل البريطاني، وفي نفس الوقت تخليد ذكري الشهداء الذين سقطوا بعد أن أعلنت مصر الكفاح المسلح ضد المحتل و تحللت من قيد المعاهدة المصرية البريطانية. 7 بهذا الحشد الهائل أسدل الستار علي آخر فصول تفاعل الرفض الشعبي إبان الحقبة الليبرالية الديمقراطية في مصر مع ساحات التغيير. بمجيء ثورة 25 و إحكام قبضة العسكر علي الحياة السياسية و منع التجمهر والاحتفال الا بأمر الحاكم، انحسر دور الميادين بالاحتفاء بالرموز الدينية، بإقامة الموالد، أوالموتي من الرموز الوطنية بتشييعهم الي مثواهم الأخير. في هذا السياق أصبح ميدان التحرير ساحة الجنازات الكبري بامتياز. وطالته العديد من التغيرات المورفولوجية ليصبح أكثر تعبيرا عن الثورة و مجسدا للنهج الأيديولوجي الجديد لها في محاولة لطمس كل آثار المحتل البريطاني وأيضا سلالة الأسرة العلوية ممن جلسوا علي عرش مصر وإعتبرتهم الثورة مسئولين عن خرابه، بدأ من إسماعيل الذي أدي بذخه اليي وقوعها تحت مظلة الهيمنة الإقتصادية للقوي العظمي، فرنسا وإنجلترا، مرورا بتوفيق الذي مكن الإنجليز من وضع مصر تحت الإنتداب لبريطاني وإنتهاءا بفاروق الذي أفسد الحياة السياسية و كان لعبة في يد المندوب السامي البريطاني... كل ما سطر في كتب التاريخ بعد الثورة قبل أن تعاد قراءته وصياغته بشكل يتسم بقدر أكبر من الموضوعية والنزاهة. بداية تم تغيير اسم الميدان للتحرير بدلا من الإسماعيلية، وذلك في يناير 3591، خلال احتفالية كبري أعدها الجيش في الميدان بمناسبة مرور ستة أشهر علي قيام الثورة أطلق عليها مهرجان التحرير، استمرت أربعة أيام توحد خلالها الجيش و الشعب وعاشا حالة من التوهج الثوري 8 قبل أن تنهي منظومة الحكم الجديد دور الميادين كساحات للغضب أو البهجة لعدة عقود. ثم تغيرت معالم الميدان بإضافة بعض المنشآت الهامة محل منشآت أخري، فشيد المجمع، هذا لمبني الإداري الضخم الذي يحمل الي حد كبير سمات ما أطلق عليه العمارة الستالينية (1591،معماري محمد كمال إسماعيل)، في موقع قصر الإسماعيلية القديم، ثم أزيلت الثكنات وشيد مكانها فندق الهيلتون (8591، والتون بيكر) و مقر الجامعة العربية (8591 محمد رياض) وجاور مقرالحزب الاشتراكي المتحف المصري بواجهة تطل علي النيل و أخري علي الميدان . وتم الاحتفاظ بمبان أخري كعمارات سارباكيس و بحري التي تمثل غلافه الشرقي، و مقر الجامعة الأمريكة والقاعدة الحجرية للتمثال الذي كان من المفترض أن يقام عليه تمثال إسماعيل. و في الستينيات، أعيد تخطيط الوسط ليحتوي علي حديقة كبري تتوسطها نافورة للمياه، ثم أنشئت محطة مركزية لأوتوبيسات النقل العام أمام المدخل الشرقي لفندق الهيلتون. وفي عام 0791 تم هدم فيللا هدي شعراوي التي كانت تحتل ناصية الميدان في تقاطعه مع شارع قصر النيل و كذلك السجن المقابل له و الذي كان في الأصل مبني يتبع دائرة خديجة هانم طلعت ثم تحول الي سجن أثناء محاكمة عرابي عام 2881. ومازالت هذه الأراضي فضاء الي يومنا هذا. تقلصت وظائف مركز المركز، محتفظا بوظيفتين فقط، كعقدة انتقالية للحركة الميكانيكية وإعادة توزيعها، بالإضافة الي التوقف، والجلوس والنزهة، خاصة في ليالي القاهرة الصيفية الساخنة. أما الميادين الكبري الأخري كعابدين والسيدة والمحطة، فقد ظلت السيدة تحتضن المولد كل عام كما في سابق عهدها، ولم يعد لعابدين شأن يذكر، بعد رحيل الملك و تحويل بعض أجنحة القصر الي وزارات ثم الي مقر لمحافظة القاهرة و تحويل القصر في فترة لاحقة الي متحف. بالنسبة لميدان المحطة، أو رمسيس، الذي ازدان بنافورة تحت أقدام التمثال الجرانيتي الشامخ، فبالإضافة الي وظيفته كعقدة مرورية كالتحرير، وبوابة الدخول الرئيسية للمدينة للقادم من الشمال و مدن الدلتا، ظل مكانا للفراق والتلاقي. وعزل ميدان الأوبرا تماما، وخاصة علي إثر حريق القاهرة الذي دمر فندق شبرد تدميرا كاملا، وانتقال مركز الثقل الجغرافي بشكل نهائي الي ميدان التحرير لموقعه المتوسط بين الأحياء القديمة للضفة الشرقية والأحياء الناشئة في الضفة الغربية للنيل والتي أصبحت تضم الدقي والجيزة و العجوز ومدينة المهندسين والصحفيين وأعضاء هيئة التدريس، بلإضافة للتوسعات العشوائية في بولاق الدكرور وإمبابة. ثم كان أن إستعاد ميدان التحرير عافيته و توهجه ليعود مرة أخري قبلة للثوار في لحظات خاطفة قبل ثورة يناير 1102. كانت المرة الأولي في عام 2791 في عصر السادات، إبان الحركة الطلابية عندما تم القبض علي الطلبة فجر يوم من أيام فبراير الباردة، فخرجت جموع الطلاب ثائرة تطالب بالإفراج عنهم و تحقيق مطالب الحركة التي كان علي رأسها كسر حالة اللاحرب واللاسلم والإسراع بالدخول في حرب لتحرير الأراضي المحتلة من إسرائيل منذ عام 7691 التف الشعب حول هذه المطالب و توجه الي الميدان للتضامن مع الطلبة، وظلوا مقيمين فيه عدة أيام، و ترصد رواية إبراهيم أصلان مالك الحزين، تفاصيل مرجعية كثيرة عن الميدان زمن اعتصام الطلاب المحتجين فيه، و التفافهم حول القاعدة الحجرية ولافتاتهم و هتافاتهم و حركتهم بالآلاف كأنها»الكائن الخرافي الواحد« (ص.27).9 عاد هذا الكائن الخرافي الواحد مرة أخري الي الميدان بعد أربع سنوات، في مشاهد الغضب الجماعي المحتج علي غلاء الأسعار، فيما سمي بانتفاضة الخبز، في 71 و 81 يناير 7791. و قد عبر عن هذا الغضب الدفين الذي تحول الي رد فعل جماعي معلن ومشهود مواجه بعنف مشهود أيضا، في مكان محدد ، إدوارد الخياط في رواية رامة و التنين بقوله : »ضجيج المدينة يتدفق دفعة واحدة، مختلط النبرات و الطبقات و الإيقاعات» (ص 611) 01 مرت عشر سنوات قبل أن يمتلئ الميدان بجموع من المثقفين و النخبة و الفنانين، جاءت تحتفل في مارس 2991، بإعادة إفتتاح قهوة وادي النيل بعد تجديدها علي إثر التفجير الإجرامي الذي أصابها في فبراير من نفس العام. و كانت الاحتفالية الوحيدة في مكان عام التي سمح بها نظام مبارك و غني فيها محمد نوح، وعزف علي العود نصير شمة و إنتهت في الوقت المحدد لها وظل الآلاف يتمنون أن تتاح لهم فرص أخري للتجمع والتواصل والانفعال والغناء ككائن واحد، في مكان مفتوح، بدون لقاء مسبق، بدون سابق معرفة وبدون دفع رسوم. الساحات الاحتجاجية، إرهاصات ماقبل الثورة كان يجب أن ننتظر عام 5002، تاريخ نشأة حركة كفاية، لكي ينطلق الغضب الدفين هادرا مرة أخري و تعيد الجموع الرافضة خلق و تشكيل ساحات جديدة بتواجدها واحتجاجها فيها. كان لسلالم نقابة الصحفيين الريادة خلال هذا المخاض الثوري الذي استمر ست سنوات، وكانت أحيانا جموع التظاهرين تتدفق علي شارع رمسيس أو نقابة المحامين القريبة، وبدأنا نشاهد عربات للأمن المركزي مرابطة طوال الوقت في هذه المنطقة، وكانت الوقفات الإحتجاجية تواجه بعنف بالغ، من قبل قوات الأمن التي كانت أعدادها تفوق عشرات المرات المتظاهرين. لم يحد هذا القمع من استمرارها وتوسع نطاقها الجغرافي. ثم ظهرت ساحة جديدة متمثلة في الرصيف المتسع في ميدان طلعت حرب، أمام مكتبة مدبولي، أي في الركن الجنوبي الغربي للميدان، نادرا ما كانت تتخطي هذه الحدود، نظرا لمحدودية عدد المحتجين الذي لم يتخط بضع مئات. لم تكن هذه الإحتجاجات تجمع كل أبناء الوطن، أو أناسا لا تربطهم علاقات مسبقة، بل كان الجميع يعرف بعضهم البعض، لانتمائهم الي شريحة المثقفين و النخبة السياسية. و بحلول عام 7002، ظهرت ساحة جديدة متمثلة في رصيف مجلس الوزراء، حيث تم احتلاله من قبل موظفي الضرائب العقارية للمطالبة بمساواتهم في الأجر بموظفي وزارة المالية، و بشكل غير مسبوق في تاريخ الاحتجاجات الاجتماعية في مصر، اعتصم هؤلاء المحتجون لمدة تزيد عن ثلاثة أسابيع. وتضامن معهم سكان الشوارع المحيطة وأصبحوا يأتون اليهم بالبطاطين والطعام، و يقضون معهم شطرا من ليل شتاء ديسمبر البارد. وانتهت الحركة الاحتجاجية التي بدأها 0004 متظاهر من موظفي الضرائب، بإنشاء نقابة مستقلة لهم و بتدشين مكان جديد للغضب سوف يشهد معركة دامية أثناء المرحلة الانتقالية التي تولي فيها المجلس العسكري حكم مصر، فقدت فيها مصر زهرات شبابها التي تفتحت أثناء الثورة ومنهم، الدكتور علاء عبد الهادي و الشيخ عماد عفت، و علي إثر تفجير كنيسة القديسين في الأسكندرية عشية أول يناير 1102، ظهر شارع و دوران شبرا كأماكن جديدة للاحتشاد. حتي جاء يوم 52 يناير، ليستعيد ميدان التحرير سابق عهده. ولكنه لم يكن المكان الوحيد في هذا اليوم الذي ضم كل المحتجين، فقد تجمع العشرات علي سلالم محكمة النقض التي تحتل ناصية شوارع 62 يوليو و رمسيس، لتنضم الي سلالم نقابة الصحفيين كساحة جديدة للاحتجاج. أما واجهات مجاري المياه، فقد ظهرت لأول مرة علي إثر مقتل خالد سعيد علي يد الشرطة في الأسكندرية، فقام النشطاء بعمل سلاسل بشرية، للالتفاف حول قوانين منع التجمهر، إمتدت من كورنيش البحر المتوسط الي كورنيش النيل في أسوان، بمحاذاة كل المجاري المائية علي طول مسارها، كأفرع النيل و القنوات وحتي الكباري، وسيظل هذا الابتكار الجديد في وسائل الاحتجاج يطبع واجهات المجاري المائية و الكباري ، ككوبري قصر النيل، و من ثم ينتقل الي الشوارع الرئيسية. وبالنسبة لتلك الفراغات الطولية، فلم يكن لها دور محدد يذكر قبل ثورة 52 يناير. ساحات الغضب في مرحلة الثورة لم تقتصر تداعيات ثورة 52 يناير 1102 علي استعادة ميدان التحرير لدوره التاريخي كمسرحا لأحداث الثورة و محركا لها، ولكنها أدت الي العديد من التغيرات أثرت علي المحيط المباشر للميدان وطالت مناطق أخري أبعد ربطتها به شبكة من المحاور استعملت كمسارات محددة للولوج اليه أثناء الحشود الهائلة التي أطلق عليها مليونيات. فيما ظهرت ساحات جديدة، وأعيد توزيع الأدوار بينها وبين الميدان المركزي، بشكل تكاملي أو تصارعي، نتج عن الفرز و الاسقطاب السياسي والأيديولوجي الذي صبغ كل موضع بلون معين، فأصبح الميدان الجامع الشامل يناقض، في مفارقة شديدة، تعريف الفراغ العام عند حنا أردنت كمكان لمقاومة الإقصاء، ليرسخ لمفهو م مغاير في الممارسات التي تلت الثمانية عشر يوما التي أسقطت مبارك. علي إثر انسحاب الشرطة يوم جمعة الغضب في82 يناير 1102، بدأ الثوار يستعدون لإقامة طويلة في الميدان حتي إسقاط النظام، محولين الميدان الي مدينة صغيرة متعددة الوظائف من خلال تقسيم محبك للفراغ العمراني. تركزت خيام الاعتصام في الحديقة المركزية وفي الساحة الأمامية للمجمع، أقيمت ثلاثة منابر في الأركان عند مداخل الميدان في التقائه في الجنوب الشرقي مع شارع محمد محمود، وشارع القصر العيني في الجنوب، وشارع طلعت حرب في الشمال الشرقي. أنشئت ثلاثة مستشفيات ميدانية، واحد في الصينية المركزية، وثان وراء محل هارديز للمأكولات السريعة داخل ممر يصل بين شارعي محمد محمود و التحرير، و الثالث في الفسحة عند مدخل طلعت حرب إضيف اليهما مركز للإسعاف السريع ناحية شارع شامبليون بالقرب من ميدان عبد المنعم رياض. وللاستجابة لاحتياجات المترددين علي مدار اليوم، و المعتصمين، بدأ الباعة الجائلون ينتشرون عند المداخل وفي الوسط، يعرضون شتي أنواع المأكولات الشعبية السريعة و الفطائر و المشروبا ت ووسائل التسلية من لب وسوداني وفشار، أضيفت اليها الأعلام و التيشرتات والمزامير و الطواقي الصوف والكوفيات بألوان العلم ،وخدمات من نوع رسم العلم علي الوجه. و مع تطور المعيشة و تنوع الأنشطة، إقيمت خيمة تضم رسومات الكاريكاتير التي أبدعها الثوار والفنانون، وأطلق عليها متحف الثورة، و ورشة لإبداعات الأطفال اتخذت مكانا لها بالقرب من مدخل طلعت حرب في شارع ميريت الذي يؤدي الي المتحف المصري وميدان عبد المنعم رياض. كما أقيمت شاشات تليفزيونية لمتابعة تطور الأحداث وأصبحت المنابر التي يتناوب عليها المتحدثون في الصباح، تستقبل بعض الفعاليات الفنية مساء. وعلي إثر الاعتداءات المتكررة ممن أطلق عليهم الطرف الثالث، وخاصة إبان الأربعاء الدامي 2 فبراير، نشأت ضرورة تحصين الميدان و مراقبة مداخله وعدم السماح لأي قادم بدخوله بدون تفتيش، وهكذا فرض الميدان/المدينة قوانينه الداخلية وخلق بواباته من الأسلاك الشائكة أو عربات الشرطة التي تم حرقها من قبل الثوار، وامتثل جميع الرواد للتفتيش دون تذمر يذكر. امتد نطاق تلك التغيرات لمحيطه المباشر واتسع ليشمل دوائر أبعد لتتوزع الأدوار في ظل منظومة تتسم بمرونة شديدة طبقا لتوالي حالات التمدد والانكماش للميدان المرتبطة بموجات مد و جزر الثورة ووسائل تعبئة الجماهير ومدي استجاباتها. في الحالة الأولي، أي حينما يصل الميدان الي درجة التشبع القصوي بتدفق البشر عليه، تلعب الشوارع المؤدية اليه، وظيفة مزدوجة : الأولي كأنابيب تتيح تدفق الحشود عليه، و الثانية كأوعية تمتص ما يفيض من البشر وتعيد ضخهم و توزيعهم في محيطه أو أماكن أبعد، ساحات أو ميادين ثانوية. و تنقسم المحاور التي تصب في الميدان الي نوعين من المحاور. الأول يشمل شوارع تؤدي لكثير من الأطراف المشاركة بفعالية في صنع القرار، كشارع القصر العيني لاحتوائه علي مربع الوزارات ومجلس الوزراء و البرلمان، شارع محمد محمود الذي يفضي الي وزارة الداخلية، شارع التحرير و ويؤدي الي محافظة القاهرة في ميدان عابدين مرورا بميدان باب اللوق الذي تطل عليه الغرفة التجارية، شارع شامبليون و يؤدي الي دار القضاء العالي و من ثم محكمة النقض واخيرا شارع الشيخ ريحان الذي يفضي الي السفارة الأمريكية عبر ميدان سيمون بوليفار. المجموعة الثانية تضم الشوارع التي تربط مسرح الأحداث الرئيسي بالصالة أو الغرفة الخلفية التي يستعد فيها البطل قبل الدخول الي خشبة المسرح الرئيسية، لعب هذا الدور ميدان طلعت حرب. وتصب فيه، شوارع طلعت حرب و قصر النيل ومحمود بسيوني ، قبل أن تتوغل في عمق وسط المدينة. و يعتبر هذا المثلث الامتداد الطبيعي لميدان التحرير، لقيامه بوظيفة الإعداد للفعاليات و الحشد الجماهيري، نظرا لوجود مقار حزب الكرامة علي مسافة متساوية من الميدانين في شارع طلعت حرب، وحزب الغد في قلب ميدان طلعت حرب و حزب التجمع في مبني يقع علي ناصية شارعي كريم الدولة و محمود بسيوني وله شرفة تطل علي ميدان طلعت حرب، و أخيرا دار ميريت للنشر في شارع قصر النيل التي غدت مكانا لالتقاء الشباب الثوري من المعتصمين. وإذ تعاظم دور ميدان طلعت حرب نظرا لموقعه الاستراتيجي في قلب وسط البلد، و تحكمه في مجموعة من الشرايين الهامة مما جعله معبرا أساسيا لكل قادم من الأطراف الشرقية للمدينة الي التحرير. الا إن درجة هذا الأخير انحطت من الساحة الرئيسية للاحتجاج قبل الثورة الي دور الساحة الثانوية. فيما اكتسب شارع طلعت حرب الذي يربطه بميدان التحرير أهمية خاصة لتمدد هذا الأخير تجاهه و لكونه من أهم المداخل جهة الشرق- يقابله مدخل كوبري قصر النيل في الغرب- ولانتشار المقاهي والمطاعم المعروفة علي جانبيه، كريش والأستوريل، و كذا أماكن الأكلات السريعة مثل فلفلة وتوم آند بصل، مما يتيح للمقيمين داخل الميدان الإنسلاخ عن الجموع وأخذ النفس بعض الوقت والجلوس والنقاش بعيدا عن صخب التحرير وزحامه. وقد ساهم أيضا في إيواء بعض المعتصمين الذين كانوا يفترشونه بدون خيام أثناء الليل، متخذين من الفراغات بين التقاء الرصيف والستائر الحديدية للمحلات الكبري فراشا. وإذ لعبت كل تلك الشوارع التي يجمعها الميدان بين أطراف أصابعه دور خط الدفاع الأول عند إغارة البلطجية وقوات الأمن علي المعتصمين الآمنين والمتظاهرين السلميين، إلا إن بعضها تحول الي ساحات للتراشق و القتال بين الثوار و الأمن المركزي ومعاونيه ، أمثال شوارع قصر العيني، والشيخ ريحان ومحمد محمود. وقد عرف هذا الأخير معارك دموية سالت خلالها كثير من الدماء وقنصت فيه عشرات العيون، حتي أطلق عليه الثوار شارع »عيون الحرية« ، وقامت السلطات بإغلاق هذه الشوارع بحوائط خرسانية سميكة مما أدي لقطع الصلة بين الميدان ومحيطه المباشر جهة الجنوب والجنوب الشرقي. لم تقتصر التغيرات التي طالت ميدان التحرير ومحيطه علي الوعاء فقط، باكتسابها وظائف جديدة كأماكن للقاء والمعيشة و التبادل والاستهلاك والنزهة والنقاش والإقامة ، لكنها طالت أيضا بعض أجزاء غلافه الخارجي. تجلت في هذه اللوحات الجدارية العبقرية المتجددة، التي كانت السلطات تزيلها في الصباح الباكر ليعيد الشباب المبدع رسمها في المساء. إن تلك الجداريات الفريدة، في شارع محمد محمود، و علي جدران المجمع، والحوائط الأسمنتية العازلة، تتنوع في تشكيلاتها وأحجامها، تحكي يوميات الثوار وتخبر عن القهر و التسلط، وتذكر بشهيد أو معتقل، أو تطلق صرخة من أجل العدالة الاجتماعية أو الوحدة الوطنية. هذا الجرافيتي، جعل الجدران تتكلم، وأضاف قيمة جديدة للفراغ العام بحيث أصبحت حوائط بعض الشوارع المؤدية للميدان كالكتاب المفتوح تقص قصة ثورة وتخلدها علي الجدران مثلما فعل الأقدمون علي جدران المعابد. والي جانب ما أصاب العمارة الثابتة، فالعمارة المتحركة، أي البشر الذين يتحركون في الفراغ العام قد تغيرت أيضا علاقتهم بالأمكنة و إحساسهم بها و تفاعلهم معها ومسئوليتهم عنها. فهم يقومون بتشكيلهامن خلال التواجد العفوي فيها في مجاميع متناثرة، تفصل بينها فراغات يحتلها الباعة الجائلون، و تمثل تكتلات تتنوع في أحجامها و كثافتها، تتجمع في أماكن محددة في الميدان، حول المداخل و المنابر، وفي الوسط، أو حول نشاط محدد، عزف علي عود، رسم علي الأسفلت، خطيب أو شخصية سياسة هامة عابرة، أو مجرد جلسة نقاش علي مقاعد مع كوب من الشاي أثناء انكماش الميدان. ثم ما تلبث في أوقات تمدده عندما تتدفق عليه حشود من البشر تأتي من كل صوب أن تتقارب ثم تلتحم لتصبح كتلة واحدة صماء تلتصق فيها الأجساد لساعات طويلة تربطهم روح واحدة وأهداف محددة. في هذه الوحدة الجديدة يتخطي الأفراد كونهم أفرادا و تنبثق روح تؤججها نيران الغضب و الرفض، و ترتفع الحناجر بهتاف واحد،« ليصوغ ذاتا جمعية تتحرك كأنها فرد واحد و تدافع -ربما حتي الموت أو الاستشهاد، - وطأة خانقة مطبقة «. 11 ثم تتخلخل الكتلة، وتنحسر ليستعيد الفراغ العام بعض وظائفه الأساسية. هذا التواجد، و التجاور و الالتحام، لأفراد وجماعات متنوعة جنسيا، متباينة اجتماعيا وعمريا، بشكل دوري في الفراغ العام يعبر عن جنوح نحو الاستحواذ والحق في المدينة و الاستمتاع بها. تبلور هذا الحق ليس فقط في أوقات التمرد، ولكن في أوقات البهجة، فلأول مرة يخرج الفن للشارع، في فعاليات الفن ميدان، وهي احتفالية تقام أول سبت من كل شهرفي ميدان عابدين بالقاهرة وميادين أخري في الأقاليم. وبذلك أصبحت لميدان عابدين وظيفة جديدة، أعطته قبلة الحياة، كمكان لعرض إبداعات الشباب من حرف تقليدية ، للفن التشكيلي و الجرافيتي، والعروض المسرحية، و الأفلام الوثائقية القصيرة، و الأفلام التجريبية، و الغناء الفردي والجماعي، والأراجوز في تجسيداته الحديثة، ومعارض للكتاب للناشرين الجدد، فاكتسب المكان قيما ثقافية وسوسيولوجية جديدة كمكان للاستمتاع وقضاء الوقت والتواصل ونبذ الإقصاء و مقاومة الجهل و الظلامية والإنغلاق و نشر المعارف و تبادل الخبرات. في المقابل، ظل ميدان التحرير طوال ال81 يوما للثورة، الميدان/المدينة بلا منازع، ذابت فيه كل الخلافات و التباينات، ولم يتأثر كثيرا بظهور ساحة جديدة للإحتجاج مناوئة للثورة أمام جامع مصطفي محمود في حي المهندسين علي الضفة الغربية للنيل. وعلي الرغم من سيطرة تيارات بعينها علي المنابر المختلفة لميدان التحرير، و تحوله مع مرور الوقت الي جامع كبير في الهواء الطلق في مواقيت الصلاة، فلم يترتب علي هذه الظواهرأ ي انقسامات حادة. الا أنها كانت دفينة في القلوب حتي انفجرت ظهر يوم 81 فبراير حينما اعتلي الشيخ القرضاوي المنصة الرئيسية بعد أسبوع من تنحي مبارك، ليلقي خطبة انتصار الثورة، علي إثرها تم إقصاء الثوار الحقيقيين ومنعهم من الكلام فتركوا ميدان التحرير غاضبين و تراجعوا الي ميدان طلعت حرب يتبعهم الآلاف ليبدأ فاصل جديد من الثورة تمت فيه عملية من الفرز السياسي أثرت بدورها علي الفرز المكاني تجسدت في ظهور ساحات للاحتجاج ذات توجهات سياسية متصارعة و مطالب متناقضة. في السياق المضطرب الذي صاحب المرحلة الانتقالية التي أدار فيها المجلس العسكري البلاد، و التي إمتدت من 11 فبراير 1102 حتي الانتخابات الرئاسية التي فاز فيها رئيس ينتمي لجماعة الإخوان المسلمين في 03 يوينو 2102 لم تهدأ جذوة الثورة، وانصب الاحتجاج علي المجلس العسكري وبشكل أقل الإخوان وأعوانهم من الجماعات الإسلامية. غدا الميدان في مركز الصراع بين التيارات المدنية و التيارات الإسلامية، خاصة علي إثر التصويت علي التعديلات الدستورية الأولي التي قسمت المجتمع بشكل لا رجعة فيه، بين التيارات المدنية، الكفار، والتيارات الإسلامية الموعودة بالجنة. في خضم الصراعات المحتدمة بين جميع الأطراف، ظهرت ساحات جديدة للاحتجاج والصدام شهدت أحداثاً دموية فارقة في مسار الثورة. تمثلت الأولي في منطقة كورنيش النيل، أمام مبني التليفزيون في ماسبيرو، الذي شهد عدة وقفات للعاملين في الإعلام للاحتجاج علي سياسة الوزير الجديد والمطالبة باستبعاد القيادات الفاسدة. وعلي صعيد آخر، تصاعد الاحتقان الطائفي في قري صعيد مصر وبعض المحافظات الشمالية تم خلالها الاعتداء علي دور عبادة المسيحيين وممتلكاتهم و التنكيل بهم و تهجيرهم من قراهم ، ولم تجد جلسات الصلح في تهدئة النفوس، حيث ظل المعتدون بدون عقاب رادع . فانطلقت مظاهرة سلمية يوم التاسع من أكتوبر1102 من شبرا تضم مسلمين و مسيحيين باتجاه ماسبيرو فيما عرف بيوم الغضب القبطي، ردا علي هدم سكان من قرية الماريناب في محافظة اسوان لكنيسة. و أثناء تظاهرتهم أمام مبني التلفزيون ، تعرضوا لهجوم عنيف من قبل قوات الشرطة العسكرية والأمن، أدت الي سقوط 42 قتيلا والعديد من الجرحي. وبعد مضي ستة أسابيع علي مذبحة ماسبيرو، اندلعت يوم السبت 91 نوفمبر مواجهات أكثر عنفا و دموية في ميدان التحرير و الشوارع المحيطة به، محمد محمود و الشيخ ريحان وإمتدت حتي شارع الفلكي ومنصور عند وزارة الداخلية فيما عرفت بأحداث محمد محمود التي استمرت حتي يوم الجمعة 52 نوفمبر. وخلال هذا الأسبوع، قامت قوات الأمن المدعومة بالشرطة العسكرية بشن حرب إبادة جماعية لجموع المتظاهرين طبقا لتعبير مركز النديم للتأهيل، استعملت فيها كل أنواع الغازات السامة القاتلة، وإطلاق الرصاص بكثافة شديدة، وحرق خيام المعتصمين والمستشفيات الميدانية، أسفرت عن سقوط مئة شهيد وإصابة مئات الآلاف. وكان من ضمن تداعياتها إستقالة حكومة الدكتور شرف و تشكيل حكومة جديدة برئاسة الجنزوري. وقد تخللت حرب الشوارع بين المتظاهرون وقوات الأمن، عدة فاعليات في ميدان التحرير كان آخرها وأهمها جمعة الفرصة الأخيرة يوم 52 نوفمبر التي دعت اليها كل الحركات الثورية والأحزاب السياسية وشارك فيها الدكتور البرادعي وقاطعتها كل التيارات الإسلامية، فترسخت القطيعة وهتف المتظاهرين للمرة الأولي ضد الإخوان. وبعيدا عن التحرير ومحيطه، تجمع أنصار المجلس العسكري في ميدان العباسية مدشنين بذلك ظهور ساحة جديدة للتأييد، بعد أن فقد ميدان مصطفي محمود هذا الدور. وقبل أن يجف دم شهداء محمد محمود، اندلعت مواجهات أخري عنيفة في الفترة بين 61 و 32 ديسمبر، كان مسرح عملياتها رصيف مجلس الوزراء و شارع القصر العيني، وحصيلتها 71 قتيلاً و أكثر من الف جريح، وتم خلالها حرق المجمع العلمي. واستشهد الشيخ عماد عفت ليصبح مع مينا دانيال، أحد شهداء مذبحة ماسبيرو رمزا للوحدة الوطنية وعروتها الوثقي، لا يخلو جرافيتي من وجهيهما متعانقين ولا مظاهرة من هتاف، قتلوا عماد قتلوا مينا، كل رصاصة بتقوينا. كرس يوم الذكري الأولي لثورة 52 يناير الانقسام بين التيارات المدنية و الإسلامية، حيث تجمع كل منهما حول منبر مستقل، و نشأت بينهما بعض المناوشات، لتكون المرة قبل الأخيرة التي يحتويهم نفس المكان، ودأبوا بعد ذلك علي التجمع فيه بشكل منفصل وتبادلوا تواجدهم به ليتغير المشهد والجمهور من جمعة الي أخري. استعاد ميدان التحرير في لحظة خاطفة، دوره كموحد للمصريين علي إثر الإعلان عن فوز محمد مرسي العياط رئيسا، ما لبث هذا الأخير أن نكص عن كل العهود التي أخذها علي نفسه بسرعة مذهلة، مصيبا الجموع التي إحتشدت لتحيته في ميدان التحرير، طوعا أو جبرا، بخيبة أمل قاهرة. فتتصاعد الإحتجاجات مرة أخري، تنحصر بداية في الغرفة الخلفية، ميدان طلعت حرب في مرحلة الإعداد والتأهب، لتصب في ميدان التحرير لحظة رفع الستار في حشد لامثيل له، دعت اليه القوي الوطنية لجبهة الإنقاذ علي إثر الإعلان الدستوري ل12 نوفمبر 2102 الذي استولي فيه الرئيس المنتخب علي كل السلطات. وبمناسبة هذا التجمع الهائل الذي أعاد لميدان التحرير شمسه الذهب يوم 42 نوفمبر، و ذكرنا بمشهد ليلة التنحي الحادي عشر من فبراير، إبتدعت جبهة الإنقاذ تقليدا جديدا للحشد، تمثل في خروج مسيرات من أماكن تجمع محددة، تتبع مسارات بعينها، علي رأس كل منها شخصية سياسية عامة من قادة جبهة الإنقاذ، كالدكتور البرادعي، حمدين صباحي، عمرو موسي، جورج إسحق و الدكتور أبوالغار، تصب كلها تباعا في ميدان التحرير. خلق هذا التقليد منظومة جديدة وزعت فيها الأدوار بين أماكن للتجمع، ثانوية ورئيسية، مؤدية الي ظهور ساحات جديدة، واستعادة أخري لدورهاالقديم. تتدرج ساحات التجمع كالآتي: في المهندسين، ساحة كنيسة الوحده بشارع الوحده بجوار كشري الاستاذ في إمبابة، الساحة الصغري، ميدان مصطفي محمود الكبري. في الجيزة، عدة ساحات صغري: جامع خاتم المرسلين با لعمرانيه، رصيف محطة الطالبية في فيصل ،ساحة جامع السلام في الهرم، ميدان محطة مترو المنيب، والكبري، ساحة جامع الإستقامة بالجيزة. - جنوبالقاهرة، الصغري : ميدان الباشا بالمنيل، ساحة جامع عمرو بن العاص بمصر القديمة، مسجد الفتح بالمعادي، الكبري، ميدان السيدة زينب - شمال القاهرة الكبري، دوران شبرا - شرق القاهرة الكبري، جامع الفتح برمسيس -شمال شرق القاهرة الكبري، مسجد النور في العباسية، تربط بين الساحات الفرعية و الرئيسية شبكة من المسارات تصب كلها في الميدان الكبير. خطت الجموع الغاضبة في هذه الساحات والمسارت تاريخا جديدا لنضالها طبعته باحتشادها و بمواكبها و هتافاتها في مشهد سيظل يطبع الصورة الذهنية لتلك المحاور و الساحات دهرا. سيطرت إذن القوي المدنية علي ميدان التحرير من جديد في انتفاضة ضد الإخوان اطلق عليها الثورة الثالثة ، في إشارة الي الأولي ضد النظام المباركي، والثانية ضد العسكر. و لم تكتف القوي المدنية باستعادتها لميدان التحرير، ففتحت جبهة أخري في ساحة أخري نائية تضاهي الميدان في اتساعه، أمام قصر الاتحادية في ضاحية مصر الجديدة في الشرق. نقلت اليها جزء من احتجاجاتها، واعتصامها، ونقلت اليها بعض الأنشطة كمعرض صور الثورة وزودته بمركز للإسعافات السريعة. سرعان ما قامت مليشيات الإخوان مدعمة بقوات الأمن بالاعتداء علي المعتصمين وفض اعتصامهم بشراسة و عنف لا مثيل لهم، وقاموا بالقبض علي الشباب ونشبت مصادمات دامية إستشهد فيها الصحفي الحسيني أبوضيف أثناء تأديته لعمله برصاصة مجهولة المصدر، و تم القبض علي أكثر من أربعين من الشباب ،تم الاعتداء عليهم وتعذيبهم بسادية منقطعة النظير. امتلأت ساحة الاتحادية مرة أخري بالحشود الغاضبة و سطرت رفضها وإدانتها للمارسات القمعية للسلطة و أتباعها علي جدران القصر، وإنتشرت خيام الاعتصام مرة أخري، لتزال بعد عدة مصادمات مع الأمن. في مقابل غضب القوي المدنية ونجاحها في حشد الملايين ليس في القاهرة فحسب و لكن في كل المدن المصرية، وفي ظل سيطرتها علي ساحات استرتيجية ، لم تجد قوي التيارات الإسلامية بديلا عن خلق ساحات جديدة، تلافيا لصدام لاتحمد عقباه مع الآخرين. فدأبت علي حشد أنصارها لتأييد النظام أمام جامع رابعة في مدينة نصر وحول تمثال نهضة مصر أمام جامعة القاهرة في الجيزة. وتعتبر الأولي ساحة مستحدثة لم يرد لها ذكر في أي مناسبة، أما شارع الجامعة فقد كان و ما زال مسرحا للاحتجاجات والمسيرات الطلابية و الصدام مع قوات الأمن. في ظل هذه السيولة الجغرافية لساحات الإحتجاج، والتأييد، ظهرت مؤخرا أماكن جديدة، كالمنصة أمام نصب الجندي المجهول في مدينة نصر، التي حلت محل ميدان العباسية للمؤيدين للمجلس العسكري وساحة قصر القبة بدلا من الاتحادية لمناهضي حكم الإخوان المتتبعين لساكن القصر في رحلة تجواله من قصر الي آخر. لم تغير ثورة الخامس و العشرين من يناير المدينة. لم تبدل شوارعها وأزقتها وميادينها. و لم تترك الحجارة أماكنها. من تغير هو البشر، ووعيهم بالمكان وانتزاعهم لحقهم في المدينة و تحولهم لمواطنين. بتوالي فصول الثورة علي مدي عاميين ونصف العام، ُأعادوا صياغة شبكة من العلاقات التراتبية بين الأماكن التي احتوتهم في لحظات الغضب أو البهجة والاحتفال، و خطوا تاريخا جديدا لها خلال مسيراتهم و تجمعهم، خالقين علامات مميزة جديدة في المدن، لا تمثل بالضرورة بؤرا بصرية هامة، و لكنها طبعت الصورة الذهنية كساحات للتغيير وكأماكن انطلاق للحرية و الديمقراطية. وخلال تواجدهم في هذه الساحات، أعادوا تشكيل فراغاتها لتطويعها لأغراض متعددة، ثقافية وسياسية و إقتصادية واجتماعية فأعطوا للفراغ العام معني جديدا، معناه الحقيقي الذي لم يكن له قط .ُ ليس فقط في القاهرة، و لكن في كل المدن العربية و مدن الربيع العربي حيث اكتسبت ساحات التغيير شهرة عالمية ووضعت في مصاف الأماكن التراثية وتحولت الي مزارات كميدان التحرير في مصر، وجادة الحبيب بورقيبة في تونس وساحة الحكمة في صنعاء والحرية في تعز، وميدان اللؤلؤة في المنامة. ونالت أيضا شهرة محلية في أوطانها كميادين القائد إبراهيم وساحة المنطقة الشمالية في الأسكندرية، وميادين الأربعين في السويس، و المسلة في بورسعيد، والممر في الإسماعيلية، والثورة في المنصورة والشون في المحلة، و المحطة في طنطا، والساعة في دمياط و دمنهور والثورة في الفيوم، وبالاس في المنيا، والتركي في أسيوط، وأبوحجاج في الأقصر، وتطول القائمة إذا أضفنا الساحات في المدن المتوسطة والصغري كدسوق، المطرية والمنزلة. لقد جسدت ساحات التغيير فجرا جديدا للحرية و المواطنة، فتحت آفاقا جديدة و ملهمة لإعادة تهيئة ميادينها وشوارعها لتواكب توق الأفراد و الجماعات الي الرفقة، و الاندماج و التواصل و التأمل و الاستمتاع و الاحتجاج ، و تطلعهم لنوعية حياة أفضل لهم و للأجيال القادمة. الهوامش Wang, P., (2002). Systematic1 - Construction of Urban Public Space. Nanjing: Southeast University Press (in Chinese) 2 حنا اردنت 3 حسين حمودة، ميادين الغضب، قراءات في روايات مصرية، دار العين، 2013 4 أقيمت هذه الحوائط عند التقاء شوارع القصر العيني، و محمد محمود و الشيخ ريحان بميدان التحرير، و كل الشوارع التي تربط حي جاردن سيتي بالكورنيش في المنطقة الواقعة بين فندقي سميراميس و كيمبسكي بالإضافة الي الحائط الذي يسد منفذ الشارع الذي تقع فيه السفارة الأمريكية ناحية ميدان سيمون بوليفار. 5 أيام مصرية، العدد 40، 2011، ميدان التحرير في ذاكرة التاريخ، ص، 41 6 فاروق القاضي، فرسان الأمل، ص 236 7 أيام مصرية، مصدر سابق، ص 46 8 نفس المصدر السابق، ص 57 9 حسين حمودة، مصدر سابق، ص 225 10 نفس المصدر السابق، ص 223 11 حسين حمودة، مصدر سابق، ص. 226 والفراغ العام المفتوح هو »الحيز المكاني الذي يوجد بين المباني في المناطق الحضرية، تتحقق فيه عدة شروط أساسية، بأن يكون مكانا متاحا لجميع المترددين، ومكان للقاء و التفاعل والجلوس في بيئة طبيعية، معبرا بذلك عن الصورة الذهنية للمدينة التي تنطبع في الخيال الجماعي. و يتسم الفراغ العام بديناميكية عالية، وله أغراض متعددة، ثقافية، سياسية، إقتصادية ».1 ويعتبر وبامتياز مكان« مقاومة الإقصاء وممارسة الحرية«2. وفي بعده العمراني، فإن الفراغ العام يضم أشكالاً متنوعة ومتدرجة من الأماكن، كالميادين، الشوارع،،واجهات المجاري المائية والحدائق العامة. أما في أبعاده السياسية والسوسيولوجية، فهو الوعاء أو المحتوي لتلاقي والتحام الأفراد والجماعات والحشود في حالات الاحتجاج أو الاحتفاء بغض النظر عن انتماءاتهم الطبقية أو الأيديولوجية. غدا بعد ثورة 52 يناير،« موضعا لتجسيد وعي جديد تكون في المدينة، وتغذي بمعانيها، قاد -فيما قاد- الي تجربة الغضب الجماعي طامحا الي التغيير«. 3 ولا تقتصر هذه المعطيات الجديدة علي المدن المصرية فحسب، ولكنها طالت كل مدن الثورات العربية. مما يحذو بنا الي تبني فكرة نشأة البوليس Polis، أي إطار الممارسة السياسية محولة الفراغات العامة، وعلي وجه الخصوص الميادين المركزية، الي مواضع لتمثيل الشعب أو عموم الناس و أماكن أساسية لاجتماعاتهم ولإقامة احتفالاتهم و للتعبير بأشكال مختلفة عن آرائهم و إحتجاجهم وغضبهم في تماهي مع فكرة الأجور أو الفورم في المدن الإغريقية والرومانية التي كرست معاني كالديمقراطية والمواطنة، متحققة بشكل غير مسبوق في مدن الربيع العربي. وإذ لن نتناول هنا البعد العمراني للفراغ العام، حيث لم يصبه تغيير يذكر، عدا آثار الحريق التي طبعت واجهة مبني الحزب الوطني القديم، إثر محاولة إضرام النار فيه مساء جمعة الغضب 82 يناير 1102، وتمثل التغيير الثاني في هذه الحوائط الخرسانية القبيحة التي أقيمت في بعض شوارع منطقة وسط القاهرة للحيلولة دون وصول المحتجين الي منشآت سيادية، كمربع الوزارات و مجلس الوزراء و البرلمان ووزارة الداخلية و السفارة الأمريكية.4 سوف نلقي الضوء علي التغيرات التي طالت العلاقة الجدلية بين الفراغات العامة و المواطنين في بعديها الزماني والمكاني في مدينة القاهرة ، متبنين تصنيف هذه الأماكن طبقا لموقعها الجغرافي ومورفولوجيتها ومركزين علي أربعة أنماط هي: الميادين، ساحات الوقفات الاحتجاجية، تشمل سلالم وأرصفة النقابات و المنشآت السيادية، المحاور الطولية و تشمل الشوارع وواجهات المجاري المائية و الكباري. الميادين للميدان أهمية كبيرة في الحضر، فهو صرة المدينة أو الحي أو الكوميونة ومركزها الحيوي، و هو عقدة التقاء لعدة محاور تتدرج في أهميتها، وناقل للحركة تصب فيه و يعيد توزيعها، أي أنه بمثابة القلب الذي يتحكم في عملية الدورة الدموية في جسد الإنسان، يصله الدم ويعيد ضخه من خلال شبكة من الشرايين والأوعية ، وهو أيضا بؤرة تجمع بصرية لمنشآت معمارية فريدة في تصميمها أو وظيفتها تصنع غلافه الذي يستمد منها سماته التشكيلية والمعمارية والعمرانية. ويمكن تعظيم شأنه بإقامة تمثال يمثل شخصية عامة أثرت في مجريا ت الأمور في الفراغ الأرحب و الأوسع، الوطن، في أي من المجالات السياسية أو الثقافية فتضفي عليه قيمة رمزية تضاف الي قيمه الوظيفية والفنية والتاريخية، في ارتباط تلك الأخيرة بالأحداث التي وقعت به و دلالتها لسكان المدينة. و يمكن للميدان أن يكون مجرد ساحة مغلقة أمام حركة السيارات تطل عليها منشأة دينية هامة، أو قصر أو أي مبني عام يعرف بها و تعرف به. و تتدرج الميادين في حجمها ووظيفتها و أهميتها و شكلها و موقعها الجغرافي و مدي تفاعل العامة معها. وأهم هذه الميادين في مدينة القاهرة، و التي ارتبط اسمها بالثورة، ميدان التحرير- وهو مركز المركز- ميادين عابدين والسيدة زينب، وطلعت حرب وتعتبر من الميادين رئيسية، بالإضافة الي، ميادين عبد المنعم رياض، ، مصطفي محمود، والعباسية. وهي من الميادين الثانوية. لا يعتمد هذا التصنيف بين رئيسي وثانوي علي المساحة، ولكن علي دلالة المكان بالنسبة للسكان ورؤيتهم له و تفاعلهم معه. فهذه الميادين لم تنشأ في الأصل لتكون مجالا لتجمع العامة سواء بالاحتفال أو الاحتجاج، ولكنها اكتسبت تلك الوظائف بتواجد الناس فيها وتدفقهم عليها و تجمعهم فيها في سياقات تاريخية محددة، فرسخت هذه الوظائف في بعضها، وعبرت البعض الآخر دون أن تترك أي بصمة. و علي الإطلالات علي بعض ميادين للغضب قامت بادوار مهمة، إستنادا الي الأدب وشهادات الباحثين تمكننا من التوقف عند بعض المشاهد التي تتيح التعرف علي تطور هذا الدور وانتقاله من موضع الي آخر في ارتباطه مع ديناميكية التحضر و العلاقة بين الميدان بالمدينة وحركة الطبقات الاجتماعية فيها وتشكل وعيهم بها. في رواية أولاد حارتنا لنجيب محفوظ، كان ميدان بيت القاضي هو مسرح الإحتجاج ، حيث تخترقه مظاهرة يموت فيها الطفل سلومة (ص 53) في إشارة دالة و تماهي مع الطفل جافروش الذي قتل أثناء الكوميونة في باريس في رواية فيكتور هوجو، البؤساء)- كما يشير الكاتب الي مظاهرة أخري يموج بها نفس الميدان (ص 61) في حديث الصباح والمساء. وفي سياق تاريخي آخر، إبان ثورة 9191، تنتقل ثورات الغضب الي ساحات أخري، ميدان السيدة زينب و المحطة (رمسيس حاليا) حيث يستشهد فهمي الطالب الثائر في بين القصرين (ص 375). كما تتجه الحشود الغاضبة أيضا الي ميدان عابدين، (نفس الصفحة) 5. سبقت إذن كل تلك الميادين، ميدان التحرير كساحات للغضب، وإذ تواري دورها بعض الوقت لصالح هذا الأخير، الذي سيصبح الوعاء الرئيسي والمحرك الأول لأحداث تاريخية فارقة سالت علي أرضه خلالها دماء المصريين ، فسوف تعود مرة أخري لتقوم بأدوار ثانوية و مكملة لدور الميدان المركزي، التحرير. نشأ هذا الميدان في منتصف القرن التاسع عشر في إطار خطة تحديث القاهرة التي نفذت في عصر اسماعيل، وسمي ميدان الإسماعيلية. ولم يكن في البداية في قلب القاهرة الجديدة و لكن علي تخومها. في حين كان ميدان الأوبرا، الذي كان بمثابة المفصلة بين شطري القاهرة العثمانية والقاهرة الخديوية هو المكان الرئيسي لتجمع العامة لسماع خطبة العرش أو إبان احتفالات الأمراء بأعياد ميلاد أو زواج أبنائهم في حديقة الأزبكية القريبة. لم تكن ساحة ميدان التحرير تستعمل سوي للحشود العسكرية لقاطني ثكنات قصر النيل من الجنود البريطانيين. وقد احتلت تلك الثكنات قصر النيل، الذي شيد ضمن مجموعة من القصور التي إقيمت في عصر الأسرة العلوية حول ميدان الإسماعيلية، كقصر إسماعيل و قصر الوالدة، و كلها إندثرت، وأقيم مكانها منشآت حديثة. وتشير المراجع التاريخية أن ميدان الإسماعيلية بدأ يكتسب وظيفته كقبلة للثوار ومسرح لحوادث مهمة ومؤثرة في تاريخ الوطن مع بداية توسع المدينة علي الضفة الغربية للنيل وبانتقال جامعة القاهرة اليها، فاصبح يحتل منطقة متوسطة بين ضفتي النهر ومعبراً للطلبة في تدفقهم نحو قصر عابدين، أو بيت الأمة في المنيرة أو مقر المندوب السامي في جاردن سيتي. آلا إن المعبر تحول الي ساحة أساسية للاحتجاج و للمصادمات بدءاً من عام 5391. كان ذلك في صباح الثالث عشر من نوفمبر، يوم عيد الجهاد، حيث أعلن زعيم حزب الوفد النحاس باشا أنه سيصدر قرارات مهمة للرد علي الوضع الدستوري المتجمد الذي كانت تعاني منه البلاد آنذاك، أي تعطيل العمل بدستور 0391 ورفض العمل بدستور 3291 الذي تم التوافق عليه. انطلقت مسيرات الطلبة من جامعة فؤاد الأول لبيت سعد زغلول، ودارت بينها و بين الجنود الإنجليز في الميدان معركة أصيب خلالها بعض الطلبة. و بعد تفرقهم، تدفق تلامذة مدرسة السيدة زينب التي خرجت بتوها للميدان تهتف للدستور لتدور معركة أخري، وتدشن بالتالي مولد ميدان التحرير كساحة جديدة في القطر المصري للغضب والحرية و التغييرممتدة الي يومنا هذا. 5 وقد تكررت نفس مشاهد المواجهات في يوم الجهاد 12 نوفمبر 6491، إثر فشل المفاوضات مع الإنجليز، ُأضرب المصريون وانطلقت المظاهرات السلمية في أكثر من مكان في القاهرة واتخذت من ميادين لاظوغلي، الأوبرا، المحطة و فم الخليج، أماكن تجمع لها،أما مظاهرة التحرير فقد انتهت بأحداث دامية حيث صدمت سيارات الجيش الإنجليزي المتظاهرين وأطلق الجنود عليهم الرصاص من الثكنات ومن أعلي أسطح المباني كما يروي لنا فاروق القاضي بعض وقائعها « كنت لم أزل في ميدان الإسماعيلية، وسط الحشد الذي توجه الي شارع سليمان ، ولكننا لم نكد نخطو بضع خطوات داخل الشارع حتي انطلقت رصاصات من إحدي البنايات فوق محل للموبيليا، كشك أو بنترومولي، وسقط بجواري شهيد، فاندفعت الجموع داخل البناية للفتك بمن أطلق النار» 6. كانت حصيلة هذا اليوم 51 شهيدا وعشرات الجرحي. و تجدر الإشارة هنا، الي بزوغ دور شارع سليمان باشا في هذه المواجهة، كمكان للتشاحن والاقتتال، الدور الذي سوف يلعبه شارع آخر يصب في الميدان، و هو محمد محمود بدأ من 61 نوفمبر 1102. ظل ميدان التحرير، يقوم بدوره كساحة للاحتجاج السلمي أو الغاضب لمدة خمسة عشر عاما، و قبل أن يوضع بين قوسين بدءاً من عام 25 استقبل مسرحه أول مليونية، فيما عرف بمظاهرة موكب الشهداء الصامتة، يوم الأربعاء 41 نوفمبر 1591علي خلفية مطلب أساسي للقوي الرطنية التف حولها جموع الشعب المصري بكل أطيافه، وهو رحيل المحتل البريطاني، وفي نفس الوقت تخليد ذكري الشهداء الذين سقطوا بعد أن أعلنت مصر الكفاح المسلح ضد المحتل و تحللت من قيد المعاهدة المصرية البريطانية. 7 بهذا الحشد الهائل أسدل الستار علي آخر فصول تفاعل الرفض الشعبي إبان الحقبة الليبرالية الديمقراطية في مصر مع ساحات التغيير. بمجيء ثورة 25 و إحكام قبضة العسكر علي الحياة السياسية و منع التجمهر والاحتفال الا بأمر الحاكم، انحسر دور الميادين بالاحتفاء بالرموز الدينية، بإقامة الموالد، أوالموتي من الرموز الوطنية بتشييعهم الي مثواهم الأخير. في هذا السياق أصبح ميدان التحرير ساحة الجنازات الكبري بامتياز. وطالته العديد من التغيرات المورفولوجية ليصبح أكثر تعبيرا عن الثورة و مجسدا للنهج الأيديولوجي الجديد لها في محاولة لطمس كل آثار المحتل البريطاني وأيضا سلالة الأسرة العلوية ممن جلسوا علي عرش مصر وإعتبرتهم الثورة مسئولين عن خرابه، بدأ من إسماعيل الذي أدي بذخه اليي وقوعها تحت مظلة الهيمنة الإقتصادية للقوي العظمي، فرنسا وإنجلترا، مرورا بتوفيق الذي مكن الإنجليز من وضع مصر تحت الإنتداب لبريطاني وإنتهاءا بفاروق الذي أفسد الحياة السياسية و كان لعبة في يد المندوب السامي البريطاني... كل ما سطر في كتب التاريخ بعد الثورة قبل أن تعاد قراءته وصياغته بشكل يتسم بقدر أكبر من الموضوعية والنزاهة. بداية تم تغيير اسم الميدان للتحرير بدلا من الإسماعيلية، وذلك في يناير 3591، خلال احتفالية كبري أعدها الجيش في الميدان بمناسبة مرور ستة أشهر علي قيام الثورة أطلق عليها مهرجان التحرير، استمرت أربعة أيام توحد خلالها الجيش و الشعب وعاشا حالة من التوهج الثوري 8 قبل أن تنهي منظومة الحكم الجديد دور الميادين كساحات للغضب أو البهجة لعدة عقود. ثم تغيرت معالم الميدان بإضافة بعض المنشآت الهامة محل منشآت أخري، فشيد المجمع، هذا لمبني الإداري الضخم الذي يحمل الي حد كبير سمات ما أطلق عليه العمارة الستالينية (1591،معماري محمد كمال إسماعيل)، في موقع قصر الإسماعيلية القديم، ثم أزيلت الثكنات وشيد مكانها فندق الهيلتون (8591، والتون بيكر) و مقر الجامعة العربية (8591 محمد رياض) وجاور مقرالحزب الاشتراكي المتحف المصري بواجهة تطل علي النيل و أخري علي الميدان . وتم الاحتفاظ بمبان أخري كعمارات سارباكيس و بحري التي تمثل غلافه الشرقي، و مقر الجامعة الأمريكة والقاعدة الحجرية للتمثال الذي كان من المفترض أن يقام عليه تمثال إسماعيل. و في الستينيات، أعيد تخطيط الوسط ليحتوي علي حديقة كبري تتوسطها نافورة للمياه، ثم أنشئت محطة مركزية لأوتوبيسات النقل العام أمام المدخل الشرقي لفندق الهيلتون. وفي عام 0791 تم هدم فيللا هدي شعراوي التي كانت تحتل ناصية الميدان في تقاطعه مع شارع قصر النيل و كذلك السجن المقابل له و الذي كان في الأصل مبني يتبع دائرة خديجة هانم طلعت ثم تحول الي سجن أثناء محاكمة عرابي عام 2881. ومازالت هذه الأراضي فضاء الي يومنا هذا. تقلصت وظائف مركز المركز، محتفظا بوظيفتين فقط، كعقدة انتقالية للحركة الميكانيكية وإعادة توزيعها، بالإضافة الي التوقف، والجلوس والنزهة، خاصة في ليالي القاهرة الصيفية الساخنة. أما الميادين الكبري الأخري كعابدين والسيدة والمحطة، فقد ظلت السيدة تحتضن المولد كل عام كما في سابق عهدها، ولم يعد لعابدين شأن يذكر، بعد رحيل الملك و تحويل بعض أجنحة القصر الي وزارات ثم الي مقر لمحافظة القاهرة و تحويل القصر في فترة لاحقة الي متحف. بالنسبة لميدان المحطة، أو رمسيس، الذي ازدان بنافورة تحت أقدام التمثال الجرانيتي الشامخ، فبالإضافة الي وظيفته كعقدة مرورية كالتحرير، وبوابة الدخول الرئيسية للمدينة للقادم من الشمال و مدن الدلتا، ظل مكانا للفراق والتلاقي. وعزل ميدان الأوبرا تماما، وخاصة علي إثر حريق القاهرة الذي دمر فندق شبرد تدميرا كاملا، وانتقال مركز الثقل الجغرافي بشكل نهائي الي ميدان التحرير لموقعه المتوسط بين الأحياء القديمة للضفة الشرقية والأحياء الناشئة في الضفة الغربية للنيل والتي أصبحت تضم الدقي والجيزة و العجوز ومدينة المهندسين والصحفيين وأعضاء هيئة التدريس، بلإضافة للتوسعات العشوائية في بولاق الدكرور وإمبابة. ثم كان أن إستعاد ميدان التحرير عافيته و توهجه ليعود مرة أخري قبلة للثوار في لحظات خاطفة قبل ثورة يناير 1102. كانت المرة الأولي في عام 2791 في عصر السادات، إبان الحركة الطلابية عندما تم القبض علي الطلبة فجر يوم من أيام فبراير الباردة، فخرجت جموع الطلاب ثائرة تطالب بالإفراج عنهم و تحقيق مطالب الحركة التي كان علي رأسها كسر حالة اللاحرب واللاسلم والإسراع بالدخول في حرب لتحرير الأراضي المحتلة من إسرائيل منذ عام 7691 التف الشعب حول هذه المطالب و توجه الي الميدان للتضامن مع الطلبة، وظلوا مقيمين فيه عدة أيام، و ترصد رواية إبراهيم أصلان مالك الحزين، تفاصيل مرجعية كثيرة عن الميدان زمن اعتصام الطلاب المحتجين فيه، و التفافهم حول القاعدة الحجرية ولافتاتهم و هتافاتهم و حركتهم بالآلاف كأنها»الكائن الخرافي الواحد« (ص.27).9 عاد هذا الكائن الخرافي الواحد مرة أخري الي الميدان بعد أربع سنوات، في مشاهد الغضب الجماعي المحتج علي غلاء الأسعار، فيما سمي بانتفاضة الخبز، في 71 و 81 يناير 7791. و قد عبر عن هذا الغضب الدفين الذي تحول الي رد فعل جماعي معلن ومشهود مواجه بعنف مشهود أيضا، في مكان محدد ، إدوارد الخياط في رواية رامة و التنين بقوله : »ضجيج المدينة يتدفق دفعة واحدة، مختلط النبرات و الطبقات و الإيقاعات» (ص 611) 01 مرت عشر سنوات قبل أن يمتلئ الميدان بجموع من المثقفين و النخبة و الفنانين، جاءت تحتفل في مارس 2991، بإعادة إفتتاح قهوة وادي النيل بعد تجديدها علي إثر التفجير الإجرامي الذي أصابها في فبراير من نفس العام. و كانت الاحتفالية الوحيدة في مكان عام التي سمح بها نظام مبارك و غني فيها محمد نوح، وعزف علي العود نصير شمة و إنتهت في الوقت المحدد لها وظل الآلاف يتمنون أن تتاح لهم فرص أخري للتجمع والتواصل والانفعال والغناء ككائن واحد، في مكان مفتوح، بدون لقاء مسبق، بدون سابق معرفة وبدون دفع رسوم. الساحات الاحتجاجية، إرهاصات ماقبل الثورة كان يجب أن ننتظر عام 5002، تاريخ نشأة حركة كفاية، لكي ينطلق الغضب الدفين هادرا مرة أخري و تعيد الجموع الرافضة خلق و تشكيل ساحات جديدة بتواجدها واحتجاجها فيها. كان لسلالم نقابة الصحفيين الريادة خلال هذا المخاض الثوري الذي استمر ست سنوات، وكانت أحيانا جموع التظاهرين تتدفق علي شارع رمسيس أو نقابة المحامين القريبة، وبدأنا نشاهد عربات للأمن المركزي مرابطة طوال الوقت في هذه المنطقة، وكانت الوقفات الإحتجاجية تواجه بعنف بالغ، من قبل قوات الأمن التي كانت أعدادها تفوق عشرات المرات المتظاهرين. لم يحد هذا القمع من استمرارها وتوسع نطاقها الجغرافي. ثم ظهرت ساحة جديدة متمثلة في الرصيف المتسع في ميدان طلعت حرب، أمام مكتبة مدبولي، أي في الركن الجنوبي الغربي للميدان، نادرا ما كانت تتخطي هذه الحدود، نظرا لمحدودية عدد المحتجين الذي لم يتخط بضع مئات. لم تكن هذه الإحتجاجات تجمع كل أبناء الوطن، أو أناسا لا تربطهم علاقات مسبقة، بل كان الجميع يعرف بعضهم البعض، لانتمائهم الي شريحة المثقفين و النخبة السياسية. و بحلول عام 7002، ظهرت ساحة جديدة متمثلة في رصيف مجلس الوزراء، حيث تم احتلاله من قبل موظفي الضرائب العقارية للمطالبة بمساواتهم في الأجر بموظفي وزارة المالية، و بشكل غير مسبوق في تاريخ الاحتجاجات الاجتماعية في مصر، اعتصم هؤلاء المحتجون لمدة تزيد عن ثلاثة أسابيع. وتضامن معهم سكان الشوارع المحيطة وأصبحوا يأتون اليهم بالبطاطين والطعام، و يقضون معهم شطرا من ليل شتاء ديسمبر البارد. وانتهت الحركة الاحتجاجية التي بدأها 0004 متظاهر من موظفي الضرائب، بإنشاء نقابة مستقلة لهم و بتدشين مكان جديد للغضب سوف يشهد معركة دامية أثناء المرحلة الانتقالية التي تولي فيها المجلس العسكري حكم مصر، فقدت فيها مصر زهرات شبابها التي تفتحت أثناء الثورة ومنهم، الدكتور علاء عبد الهادي و الشيخ عماد عفت، و علي إثر تفجير كنيسة القديسين في الأسكندرية عشية أول يناير 1102، ظهر شارع و دوران شبرا كأماكن جديدة للاحتشاد. حتي جاء يوم 52 يناير، ليستعيد ميدان التحرير سابق عهده. ولكنه لم يكن المكان الوحيد في هذا اليوم الذي ضم كل المحتجين، فقد تجمع العشرات علي سلالم محكمة النقض التي تحتل ناصية شوارع 62 يوليو و رمسيس، لتنضم الي سلالم نقابة الصحفيين كساحة جديدة للاحتجاج. أما واجهات مجاري المياه، فقد ظهرت لأول مرة علي إثر مقتل خالد سعيد علي يد الشرطة في الأسكندرية، فقام النشطاء بعمل سلاسل بشرية، للالتفاف حول قوانين منع التجمهر، إمتدت من كورنيش البحر المتوسط الي كورنيش النيل في أسوان، بمحاذاة كل المجاري المائية علي طول مسارها، كأفرع النيل و القنوات وحتي الكباري، وسيظل هذا الابتكار الجديد في وسائل الاحتجاج يطبع واجهات المجاري المائية و الكباري ، ككوبري قصر النيل، و من ثم ينتقل الي الشوارع الرئيسية. وبالنسبة لتلك الفراغات الطولية، فلم يكن لها دور محدد يذكر قبل ثورة 52 يناير. ساحات الغضب في مرحلة الثورة لم تقتصر تداعيات ثورة 52 يناير 1102 علي استعادة ميدان التحرير لدوره التاريخي كمسرحا لأحداث الثورة و محركا لها، ولكنها أدت الي العديد من التغيرات أثرت علي المحيط المباشر للميدان وطالت مناطق أخري أبعد ربطتها به شبكة من المحاور استعملت كمسارات محددة للولوج اليه أثناء الحشود الهائلة التي أطلق عليها مليونيات. فيما ظهرت ساحات جديدة، وأعيد توزيع الأدوار بينها وبين الميدان المركزي، بشكل تكاملي أو تصارعي، نتج عن الفرز و الاسقطاب السياسي والأيديولوجي الذي صبغ كل موضع بلون معين، فأصبح الميدان الجامع الشامل يناقض، في مفارقة شديدة، تعريف الفراغ العام عند حنا أردنت كمكان لمقاومة الإقصاء، ليرسخ لمفهو م مغاير في الممارسات التي تلت الثمانية عشر يوما التي أسقطت مبارك. علي إثر انسحاب الشرطة يوم جمعة الغضب في82 يناير 1102، بدأ الثوار يستعدون لإقامة طويلة في الميدان حتي إسقاط النظام، محولين الميدان الي مدينة صغيرة متعددة الوظائف من خلال تقسيم محبك للفراغ العمراني. تركزت خيام الاعتصام في الحديقة المركزية وفي الساحة الأمامية للمجمع، أقيمت ثلاثة منابر في الأركان عند مداخل الميدان في التقائه في الجنوب الشرقي مع شارع محمد محمود، وشارع القصر العيني في الجنوب، وشارع طلعت حرب في الشمال الشرقي. أنشئت ثلاثة مستشفيات ميدانية، واحد في الصينية المركزية، وثان وراء محل هارديز للمأكولات السريعة داخل ممر يصل بين شارعي محمد محمود و التحرير، و الثالث في الفسحة عند مدخل طلعت حرب إضيف اليهما مركز للإسعاف السريع ناحية شارع شامبليون بالقرب من ميدان عبد المنعم رياض. وللاستجابة لاحتياجات المترددين علي مدار اليوم، و المعتصمين، بدأ الباعة الجائلون ينتشرون عند المداخل وفي الوسط، يعرضون شتي أنواع المأكولات الشعبية السريعة و الفطائر و المشروبا ت ووسائل التسلية من لب وسوداني وفشار، أضيفت اليها الأعلام و التيشرتات والمزامير و الطواقي الصوف والكوفيات بألوان العلم ،وخدمات من نوع رسم العلم علي الوجه. و مع تطور المعيشة و تنوع الأنشطة، إقيمت خيمة تضم رسومات الكاريكاتير التي أبدعها الثوار والفنانون، وأطلق عليها متحف الثورة، و ورشة لإبداعات الأطفال اتخذت مكانا لها بالقرب من مدخل طلعت حرب في شارع ميريت الذي يؤدي الي المتحف المصري وميدان عبد المنعم رياض. كما أقيمت شاشات تليفزيونية لمتابعة تطور الأحداث وأصبحت المنابر التي يتناوب عليها المتحدثون في الصباح، تستقبل بعض الفعاليات الفنية مساء. وعلي إثر الاعتداءات المتكررة ممن أطلق عليهم الطرف الثالث، وخاصة إبان الأربعاء الدامي 2 فبراير، نشأت ضرورة تحصين الميدان و مراقبة مداخله وعدم السماح لأي قادم بدخوله بدون تفتيش، وهكذا فرض الميدان/المدينة قوانينه الداخلية وخلق بواباته من الأسلاك الشائكة أو عربات الشرطة التي تم حرقها من قبل الثوار، وامتثل جميع الرواد للتفتيش دون تذمر يذكر. امتد نطاق تلك التغيرات لمحيطه المباشر واتسع ليشمل دوائر أبعد لتتوزع الأدوار في ظل منظومة تتسم بمرونة شديدة طبقا لتوالي حالات التمدد والانكماش للميدان المرتبطة بموجات مد و جزر الثورة ووسائل تعبئة الجماهير ومدي استجاباتها. في الحالة الأولي، أي حينما يصل الميدان الي درجة التشبع القصوي بتدفق البشر عليه، تلعب الشوارع المؤدية اليه، وظيفة مزدوجة : الأولي كأنابيب تتيح تدفق الحشود عليه، و الثانية كأوعية تمتص ما يفيض من البشر وتعيد ضخهم و توزيعهم في محيطه أو أماكن أبعد، ساحات أو ميادين ثانوية. و تنقسم المحاور التي تصب في الميدان الي نوعين من المحاور. الأول يشمل شوارع تؤدي لكثير من الأطراف المشاركة بفعالية في صنع القرار، كشارع القصر العيني لاحتوائه علي مربع الوزارات ومجلس الوزراء و البرلمان، شارع محمد محمود الذي يفضي الي وزارة الداخلية، شارع التحرير و ويؤدي الي محافظة القاهرة في ميدان عابدين مرورا بميدان باب اللوق الذي تطل عليه الغرفة التجارية، شارع شامبليون و يؤدي الي دار القضاء العالي و من ثم محكمة النقض واخيرا شارع الشيخ ريحان الذي يفضي الي السفارة الأمريكية عبر ميدان سيمون بوليفار. المجموعة الثانية تضم الشوارع التي تربط مسرح الأحداث الرئيسي بالصالة أو الغرفة الخلفية التي يستعد فيها البطل قبل الدخول الي خشبة المسرح الرئيسية، لعب هذا الدور ميدان طلعت حرب. وتصب فيه، شوارع طلعت حرب و قصر النيل ومحمود بسيوني ، قبل أن تتوغل في عمق وسط المدينة. و يعتبر هذا المثلث الامتداد الطبيعي لميدان التحرير، لقيامه بوظيفة الإعداد للفعاليات و الحشد الجماهيري، نظرا لوجود مقار حزب الكرامة علي مسافة متساوية من الميدانين في شارع طلعت حرب، وحزب الغد في قلب ميدان طلعت حرب و حزب التجمع في مبني يقع علي ناصية شارعي كريم الدولة و محمود بسيوني وله شرفة تطل علي ميدان طلعت حرب، و أخيرا دار ميريت للنشر في شارع قصر النيل التي غدت مكانا لالتقاء الشباب الثوري من المعتصمين. وإذ تعاظم دور ميدان طلعت حرب نظرا لموقعه الاستراتيجي في قلب وسط البلد، و تحكمه في مجموعة من الشرايين الهامة مما جعله معبرا أساسيا لكل قادم من الأطراف الشرقية للمدينة الي التحرير. الا إن درجة هذا الأخير انحطت من الساحة الرئيسية للاحتجاج قبل الثورة الي دور الساحة الثانوية. فيما اكتسب شارع طلعت حرب الذي يربطه بميدان التحرير أهمية خاصة لتمدد هذا الأخير تجاهه و لكونه من أهم المداخل جهة الشرق- يقابله مدخل كوبري قصر النيل في الغرب- ولانتشار المقاهي والمطاعم المعروفة علي جانبيه، كريش والأستوريل، و كذا أماكن الأكلات السريعة مثل فلفلة وتوم آند بصل، مما يتيح للمقيمين داخل الميدان الإنسلاخ عن الجموع وأخذ النفس بعض الوقت والجلوس والنقاش بعيدا عن صخب التحرير وزحامه. وقد ساهم أيضا في إيواء بعض المعتصمين الذين كانوا يفترشونه بدون خيام أثناء الليل، متخذين من الفراغات بين التقاء الرصيف والستائر الحديدية للمحلات الكبري فراشا. وإذ لعبت كل تلك الشوارع التي يجمعها الميدان بين أطراف أصابعه دور خط الدفاع الأول عند إغارة البلطجية وقوات الأمن علي المعتصمين الآمنين والمتظاهرين السلميين، إلا إن بعضها تحول الي ساحات للتراشق و القتال بين الثوار و الأمن المركزي ومعاونيه ، أمثال شوارع قصر العيني، والشيخ ريحان ومحمد محمود. وقد عرف هذا الأخير معارك دموية سالت خلالها كثير من الدماء وقنصت فيه عشرات العيون، حتي أطلق عليه الثوار شارع »عيون الحرية« ، وقامت السلطات بإغلاق هذه الشوارع بحوائط خرسانية سميكة مما أدي لقطع الصلة بين الميدان ومحيطه المباشر جهة الجنوب والجنوب الشرقي. لم تقتصر التغيرات التي طالت ميدان التحرير ومحيطه علي الوعاء فقط، باكتسابها وظائف جديدة كأماكن للقاء والمعيشة و التبادل والاستهلاك والنزهة والنقاش والإقامة ، لكنها طالت أيضا بعض أجزاء غلافه الخارجي. تجلت في هذه اللوحات الجدارية العبقرية المتجددة، التي كانت السلطات تزيلها في الصباح الباكر ليعيد الشباب المبدع رسمها في المساء. إن تلك الجداريات الفريدة، في شارع محمد محمود، و علي جدران المجمع، والحوائط الأسمنتية العازلة، تتنوع في تشكيلاتها وأحجامها، تحكي يوميات الثوار وتخبر عن القهر و التسلط، وتذكر بشهيد أو معتقل، أو تطلق صرخة من أجل العدالة الاجتماعية أو الوحدة الوطنية. هذا الجرافيتي، جعل الجدران تتكلم، وأضاف قيمة جديدة للفراغ العام بحيث أصبحت حوائط بعض الشوارع المؤدية للميدان كالكتاب المفتوح تقص قصة ثورة وتخلدها علي الجدران مثلما فعل الأقدمون علي جدران المعابد. والي جانب ما أصاب العمارة الثابتة، فالعمارة المتحركة، أي البشر الذين يتحركون في الفراغ العام قد تغيرت أيضا علاقتهم بالأمكنة و إحساسهم بها و تفاعلهم معها ومسئوليتهم عنها. فهم يقومون بتشكيلهامن خلال التواجد العفوي فيها في مجاميع متناثرة، تفصل بينها فراغات يحتلها الباعة الجائلون، و تمثل تكتلات تتنوع في أحجامها و كثافتها، تتجمع في أماكن محددة في الميدان، حول المداخل و المنابر، وفي الوسط، أو حول نشاط محدد، عزف علي عود، رسم علي الأسفلت، خطيب أو شخصية سياسة هامة عابرة، أو مجرد جلسة نقاش علي مقاعد مع كوب من الشاي أثناء انكماش الميدان. ثم ما تلبث في أوقات تمدده عندما تتدفق عليه حشود من البشر تأتي من كل صوب أن تتقارب ثم تلتحم لتصبح كتلة واحدة صماء تلتصق فيها الأجساد لساعات طويلة تربطهم روح واحدة وأهداف محددة. في هذه الوحدة الجديدة يتخطي الأفراد كونهم أفرادا و تنبثق روح تؤججها نيران الغضب و الرفض، و ترتفع الحناجر بهتاف واحد،« ليصوغ ذاتا جمعية تتحرك كأنها فرد واحد و تدافع -ربما حتي الموت أو الاستشهاد، - وطأة خانقة مطبقة «. 11 ثم تتخلخل الكتلة، وتنحسر ليستعيد الفراغ العام بعض وظائفه الأساسية. هذا التواجد، و التجاور و الالتحام، لأفراد وجماعات متنوعة جنسيا، متباينة اجتماعيا وعمريا، بشكل دوري في الفراغ العام يعبر عن جنوح نحو الاستحواذ والحق في المدينة و الاستمتاع بها. تبلور هذا الحق ليس فقط في أوقات التمرد، ولكن في أوقات البهجة، فلأول مرة يخرج الفن للشارع، في فعاليات الفن ميدان، وهي احتفالية تقام أول سبت من كل شهرفي ميدان عابدين بالقاهرة وميادين أخري في الأقاليم. وبذلك أصبحت لميدان عابدين وظيفة جديدة، أعطته قبلة الحياة، كمكان لعرض إبداعات الشباب من حرف تقليدية ، للفن التشكيلي و الجرافيتي، والعروض المسرحية، و الأفلام الوثائقية القصيرة، و الأفلام التجريبية، و الغناء الفردي والجماعي، والأراجوز في تجسيداته الحديثة، ومعارض للكتاب للناشرين الجدد، فاكتسب المكان قيما ثقافية وسوسيولوجية جديدة كمكان للاستمتاع وقضاء الوقت والتواصل ونبذ الإقصاء و مقاومة الجهل و الظلامية والإنغلاق و نشر المعارف و تبادل الخبرات. في المقابل، ظل ميدان التحرير طوال ال81 يوما للثورة، الميدان/المدينة بلا منازع، ذابت فيه كل الخلافات و التباينات، ولم يتأثر كثيرا بظهور ساحة جديدة للإحتجاج مناوئة للثورة أمام جامع مصطفي محمود في حي المهندسين علي الضفة الغربية للنيل. وعلي الرغم من سيطرة تيارات بعينها علي المنابر المختلفة لميدان التحرير، و تحوله مع مرور الوقت الي جامع كبير في الهواء الطلق في مواقيت الصلاة، فلم يترتب علي هذه الظواهرأ ي انقسامات حادة. الا أنها كانت دفينة في القلوب حتي انفجرت ظهر يوم 81 فبراير حينما اعتلي الشيخ القرضاوي المنصة الرئيسية بعد أسبوع من تنحي مبارك، ليلقي خطبة انتصار الثورة، علي إثرها تم إقصاء الثوار الحقيقيين ومنعهم من الكلام فتركوا ميدان التحرير غاضبين و تراجعوا الي ميدان طلعت حرب يتبعهم الآلاف ليبدأ فاصل جديد من الثورة تمت فيه عملية من الفرز السياسي أثرت بدورها علي الفرز المكاني تجسدت في ظهور ساحات للاحتجاج ذات توجهات سياسية متصارعة و مطالب متناقضة. في السياق المضطرب الذي صاحب المرحلة الانتقالية التي أدار فيها المجلس العسكري البلاد، و التي إمتدت من 11 فبراير 1102 حتي الانتخابات الرئاسية التي فاز فيها رئيس ينتمي لجماعة الإخوان المسلمين في 03 يوينو 2102 لم تهدأ جذوة الثورة، وانصب الاحتجاج علي المجلس العسكري وبشكل أقل الإخوان وأعوانهم من الجماعات الإسلامية. غدا الميدان في مركز الصراع بين التيارات المدنية و التيارات الإسلامية، خاصة علي إثر التصويت علي التعديلات الدستورية الأولي التي قسمت المجتمع بشكل لا رجعة فيه، بين التيارات المدنية، الكفار، والتيارات الإسلامية الموعودة بالجنة. في خضم الصراعات المحتدمة بين جميع الأطراف، ظهرت ساحات جديدة للاحتجاج والصدام شهدت أحداثاً دموية فارقة في مسار الثورة. تمثلت الأولي في منطقة كورنيش النيل، أمام مبني التليفزيون في ماسبيرو، الذي شهد عدة وقفات للعاملين في الإعلام للاحتجاج علي سياسة الوزير الجديد والمطالبة باستبعاد القيادات الفاسدة. وعلي صعيد آخر، تصاعد الاحتقان الطائفي في قري صعيد مصر وبعض المحافظات الشمالية تم خلالها الاعتداء علي دور عبادة المسيحيين وممتلكاتهم و التنكيل بهم و تهجيرهم من قراهم ، ولم تجد جلسات الصلح في تهدئة النفوس، حيث ظل المعتدون بدون عقاب رادع . فانطلقت مظاهرة سلمية يوم التاسع من أكتوبر1102 من شبرا تضم مسلمين و مسيحيين باتجاه ماسبيرو فيما عرف بيوم الغضب القبطي، ردا علي هدم سكان من قرية الماريناب في محافظة اسوان لكنيسة. و أثناء تظاهرتهم أمام مبني التلفزيون ، تعرضوا لهجوم عنيف من قبل قوات الشرطة العسكرية والأمن، أدت الي سقوط 42 قتيلا والعديد من الجرحي. وبعد مضي ستة أسابيع علي مذبحة ماسبيرو، اندلعت يوم السبت 91 نوفمبر مواجهات أكثر عنفا و دموية في ميدان التحرير و الشوارع المحيطة به، محمد محمود و الشيخ ريحان وإمتدت حتي شارع الفلكي ومنصور عند وزارة الداخلية فيما عرفت بأحداث محمد محمود التي استمرت حتي يوم الجمعة 52 نوفمبر. وخلال هذا الأسبوع، قامت قوات الأمن المدعومة بالشرطة العسكرية بشن حرب إبادة جماعية لجموع المتظاهرين طبقا لتعبير مركز النديم للتأهيل، استعملت فيها كل أنواع الغازات السامة القاتلة، وإطلاق الرصاص بكثافة شديدة، وحرق خيام المعتصمين والمستشفيات الميدانية، أسفرت عن سقوط مئة شهيد وإصابة مئات الآلاف. وكان من ضمن تداعياتها إستقالة حكومة الدكتور شرف و تشكيل حكومة جديدة برئاسة الجنزوري. وقد تخللت حرب الشوارع بين المتظاهرون وقوات الأمن، عدة فاعليات في ميدان التحرير كان آخرها وأهمها جمعة الفرصة الأخيرة يوم 52 نوفمبر التي دعت اليها كل الحركات الثورية والأحزاب السياسية وشارك فيها الدكتور البرادعي وقاطعتها كل التيارات الإسلامية، فترسخت القطيعة وهتف المتظاهرين للمرة الأولي ضد الإخوان. وبعيدا عن التحرير ومحيطه، تجمع أنصار المجلس العسكري في ميدان العباسية مدشنين بذلك ظهور ساحة جديدة للتأييد، بعد أن فقد ميدان مصطفي محمود هذا الدور. وقبل أن يجف دم شهداء محمد محمود، اندلعت مواجهات أخري عنيفة في الفترة بين 61 و 32 ديسمبر، كان مسرح عملياتها رصيف مجلس الوزراء و شارع القصر العيني، وحصيلتها 71 قتيلاً و أكثر من الف جريح، وتم خلالها حرق المجمع العلمي. واستشهد الشيخ عماد عفت ليصبح مع مينا دانيال، أحد شهداء مذبحة ماسبيرو رمزا للوحدة الوطنية وعروتها الوثقي، لا يخلو جرافيتي من وجهيهما متعانقين ولا مظاهرة من هتاف، قتلوا عماد قتلوا مينا، كل رصاصة بتقوينا. كرس يوم الذكري الأولي لثورة 52 يناير الانقسام بين التيارات المدنية و الإسلامية، حيث تجمع كل منهما حول منبر مستقل، و نشأت بينهما بعض المناوشات، لتكون المرة قبل الأخيرة التي يحتويهم نفس المكان، ودأبوا بعد ذلك علي التجمع فيه بشكل منفصل وتبادلوا تواجدهم به ليتغير المشهد والجمهور من جمعة الي أخري. استعاد ميدان التحرير في لحظة خاطفة، دوره كموحد للمصريين علي إثر الإعلان عن فوز محمد مرسي العياط رئيسا، ما لبث هذا الأخير أن نكص عن كل العهود التي أخذها علي نفسه بسرعة مذهلة، مصيبا الجموع التي إحتشدت لتحيته في ميدان التحرير، طوعا أو جبرا، بخيبة أمل قاهرة. فتتصاعد الإحتجاجات مرة أخري، تنحصر بداية في الغرفة الخلفية، ميدان طلعت حرب في مرحلة الإعداد والتأهب، لتصب في ميدان التحرير لحظة رفع الستار في حشد لامثيل له، دعت اليه القوي الوطنية لجبهة الإنقاذ علي إثر الإعلان الدستوري ل12 نوفمبر 2102 الذي استولي فيه الرئيس المنتخب علي كل السلطات. وبمناسبة هذا التجمع الهائل الذي أعاد لميدان التحرير شمسه الذهب يوم 42 نوفمبر، و ذكرنا بمشهد ليلة التنحي الحادي عشر من فبراير، إبتدعت جبهة الإنقاذ تقليدا جديدا للحشد، تمثل في خروج مسيرات من أماكن تجمع محددة، تتبع مسارات بعينها، علي رأس كل منها شخصية سياسية عامة من قادة جبهة الإنقاذ، كالدكتور البرادعي، حمدين صباحي، عمرو موسي، جورج إسحق و الدكتور أبوالغار، تصب كلها تباعا في ميدان التحرير. خلق هذا التقليد منظومة جديدة وزعت فيها الأدوار بين أماكن للتجمع، ثانوية ورئيسية، مؤدية الي ظهور ساحات جديدة، واستعادة أخري لدورهاالقديم. تتدرج ساحات التجمع كالآتي: في المهندسين، ساحة كنيسة الوحده بشارع الوحده بجوار كشري الاستاذ في إمبابة، الساحة الصغري، ميدان مصطفي محمود الكبري. في الجيزة، عدة ساحات صغري: جامع خاتم المرسلين با لعمرانيه، رصيف محطة الطالبية في فيصل ،ساحة جامع السلام في الهرم، ميدان محطة مترو المنيب، والكبري، ساحة جامع الإستقامة بالجيزة. - جنوبالقاهرة، الصغري : ميدان الباشا بالمنيل، ساحة جامع عمرو بن العاص بمصر القديمة، مسجد الفتح بالمعادي، الكبري، ميدان السيدة زينب - شمال القاهرة الكبري، دوران شبرا - شرق القاهرة الكبري، جامع الفتح برمسيس -شمال شرق القاهرة الكبري، مسجد النور في العباسية، تربط بين الساحات الفرعية و الرئيسية شبكة من المسارات تصب كلها في الميدان الكبير. خطت الجموع الغاضبة في هذه الساحات والمسارت تاريخا جديدا لنضالها طبعته باحتشادها و بمواكبها و هتافاتها في مشهد سيظل يطبع الصورة الذهنية لتلك المحاور و الساحات دهرا. سيطرت إذن القوي المدنية علي ميدان التحرير من جديد في انتفاضة ضد الإخوان اطلق عليها الثورة الثالثة ، في إشارة الي الأولي ضد النظام المباركي، والثانية ضد العسكر. و لم تكتف القوي المدنية باستعادتها لميدان التحرير، ففتحت جبهة أخري في ساحة أخري نائية تضاهي الميدان في اتساعه، أمام قصر الاتحادية في ضاحية مصر الجديدة في الشرق. نقلت اليها جزء من احتجاجاتها، واعتصامها، ونقلت اليها بعض الأنشطة كمعرض صور الثورة وزودته بمركز للإسعافات السريعة. سرعان ما قامت مليشيات الإخوان مدعمة بقوات الأمن بالاعتداء علي المعتصمين وفض اعتصامهم بشراسة و عنف لا مثيل لهم، وقاموا بالقبض علي الشباب ونشبت مصادمات دامية إستشهد فيها الصحفي الحسيني أبوضيف أثناء تأديته لعمله برصاصة مجهولة المصدر، و تم القبض علي أكثر من أربعين من الشباب ،تم الاعتداء عليهم وتعذيبهم بسادية منقطعة النظير. امتلأت ساحة الاتحادية مرة أخري بالحشود الغاضبة و سطرت رفضها وإدانتها للمارسات القمعية للسلطة و أتباعها علي جدران القصر، وإنتشرت خيام الاعتصام مرة أخري، لتزال بعد عدة مصادمات مع الأمن. في مقابل غضب القوي المدنية ونجاحها في حشد الملايين ليس في القاهرة فحسب و لكن في كل المدن المصرية، وفي ظل سيطرتها علي ساحات استرتيجية ، لم تجد قوي التيارات الإسلامية بديلا عن خلق ساحات جديدة، تلافيا لصدام لاتحمد عقباه مع الآخرين. فدأبت علي حشد أنصارها لتأييد النظام أمام جامع رابعة في مدينة نصر وحول تمثال نهضة مصر أمام جامعة القاهرة في الجيزة. وتعتبر الأولي ساحة مستحدثة لم يرد لها ذكر في أي مناسبة، أما شارع الجامعة فقد كان و ما زال مسرحا للاحتجاجات والمسيرات الطلابية و الصدام مع قوات الأمن. في ظل هذه السيولة الجغرافية لساحات الإحتجاج، والتأييد، ظهرت مؤخرا أماكن جديدة، كالمنصة أمام نصب الجندي المجهول في مدينة نصر، التي حلت محل ميدان العباسية للمؤيدين للمجلس العسكري وساحة قصر القبة بدلا من الاتحادية لمناهضي حكم الإخوان المتتبعين لساكن القصر في رحلة تجواله من قصر الي آخر. لم تغير ثورة الخامس و العشرين من يناير المدينة. لم تبدل شوارعها وأزقتها وميادينها. و لم تترك الحجارة أماكنها. من تغير هو البشر، ووعيهم بالمكان وانتزاعهم لحقهم في المدينة و تحولهم لمواطنين. بتوالي فصول الثورة علي مدي عاميين ونصف العام، ُأعادوا صياغة شبكة من العلاقات التراتبية بين الأماكن التي احتوتهم في لحظات الغضب أو البهجة والاحتفال، و خطوا تاريخا جديدا لها خلال مسيراتهم و تجمعهم، خالقين علامات مميزة جديدة في المدن، لا تمثل بالضرورة بؤرا بصرية هامة، و لكنها طبعت الصورة الذهنية كساحات للتغيير وكأماكن انطلاق للحرية و الديمقراطية. وخلال تواجدهم في هذه الساحات، أعادوا تشكيل فراغاتها لتطويعها لأغراض متعددة، ثقافية وسياسية و إقتصادية واجتماعية فأعطوا للفراغ العام معني جديدا، معناه الحقيقي الذي لم يكن له قط .ُ ليس فقط في القاهرة، و لكن في كل المدن العربية و مدن الربيع العربي حيث اكتسبت ساحات التغيير شهرة عالمية ووضعت في مصاف الأماكن التراثية وتحولت الي مزارات كميدان التحرير في مصر، وجادة الحبيب بورقيبة في تونس وساحة الحكمة في صنعاء والحرية في تعز، وميدان اللؤلؤة في المنامة. ونالت أيضا شهرة محلية في أوطانها كميادين القائد إبراهيم وساحة المنطقة الشمالية في الأسكندرية، وميادين الأربعين في السويس، و المسلة في بورسعيد، والممر في الإسماعيلية، والثورة في المنصورة والشون في المحلة، و المحطة في طنطا، والساعة في دمياط و دمنهور والثورة في الفيوم، وبالاس في المنيا، والتركي في أسيوط، وأبوحجاج في الأقصر، وتطول القائمة إذا أضفنا الساحات في المدن المتوسطة والصغري كدسوق، المطرية والمنزلة. لقد جسدت ساحات التغيير فجرا جديدا للحرية و المواطنة، فتحت آفاقا جديدة و ملهمة لإعادة تهيئة ميادينها وشوارعها لتواكب توق الأفراد و الجماعات الي الرفقة، و الاندماج و التواصل و التأمل و الاستمتاع و الاحتجاج ، و تطلعهم لنوعية حياة أفضل لهم و للأجيال القادمة. الهوامش Wang, P., (2002). Systematic1 - Construction of Urban Public Space. Nanjing: Southeast University Press (in Chinese) 2 حنا اردنت 3 حسين حمودة، ميادين الغضب، قراءات في روايات مصرية، دار العين، 2013 4 أقيمت هذه الحوائط عند التقاء شوارع القصر العيني، و محمد محمود و الشيخ ريحان بميدان التحرير، و كل الشوارع التي تربط حي جاردن سيتي بالكورنيش في المنطقة الواقعة بين فندقي سميراميس و كيمبسكي بالإضافة الي الحائط الذي يسد منفذ الشارع الذي تقع فيه السفارة الأمريكية ناحية ميدان سيمون بوليفار. 5 أيام مصرية، العدد 40، 2011، ميدان التحرير في ذاكرة التاريخ، ص، 41 6 فاروق القاضي، فرسان الأمل، ص 236 7 أيام مصرية، مصدر سابق، ص 46 8 نفس المصدر السابق، ص 57 9 حسين حمودة، مصدر سابق، ص 225 10 نفس المصدر السابق، ص 223 11 حسين حمودة، مصدر سابق، ص. 226 والفراغ العام المفتوح هو »الحيز المكاني الذي يوجد بين المباني في المناطق الحضرية، تتحقق فيه عدة شروط أساسية، بأن يكون مكانا متاحا لجميع المترددين، ومكان للقاء و التفاعل والجلوس في بيئة طبيعية، معبرا بذلك عن الصورة الذهنية للمدينة التي تنطبع في الخيال الجماعي. و يتسم الفراغ العام بديناميكية عالية، وله أغراض متعددة، ثقافية، سياسية، إقتصادية ».1 ويعتبر وبامتياز مكان« مقاومة الإقصاء وممارسة الحرية«2. وفي بعده العمراني، فإن الفراغ العام يضم أشكالاً متنوعة ومتدرجة من الأماكن، كالميادين، الشوارع،،واجهات المجاري المائية والحدائق العامة. أما في أبعاده السياسية والسوسيولوجية، فهو الوعاء أو المحتوي لتلاقي والتحام الأفراد والجماعات والحشود في حالات الاحتجاج أو الاحتفاء بغض النظر عن انتماءاتهم الطبقية أو الأيديولوجية. غدا بعد ثورة 52 يناير،« موضعا لتجسيد وعي جديد تكون في المدينة، وتغذي بمعانيها، قاد -فيما قاد- الي تجربة الغضب الجماعي طامحا الي التغيير«. 3 ولا تقتصر هذه المعطيات الجديدة علي المدن المصرية فحسب، ولكنها طالت كل مدن الثورات العربية. مما يحذو بنا الي تبني فكرة نشأة البوليس Polis، أي إطار الممارسة السياسية محولة الفراغات العامة، وعلي وجه الخصوص الميادين المركزية، الي مواضع لتمثيل الشعب أو عموم الناس و أماكن أساسية لاجتماعاتهم ولإقامة احتفالاتهم و للتعبير بأشكال مختلفة عن آرائهم و إحتجاجهم وغضبهم في تماهي مع فكرة الأجور أو الفورم في المدن الإغريقية والرومانية التي كرست معاني كالديمقراطية والمواطنة، متحققة بشكل غير مسبوق في مدن الربيع العربي. وإذ لن نتناول هنا البعد العمراني للفراغ العام، حيث لم يصبه تغيير يذكر، عدا آثار الحريق التي طبعت واجهة مبني الحزب الوطني القديم، إثر محاولة إضرام النار فيه مساء جمعة الغضب 82 يناير 1102، وتمثل التغيير الثاني في هذه الحوائط الخرسانية القبيحة التي أقيمت في بعض شوارع منطقة وسط القاهرة للحيلولة دون وصول المحتجين الي منشآت سيادية، كمربع الوزارات و مجلس الوزراء و البرلمان ووزارة الداخلية و السفارة الأمريكية.4 سوف نلقي الضوء علي التغيرات التي طالت العلاقة الجدلية بين الفراغات العامة و المواطنين في بعديها الزماني والمكاني في مدينة القاهرة ، متبنين تصنيف هذه الأماكن طبقا لموقعها الجغرافي ومورفولوجيتها ومركزين علي أربعة أنماط هي: الميادين، ساحات الوقفات الاحتجاجية، تشمل سلالم وأرصفة النقابات و المنشآت السيادية، المحاور الطولية و تشمل الشوارع وواجهات المجاري المائية و الكباري. الميادين للميدان أهمية كبيرة في الحضر، فهو صرة المدينة أو الحي أو الكوميونة ومركزها الحيوي، و هو عقدة التقاء لعدة محاور تتدرج في أهميتها، وناقل للحركة تصب فيه و يعيد توزيعها، أي أنه بمثابة القلب الذي يتحكم في عملية الدورة الدموية في جسد الإنسان، يصله الدم ويعيد ضخه من خلال شبكة من الشرايين والأوعية ، وهو أيضا بؤرة تجمع بصرية لمنشآت معمارية فريدة في تصميمها أو وظيفتها تصنع غلافه الذي يستمد منها سماته التشكيلية والمعمارية والعمرانية. ويمكن تعظيم شأنه بإقامة تمثال يمثل شخصية عامة أثرت في مجريا ت الأمور في الفراغ الأرحب و الأوسع، الوطن، في أي من المجالات السياسية أو الثقافية فتضفي عليه قيمة رمزية تضاف الي قيمه الوظيفية والفنية والتاريخية، في ارتباط تلك الأخيرة بالأحداث التي وقعت به و دلالتها لسكان المدينة. و يمكن للميدان أن يكون مجرد ساحة مغلقة أمام حركة السيارات تطل عليها منشأة دينية هامة، أو قصر أو أي مبني عام يعرف بها و تعرف به. و تتدرج الميادين في حجمها ووظيفتها و أهميتها و شكلها و موقعها الجغرافي و مدي تفاعل العامة معها. وأهم هذه الميادين في مدينة القاهرة، و التي ارتبط اسمها بالثورة، ميدان التحرير- وهو مركز المركز- ميادين عابدين والسيدة زينب، وطلعت حرب وتعتبر من الميادين رئيسية، بالإضافة الي، ميادين عبد المنعم رياض، ، مصطفي محمود، والعباسية. وهي من الميادين الثانوية. لا يعتمد هذا التصنيف بين رئيسي وثانوي علي المساحة، ولكن علي دلالة المكان بالنسبة للسكان ورؤيتهم له و تفاعلهم معه. فهذه الميادين لم تنشأ في الأصل لتكون مجالا لتجمع العامة سواء بالاحتفال أو الاحتجاج، ولكنها اكتسبت تلك الوظائف بتواجد الناس فيها وتدفقهم عليها و تجمعهم فيها في سياقات تاريخية محددة، فرسخت هذه الوظائف في بعضها، وعبرت البعض الآخر دون أن تترك أي بصمة. و علي الإطلالات علي بعض ميادين للغضب قامت بادوار مهمة، إستنادا الي الأدب وشهادات الباحثين تمكننا من التوقف عند بعض المشاهد التي تتيح التعرف علي تطور هذا الدور وانتقاله من موضع الي آخر في ارتباطه مع ديناميكية التحضر و العلاقة بين الميدان بالمدينة وحركة الطبقات الاجتماعية فيها وتشكل وعيهم بها. في رواية أولاد حارتنا لنجيب محفوظ، كان ميدان بيت القاضي هو مسرح الإحتجاج ، حيث تخترقه مظاهرة يموت فيها الطفل سلومة (ص 53) في إشارة دالة و تماهي مع الطفل جافروش الذي قتل أثناء الكوميونة في باريس في رواية فيكتور هوجو، البؤساء)- كما يشير الكاتب الي مظاهرة أخري يموج بها نفس الميدان (ص 61) في حديث الصباح والمساء. وفي سياق تاريخي آخر، إبان ثورة 9191، تنتقل ثورات الغضب الي ساحات أخري، ميدان السيدة زينب و المحطة (رمسيس حاليا) حيث يستشهد فهمي الطالب الثائر في بين القصرين (ص 375). كما تتجه الحشود الغاضبة أيضا الي ميدان عابدين، (نفس الصفحة) 5. سبقت إذن كل تلك الميادين، ميدان التحرير كساحات للغضب، وإذ تواري دورها بعض الوقت لصالح هذا الأخير، الذي سيصبح الوعاء الرئيسي والمحرك الأول لأحداث تاريخية فارقة سالت علي أرضه خلالها دماء المصريين ، فسوف تعود مرة أخري لتقوم بأدوار ثانوية و مكملة لدور الميدان المركزي، التحرير. نشأ هذا الميدان في منتصف القرن التاسع عشر في إطار خطة تحديث القاهرة التي نفذت في عصر اسماعيل، وسمي ميدان الإسماعيلية. ولم يكن في البداية في قلب القاهرة الجديدة و لكن علي تخومها. في حين كان ميدان الأوبرا، الذي كان بمثابة المفصلة بين شطري القاهرة العثمانية والقاهرة الخديوية هو المكان الرئيسي لتجمع العامة لسماع خطبة العرش أو إبان احتفالات الأمراء بأعياد ميلاد أو زواج أبنائهم في حديقة الأزبكية القريبة. لم تكن ساحة ميدان التحرير تستعمل سوي للحشود العسكرية لقاطني ثكنات قصر النيل من الجنود البريطانيين. وقد احتلت تلك الثكنات قصر النيل، الذي شيد ضمن مجموعة من القصور التي إقيمت في عصر الأسرة العلوية حول ميدان الإسماعيلية، كقصر إسماعيل و قصر الوالدة، و كلها إندثرت، وأقيم مكانها منشآت حديثة. وتشير المراجع التاريخية أن ميدان الإسماعيلية بدأ يكتسب وظيفته كقبلة للثوار ومسرح لحوادث مهمة ومؤثرة في تاريخ الوطن مع بداية توسع المدينة علي الضفة الغربية للنيل وبانتقال جامعة القاهرة اليها، فاصبح يحتل منطقة متوسطة بين ضفتي النهر ومعبراً للطلبة في تدفقهم نحو قصر عابدين، أو بيت الأمة في المنيرة أو مقر المندوب السامي في جاردن سيتي. آلا إن المعبر تحول الي ساحة أساسية للاحتجاج و للمصادمات بدءاً من عام 5391. كان ذلك في صباح الثالث عشر من نوفمبر، يوم عيد الجهاد، حيث أعلن زعيم حزب الوفد النحاس باشا أنه سيصدر قرارات مهمة للرد علي الوضع الدستوري المتجمد الذي كانت تعاني منه البلاد آنذاك، أي تعطيل العمل بدستور 0391 ورفض العمل بدستور 3291 الذي تم التوافق عليه. انطلقت مسيرات الطلبة من جامعة فؤاد الأول لبيت سعد زغلول، ودارت بينها و بين الجنود الإنجليز في الميدان معركة أصيب خلالها بعض الطلبة. و بعد تفرقهم، تدفق تلامذة مدرسة السيدة زينب التي خرجت بتوها للميدان تهتف للدستور لتدور معركة أخري، وتدشن بالتالي مولد ميدان التحرير كساحة جديدة في القطر المصري للغضب والحرية و التغييرممتدة الي يومنا هذا. 5 وقد تكررت نفس مشاهد المواجهات في يوم الجهاد 12 نوفمبر 6491، إثر فشل المفاوضات مع الإنجليز، ُأضرب المصريون وانطلقت المظاهرات السلمية في أكثر من مكان في القاهرة واتخذت من ميادين لاظوغلي، الأوبرا، المحطة و فم الخليج، أماكن تجمع لها،أما مظاهرة التحرير فقد انتهت بأحداث دامية حيث صدمت سيارات الجيش الإنجليزي المتظاهرين وأطلق الجنود عليهم الرصاص من الثكنات ومن أعلي أسطح المباني كما يروي لنا فاروق القاضي بعض وقائعها « كنت لم أزل في ميدان الإسماعيلية، وسط الحشد الذي توجه الي شارع سليمان ، ولكننا لم نكد نخطو بضع خطوات داخل الشارع حتي انطلقت رصاصات من إحدي البنايات فوق محل للموبيليا، كشك أو بنترومولي، وسقط بجواري شهيد، فاندفعت الجموع داخل البناية للفتك بمن أطلق النار» 6. كانت حصيلة هذا اليوم 51 شهيدا وعشرات الجرحي. و تجدر الإشارة هنا، الي بزوغ دور شارع سليمان باشا في هذه المواجهة، كمكان للتشاحن والاقتتال، الدور الذي سوف يلعبه شارع آخر يصب في الميدان، و هو محمد محمود بدأ من 61 نوفمبر 1102. ظل ميدان التحرير، يقوم بدوره كساحة للاحتجاج السلمي أو الغاضب لمدة خمسة عشر عاما، و قبل أن يوضع بين قوسين بدءاً من عام 25 استقبل مسرحه أول مليونية، فيما عرف بمظاهرة موكب الشهداء الصامتة، يوم الأربعاء 41 نوفمبر 1591علي خلفية مطلب أساسي للقوي الرطنية التف حولها جموع الشعب المصري بكل أطيافه، وهو رحيل المحتل البريطاني، وفي نفس الوقت تخليد ذكري الشهداء الذين سقطوا بعد أن أعلنت مصر الكفاح المسلح ضد المحتل و تحللت من قيد المعاهدة المصرية البريطانية. 7 بهذا الحشد الهائل أسدل الستار علي آخر فصول تفاعل الرفض الشعبي إبان الحقبة الليبرالية الديمقراطية في مصر مع ساحات التغيير. بمجيء ثورة 25 و إحكام قبضة العسكر علي الحياة السياسية و منع التجمهر والاحتفال الا بأمر الحاكم، انحسر دور الميادين بالاحتفاء بالرموز الدينية، بإقامة الموالد، أوالموتي من الرموز الوطنية بتشييعهم الي مثواهم الأخير. في هذا السياق أصبح ميدان التحرير ساحة الجنازات الكبري بامتياز. وطالته العديد من التغيرات المورفولوجية ليصبح أكثر تعبيرا عن الثورة و مجسدا للنهج الأيديولوجي الجديد لها في محاولة لطمس كل آثار المحتل البريطاني وأيضا سلالة الأسرة العلوية ممن جلسوا علي عرش مصر وإعتبرتهم الثورة مسئولين عن خرابه، بدأ من إسماعيل الذي أدي بذخه اليي وقوعها تحت مظلة الهيمنة الإقتصادية للقوي العظمي، فرنسا وإنجلترا، مرورا بتوفيق الذي مكن الإنجليز من وضع مصر تحت الإنتداب لبريطاني وإنتهاءا بفاروق الذي أفسد الحياة السياسية و كان لعبة في يد المندوب السامي البريطاني... كل ما سطر في كتب التاريخ بعد الثورة قبل أن تعاد قراءته وصياغته بشكل يتسم بقدر أكبر من الموضوعية والنزاهة. بداية تم تغيير اسم الميدان للتحرير بدلا من الإسماعيلية، وذلك في يناير 3591، خلال احتفالية كبري أعدها الجيش في الميدان بمناسبة مرور ستة أشهر علي قيام الثورة أطلق عليها مهرجان التحرير، استمرت أربعة أيام توحد خلالها الجيش و الشعب وعاشا حالة من التوهج الثوري 8 قبل أن تنهي منظومة الحكم الجديد دور الميادين كساحات للغضب أو البهجة لعدة عقود. ثم تغيرت معالم الميدان بإضافة بعض المنشآت الهامة محل منشآت أخري، فشيد المجمع، هذا لمبني الإداري الضخم الذي يحمل الي حد كبير سمات ما أطلق عليه العمارة الستالينية (1591،معماري محمد كمال إسماعيل)، في موقع قصر الإسماعيلية القديم، ثم أزيلت الثكنات وشيد مكانها فندق الهيلتون (8591، والتون بيكر) و مقر الجامعة العربية (8591 محمد رياض) وجاور مقرالحزب الاشتراكي المتحف المصري بواجهة تطل علي النيل و أخري علي الميدان . وتم الاحتفاظ بمبان أخري كعمارات سارباكيس و بحري التي تمثل غلافه الشرقي، و مقر الجامعة الأمريكة والقاعدة الحجرية للتمثال الذي كان من المفترض أن يقام عليه تمثال إسماعيل. و في الستينيات، أعيد تخطيط الوسط ليحتوي علي حديقة كبري تتوسطها نافورة للمياه، ثم أنشئت محطة مركزية لأوتوبيسات النقل العام أمام المدخل الشرقي لفندق الهيلتون. وفي عام 0791 تم هدم فيللا هدي شعراوي التي كانت تحتل ناصية الميدان في تقاطعه مع شارع قصر النيل و كذلك السجن المقابل له و الذي كان في الأصل مبني يتبع دائرة خديجة هانم طلعت ثم تحول الي سجن أثناء محاكمة عرابي عام 2881. ومازالت هذه الأراضي فضاء الي يومنا هذا. تقلصت وظائف مركز المركز، محتفظا بوظيفتين فقط، كعقدة انتقالية للحركة الميكانيكية وإعادة توزيعها، بالإضافة الي التوقف، والجلوس والنزهة، خاصة في ليالي القاهرة الصيفية الساخنة. أما الميادين الكبري الأخري كعابدين والسيدة والمحطة، فقد ظلت السيدة تحتضن المولد كل عام كما في سابق عهدها، ولم يعد لعابدين شأن يذكر، بعد رحيل الملك و تحويل بعض أجنحة القصر الي وزارات ثم الي مقر لمحافظة القاهرة و تحويل القصر في فترة لاحقة الي متحف. بالنسبة لميدان المحطة، أو رمسيس، الذي ازدان بنافورة تحت أقدام التمثال الجرانيتي الشامخ، فبالإضافة الي وظيفته كعقدة مرورية كالتحرير، وبوابة الدخول الرئيسية للمدينة للقادم من الشمال و مدن الدلتا، ظل مكانا للفراق والتلاقي. وعزل ميدان الأوبرا تماما، وخاصة علي إثر حريق القاهرة الذي دمر فندق شبرد تدميرا كاملا، وانتقال مركز الثقل الجغرافي بشكل نهائي الي ميدان التحرير لموقعه المتوسط بين الأحياء القديمة للضفة الشرقية والأحياء الناشئة في الضفة الغربية للنيل والتي أصبحت تضم الدقي والجيزة و العجوز ومدينة المهندسين والصحفيين وأعضاء هيئة التدريس، بلإضافة للتوسعات العشوائية في بولاق الدكرور وإمبابة. ثم كان أن إستعاد ميدان التحرير عافيته و توهجه ليعود مرة أخري قبلة للثوار في لحظات خاطفة قبل ثورة يناير 1102. كانت المرة الأولي في عام 2791 في عصر السادات، إبان الحركة الطلابية عندما تم القبض علي الطلبة فجر يوم من أيام فبراير الباردة، فخرجت جموع الطلاب ثائرة تطالب بالإفراج عنهم و تحقيق مطالب الحركة التي كان علي رأسها كسر حالة اللاحرب واللاسلم والإسراع بالدخول في حرب لتحرير الأراضي المحتلة من إسرائيل منذ عام 7691 التف الشعب حول هذه المطالب و توجه الي الميدان للتضامن مع الطلبة، وظلوا مقيمين فيه عدة أيام، و ترصد رواية إبراهيم أصلان مالك الحزين، تفاصيل مرجعية كثيرة عن الميدان زمن اعتصام الطلاب المحتجين فيه، و التفافهم حول القاعدة الحجرية ولافتاتهم و هتافاتهم و حركتهم بالآلاف كأنها»الكائن الخرافي الواحد« (ص.27).9 عاد هذا الكائن الخرافي الواحد مرة أخري الي الميدان بعد أربع سنوات، في مشاهد الغضب الجماعي المحتج علي غلاء الأسعار، فيما سمي بانتفاضة الخبز، في 71 و 81 يناير 7791. و قد عبر عن هذا الغضب الدفين الذي تحول الي رد فعل جماعي معلن ومشهود مواجه بعنف مشهود أيضا، في مكان محدد ، إدوارد الخياط في رواية رامة و التنين بقوله : »ضجيج المدينة يتدفق دفعة واحدة، مختلط النبرات و الطبقات و الإيقاعات» (ص 611) 01 مرت عشر سنوات قبل أن يمتلئ الميدان بجموع من المثقفين و النخبة و الفنانين، جاءت تحتفل في مارس 2991، بإعادة إفتتاح قهوة وادي النيل بعد تجديدها علي إثر التفجير الإجرامي الذي أصابها في فبراير من نفس العام. و كانت الاحتفالية الوحيدة في مكان عام التي سمح بها نظام مبارك و غني فيها محمد نوح، وعزف علي العود نصير شمة و إنتهت في الوقت المحدد لها وظل الآلاف يتمنون أن تتاح لهم فرص أخري للتجمع والتواصل والانفعال والغناء ككائن واحد، في مكان مفتوح، بدون لقاء مسبق، بدون سابق معرفة وبدون دفع رسوم. الساحات الاحتجاجية، إرهاصات ماقبل الثورة كان يجب أن ننتظر عام 5002، تاريخ نشأة حركة كفاية، لكي ينطلق الغضب الدفين هادرا مرة أخري و تعيد الجموع الرافضة خلق و تشكيل ساحات جديدة بتواجدها واحتجاجها فيها. كان لسلالم نقابة الصحفيين الريادة خلال هذا المخاض الثوري الذي استمر ست سنوات، وكانت أحيانا جموع التظاهرين تتدفق علي شارع رمسيس أو نقابة المحامين القريبة، وبدأنا نشاهد عربات للأمن المركزي مرابطة طوال الوقت في هذه المنطقة، وكانت الوقفات الإحتجاجية تواجه بعنف بالغ، من قبل قوات الأمن التي كانت أعدادها تفوق عشرات المرات المتظاهرين. لم يحد هذا القمع من استمرارها وتوسع نطاقها الجغرافي. ثم ظهرت ساحة جديدة متمثلة في الرصيف المتسع في ميدان طلعت حرب، أمام مكتبة مدبولي، أي في الركن الجنوبي الغربي للميدان، نادرا ما كانت تتخطي هذه الحدود، نظرا لمحدودية عدد المحتجين الذي لم يتخط بضع مئات. لم تكن هذه الإحتجاجات تجمع كل أبناء الوطن، أو أناسا لا تربطهم علاقات مسبقة، بل كان الجميع يعرف بعضهم البعض، لانتمائهم الي شريحة المثقفين و النخبة السياسية. و بحلول عام 7002، ظهرت ساحة جديدة متمثلة في رصيف مجلس الوزراء، حيث تم احتلاله من قبل موظفي الضرائب العقارية للمطالبة بمساواتهم في الأجر بموظفي وزارة المالية، و بشكل غير مسبوق في تاريخ الاحتجاجات الاجتماعية في مصر، اعتصم هؤلاء المحتجون لمدة تزيد عن ثلاثة أسابيع. وتضامن معهم سكان الشوارع المحيطة وأصبحوا يأتون اليهم بالبطاطين والطعام، و يقضون معهم شطرا من ليل شتاء ديسمبر البارد. وانتهت الحركة الاحتجاجية التي بدأها 0004 متظاهر من موظفي الضرائب، بإنشاء نقابة مستقلة لهم و بتدشين مكان جديد للغضب سوف يشهد معركة دامية أثناء المرحلة الانتقالية التي تولي فيها المجلس العسكري حكم مصر، فقدت فيها مصر زهرات شبابها التي تفتحت أثناء الثورة ومنهم، الدكتور علاء عبد الهادي و الشيخ عماد عفت، و علي إثر تفجير كنيسة القديسين في الأسكندرية عشية أول يناير 1102، ظهر شارع و دوران شبرا كأماكن جديدة للاحتشاد. حتي جاء يوم 52 يناير، ليستعيد ميدان التحرير سابق عهده. ولكنه لم يكن المكان الوحيد في هذا اليوم الذي ضم كل المحتجين، فقد تجمع العشرات علي سلالم محكمة النقض التي تحتل ناصية شوارع 62 يوليو و رمسيس، لتنضم الي سلالم نقابة الصحفيين كساحة جديدة للاحتجاج. أما واجهات مجاري المياه، فقد ظهرت لأول مرة علي إثر مقتل خالد سعيد علي يد الشرطة في الأسكندرية، فقام النشطاء بعمل سلاسل بشرية، للالتفاف حول قوانين منع التجمهر، إمتدت من كورنيش البحر المتوسط الي كورنيش النيل في أسوان، بمحاذاة كل المجاري المائية علي طول مسارها، كأفرع النيل و القنوات وحتي الكباري، وسيظل هذا الابتكار الجديد في وسائل الاحتجاج يطبع واجهات المجاري المائية و الكباري ، ككوبري قصر النيل، و من ثم ينتقل الي الشوارع الرئيسية. وبالنسبة لتلك الفراغات الطولية، فلم يكن لها دور محدد يذكر قبل ثورة 52 يناير. ساحات الغضب في مرحلة الثورة لم تقتصر تداعيات ثورة 52 يناير 1102 علي استعادة ميدان التحرير لدوره التاريخي كمسرحا لأحداث الثورة و محركا لها، ولكنها أدت الي العديد من التغيرات أثرت علي المحيط المباشر للميدان وطالت مناطق أخري أبعد ربطتها به شبكة من المحاور استعملت كمسارات محددة للولوج اليه أثناء الحشود الهائلة التي أطلق عليها مليونيات. فيما ظهرت ساحات جديدة، وأعيد توزيع الأدوار بينها وبين الميدان المركزي، بشكل تكاملي أو تصارعي، نتج عن الفرز و الاسقطاب السياسي والأيديولوجي الذي صبغ كل موضع بلون معين، فأصبح الميدان الجامع الشامل يناقض، في مفارقة شديدة، تعريف الفراغ العام عند حنا أردنت كمكان لمقاومة الإقصاء، ليرسخ لمفهو م مغاير في الممارسات التي تلت الثمانية عشر يوما التي أسقطت مبارك. علي إثر انسحاب الشرطة يوم جمعة الغضب في82 يناير 1102، بدأ الثوار يستعدون لإقامة طويلة في الميدان حتي إسقاط النظام، محولين الميدان الي مدينة صغيرة متعددة الوظائف من خلال تقسيم محبك للفراغ العمراني. تركزت خيام الاعتصام في الحديقة المركزية وفي الساحة الأمامية للمجمع، أقيمت ثلاثة منابر في الأركان عند مداخل الميدان في التقائه في الجنوب الشرقي مع شارع محمد محمود، وشارع القصر العيني في الجنوب، وشارع طلعت حرب في الشمال الشرقي. أنشئت ثلاثة مستشفيات ميدانية، واحد في الصينية المركزية، وثان وراء محل هارديز للمأكولات السريعة داخل ممر يصل بين شارعي محمد محمود و التحرير، و الثالث في الفسحة عند مدخل طلعت حرب إضيف اليهما مركز للإسعاف السريع ناحية شارع شامبليون بالقرب من ميدان عبد المنعم رياض. وللاستجابة لاحتياجات المترددين علي مدار اليوم، و المعتصمين، بدأ الباعة الجائلون ينتشرون عند المداخل وفي الوسط، يعرضون شتي أنواع المأكولات الشعبية السريعة و الفطائر و المشروبا ت ووسائل التسلية من لب وسوداني وفشار، أضيفت اليها الأعلام و التيشرتات والمزامير و الطواقي الصوف والكوفيات بألوان العلم ،وخدمات من نوع رسم العلم علي الوجه. و مع تطور المعيشة و تنوع الأنشطة، إقيمت خيمة تضم رسومات الكاريكاتير التي أبدعها الثوار والفنانون، وأطلق عليها متحف الثورة، و ورشة لإبداعات الأطفال اتخذت مكانا لها بالقرب من مدخل طلعت حرب في شارع ميريت الذي يؤدي الي المتحف المصري وميدان عبد المنعم رياض. كما أقيمت شاشات تليفزيونية لمتابعة تطور الأحداث وأصبحت المنابر التي يتناوب عليها المتحدثون في الصباح، تستقبل بعض الفعاليات الفنية مساء. وعلي إثر الاعتداءات المتكررة ممن أطلق عليهم الطرف الثالث، وخاصة إبان الأربعاء الدامي 2 فبراير، نشأت ضرورة تحصين الميدان و مراقبة مداخله وعدم السماح لأي قادم بدخوله بدون تفتيش، وهكذا فرض الميدان/المدينة قوانينه الداخلية وخلق بواباته من الأسلاك الشائكة أو عربات الشرطة التي تم حرقها من قبل الثوار، وامتثل جميع الرواد للتفتيش دون تذمر يذكر. امتد نطاق تلك التغيرات لمحيطه المباشر واتسع ليشمل دوائر أبعد لتتوزع الأدوار في ظل منظومة تتسم بمرونة شديدة طبقا لتوالي حالات التمدد والانكماش للميدان المرتبطة بموجات مد و جزر الثورة ووسائل تعبئة الجماهير ومدي استجاباتها. في الحالة الأولي، أي حينما يصل الميدان الي درجة التشبع القصوي بتدفق البشر عليه، تلعب الشوارع المؤدية اليه، وظيفة مزدوجة : الأولي كأنابيب تتيح تدفق الحشود عليه، و الثانية كأوعية تمتص ما يفيض من البشر وتعيد ضخهم و توزيعهم في محيطه أو أماكن أبعد، ساحات أو ميادين ثانوية. و تنقسم المحاور التي تصب في الميدان الي نوعين من المحاور. الأول يشمل شوارع تؤدي لكثير من الأطراف المشاركة بفعالية في صنع القرار، كشارع القصر العيني لاحتوائه علي مربع الوزارات ومجلس الوزراء و البرلمان، شارع محمد محمود الذي يفضي الي وزارة الداخلية، شارع التحرير و ويؤدي الي محافظة القاهرة في ميدان عابدين مرورا بميدان باب اللوق الذي تطل عليه الغرفة التجارية، شارع شامبليون و يؤدي الي دار القضاء العالي و من ثم محكمة النقض واخيرا شارع الشيخ ريحان الذي يفضي الي السفارة الأمريكية عبر ميدان سيمون بوليفار. المجموعة الثانية تضم الشوارع التي تربط مسرح الأحداث الرئيسي بالصالة أو الغرفة الخلفية التي يستعد فيها البطل قبل الدخول الي خشبة المسرح الرئيسية، لعب هذا الدور ميدان طلعت حرب. وتصب فيه، شوارع طلعت حرب و قصر النيل ومحمود بسيوني ، قبل أن تتوغل في عمق وسط المدينة. و يعتبر هذا المثلث الامتداد الطبيعي لميدان التحرير، لقيامه بوظيفة الإعداد للفعاليات و الحشد الجماهيري، نظرا لوجود مقار حزب الكرامة علي مسافة متساوية من الميدانين في شارع طلعت حرب، وحزب الغد في قلب ميدان طلعت حرب و حزب التجمع في مبني يقع علي ناصية شارعي كريم الدولة و محمود بسيوني وله شرفة تطل علي ميدان طلعت حرب، و أخيرا دار ميريت للنشر في شارع قصر النيل التي غدت مكانا لالتقاء الشباب الثوري من المعتصمين. وإذ تعاظم دور ميدان طلعت حرب نظرا لموقعه الاستراتيجي في قلب وسط البلد، و تحكمه في مجموعة من الشرايين الهامة مما جعله معبرا أساسيا لكل قادم من الأطراف الشرقية للمدينة الي التحرير. الا إن درجة هذا الأخير انحطت من الساحة الرئيسية للاحتجاج قبل الثورة الي دور الساحة الثانوية. فيما اكتسب شارع طلعت حرب الذي يربطه بميدان التحرير أهمية خاصة لتمدد هذا الأخير تجاهه و لكونه من أهم المداخل جهة الشرق- يقابله مدخل كوبري قصر النيل في الغرب- ولانتشار المقاهي والمطاعم المعروفة علي جانبيه، كريش والأستوريل، و كذا أماكن الأكلات السريعة مثل فلفلة وتوم آند بصل، مما يتيح للمقيمين داخل الميدان الإنسلاخ عن الجموع وأخذ النفس بعض الوقت والجلوس والنقاش بعيدا عن صخب التحرير وزحامه. وقد ساهم أيضا في إيواء بعض المعتصمين الذين كانوا يفترشونه بدون خيام أثناء الليل، متخذين من الفراغات بين التقاء الرصيف والستائر الحديدية للمحلات الكبري فراشا. وإذ لعبت كل تلك الشوارع التي يجمعها الميدان بين أطراف أصابعه دور خط الدفاع الأول عند إغارة البلطجية وقوات الأمن علي المعتصمين الآمنين والمتظاهرين السلميين، إلا إن بعضها تحول الي ساحات للتراشق و القتال بين الثوار و الأمن المركزي ومعاونيه ، أمثال شوارع قصر العيني، والشيخ ريحان ومحمد محمود. وقد عرف هذا الأخير معارك دموية سالت خلالها كثير من الدماء وقنصت فيه عشرات العيون، حتي أطلق عليه الثوار شارع »عيون الحرية« ، وقامت السلطات بإغلاق هذه الشوارع بحوائط خرسانية سميكة مما أدي لقطع الصلة بين الميدان ومحيطه المباشر جهة الجنوب والجنوب الشرقي. لم تقتصر التغيرات التي طالت ميدان التحرير ومحيطه علي الوعاء فقط، باكتسابها وظائف جديدة كأماكن للقاء والمعيشة و التبادل والاستهلاك والنزهة والنقاش والإقامة ، لكنها طالت أيضا بعض أجزاء غلافه الخارجي. تجلت في هذه اللوحات الجدارية العبقرية المتجددة، التي كانت السلطات تزيلها في الصباح الباكر ليعيد الشباب المبدع رسمها في المساء. إن تلك الجداريات الفريدة، في شارع محمد محمود، و علي جدران المجمع، والحوائط الأسمنتية العازلة، تتنوع في تشكيلاتها وأحجامها، تحكي يوميات الثوار وتخبر عن القهر و التسلط، وتذكر بشهيد أو معتقل، أو تطلق صرخة من أجل العدالة الاجتماعية أو الوحدة الوطنية. هذا الجرافيتي، جعل الجدران تتكلم، وأضاف قيمة جديدة للفراغ العام بحيث أصبحت حوائط بعض الشوارع المؤدية للميدان كالكتاب المفتوح تقص قصة ثورة وتخلدها علي الجدران مثلما فعل الأقدمون علي جدران المعابد. والي جانب ما أصاب العمارة الثابتة، فالعمارة المتحركة، أي البشر الذين يتحركون في الفراغ العام قد تغيرت أيضا علاقتهم بالأمكنة و إحساسهم بها و تفاعلهم معها ومسئوليتهم عنها. فهم يقومون بتشكيلهامن خلال التواجد العفوي فيها في مجاميع متناثرة، تفصل بينها فراغات يحتلها الباعة الجائلون، و تمثل تكتلات تتنوع في أحجامها و كثافتها، تتجمع في أماكن محددة في الميدان، حول المداخل و المنابر، وفي الوسط، أو حول نشاط محدد، عزف علي عود، رسم علي الأسفلت، خطيب أو شخصية سياسة هامة عابرة، أو مجرد جلسة نقاش علي مقاعد مع كوب من الشاي أثناء انكماش الميدان. ثم ما تلبث في أوقات تمدده عندما تتدفق عليه حشود من البشر تأتي من كل صوب أن تتقارب ثم تلتحم لتصبح كتلة واحدة صماء تلتصق فيها الأجساد لساعات طويلة تربطهم روح واحدة وأهداف محددة. في هذه الوحدة الجديدة يتخطي الأفراد كونهم أفرادا و تنبثق روح تؤججها نيران الغضب و الرفض، و ترتفع الحناجر بهتاف واحد،« ليصوغ ذاتا جمعية تتحرك كأنها فرد واحد و تدافع -ربما حتي الموت أو الاستشهاد، - وطأة خانقة مطبقة «. 11 ثم تتخلخل الكتلة، وتنحسر ليستعيد الفراغ العام بعض وظائفه الأساسية. هذا التواجد، و التجاور و الالتحام، لأفراد وجماعات متنوعة جنسيا، متباينة اجتماعيا وعمريا، بشكل دوري في الفراغ العام يعبر عن جنوح نحو الاستحواذ والحق في المدينة و الاستمتاع بها. تبلور هذا الحق ليس فقط في أوقات التمرد، ولكن في أوقات البهجة، فلأول مرة يخرج الفن للشارع، في فعاليات الفن ميدان، وهي احتفالية تقام أول سبت من كل شهرفي ميدان عابدين بالقاهرة وميادين أخري في الأقاليم. وبذلك أصبحت لميدان عابدين وظيفة جديدة، أعطته قبلة الحياة، كمكان لعرض إبداعات الشباب من حرف تقليدية ، للفن التشكيلي و الجرافيتي، والعروض المسرحية، و الأفلام الوثائقية القصيرة، و الأفلام التجريبية، و الغناء الفردي والجماعي، والأراجوز في تجسيداته الحديثة، ومعارض للكتاب للناشرين الجدد، فاكتسب المكان قيما ثقافية وسوسيولوجية جديدة كمكان للاستمتاع وقضاء الوقت والتواصل ونبذ الإقصاء و مقاومة الجهل و الظلامية والإنغلاق و نشر المعارف و تبادل الخبرات. في المقابل، ظل ميدان التحرير طوال ال81 يوما للثورة، الميدان/المدينة بلا منازع، ذابت فيه كل الخلافات و التباينات، ولم يتأثر كثيرا بظهور ساحة جديدة للإحتجاج مناوئة للثورة أمام جامع مصطفي محمود في حي المهندسين علي الضفة الغربية للنيل. وعلي الرغم من سيطرة تيارات بعينها علي المنابر المختلفة لميدان التحرير، و تحوله مع مرور الوقت الي جامع كبير في الهواء الطلق في مواقيت الصلاة، فلم يترتب علي هذه الظواهرأ ي انقسامات حادة. الا أنها كانت دفينة في القلوب حتي انفجرت ظهر يوم 81 فبراير حينما اعتلي الشيخ القرضاوي المنصة الرئيسية بعد أسبوع من تنحي مبارك، ليلقي خطبة انتصار الثورة، علي إثرها تم إقصاء الثوار الحقيقيين ومنعهم من الكلام فتركوا ميدان التحرير غاضبين و تراجعوا الي ميدان طلعت حرب يتبعهم الآلاف ليبدأ فاصل جديد من الثورة تمت فيه عملية من الفرز السياسي أثرت بدورها علي الفرز المكاني تجسدت في ظهور ساحات للاحتجاج ذات توجهات سياسية متصارعة و مطالب متناقضة. في السياق المضطرب الذي صاحب المرحلة الانتقالية التي أدار فيها المجلس العسكري البلاد، و التي إمتدت من 11 فبراير 1102 حتي الانتخابات الرئاسية التي فاز فيها رئيس ينتمي لجماعة الإخوان المسلمين في 03 يوينو 2102 لم تهدأ جذوة الثورة، وانصب الاحتجاج علي المجلس العسكري وبشكل أقل الإخوان وأعوانهم من الجماعات الإسلامية. غدا الميدان في مركز الصراع بين التيارات المدنية و التيارات الإسلامية، خاصة علي إثر التصويت علي التعديلات الدستورية الأولي التي قسمت المجتمع بشكل لا رجعة فيه، بين التيارات المدنية، الكفار، والتيارات الإسلامية الموعودة بالجنة. في خضم الصراعات المحتدمة بين جميع الأطراف، ظهرت ساحات جديدة للاحتجاج والصدام شهدت أحداثاً دموية فارقة في مسار الثورة. تمثلت الأولي في منطقة كورنيش النيل، أمام مبني التليفزيون في ماسبيرو، الذي شهد عدة وقفات للعاملين في الإعلام للاحتجاج علي سياسة الوزير الجديد والمطالبة باستبعاد القيادات الفاسدة. وعلي صعيد آخر، تصاعد الاحتقان الطائفي في قري صعيد مصر وبعض المحافظات الشمالية تم خلالها الاعتداء علي دور عبادة المسيحيين وممتلكاتهم و التنكيل بهم و تهجيرهم من قراهم ، ولم تجد جلسات الصلح في تهدئة النفوس، حيث ظل المعتدون بدون عقاب رادع . فانطلقت مظاهرة سلمية يوم التاسع من أكتوبر1102 من شبرا تضم مسلمين و مسيحيين باتجاه ماسبيرو فيما عرف بيوم الغضب القبطي، ردا علي هدم سكان من قرية الماريناب في محافظة اسوان لكنيسة. و أثناء تظاهرتهم أمام مبني التلفزيون ، تعرضوا لهجوم عنيف من قبل قوات الشرطة العسكرية والأمن، أدت الي سقوط 42 قتيلا والعديد من الجرحي. وبعد مضي ستة أسابيع علي مذبحة ماسبيرو، اندلعت يوم السبت 91 نوفمبر مواجهات أكثر عنفا و دموية في ميدان التحرير و الشوارع المحيطة به، محمد محمود و الشيخ ريحان وإمتدت حتي شارع الفلكي ومنصور عند وزارة الداخلية فيما عرفت بأحداث محمد محمود التي استمرت حتي يوم الجمعة 52 نوفمبر. وخلال هذا الأسبوع، قامت قوات الأمن المدعومة بالشرطة العسكرية بشن حرب إبادة جماعية لجموع المتظاهرين طبقا لتعبير مركز النديم للتأهيل، استعملت فيها كل أنواع الغازات السامة القاتلة، وإطلاق الرصاص بكثافة شديدة، وحرق خيام المعتصمين والمستشفيات الميدانية، أسفرت عن سقوط مئة شهيد وإصابة مئات الآلاف. وكان من ضمن تداعياتها إستقالة حكومة الدكتور شرف و تشكيل حكومة جديدة برئاسة الجنزوري. وقد تخللت حرب الشوارع بين المتظاهرون وقوات الأمن، عدة فاعليات في ميدان التحرير كان آخرها وأهمها جمعة الفرصة الأخيرة يوم 52 نوفمبر التي دعت اليها كل الحركات الثورية والأحزاب السياسية وشارك فيها الدكتور البرادعي وقاطعتها كل التيارات الإسلامية، فترسخت القطيعة وهتف المتظاهرين للمرة الأولي ضد الإخوان. وبعيدا عن التحرير ومحيطه، تجمع أنصار المجلس العسكري في ميدان العباسية مدشنين بذلك ظهور ساحة جديدة للتأييد، بعد أن فقد ميدان مصطفي محمود هذا الدور. وقبل أن يجف دم شهداء محمد محمود، اندلعت مواجهات أخري عنيفة في الفترة بين 61 و 32 ديسمبر، كان مسرح عملياتها رصيف مجلس الوزراء و شارع القصر العيني، وحصيلتها 71 قتيلاً و أكثر من الف جريح، وتم خلالها حرق المجمع العلمي. واستشهد الشيخ عماد عفت ليصبح مع مينا دانيال، أحد شهداء مذبحة ماسبيرو رمزا للوحدة الوطنية وعروتها الوثقي، لا يخلو جرافيتي من وجهيهما متعانقين ولا مظاهرة من هتاف، قتلوا عماد قتلوا مينا، كل رصاصة بتقوينا. كرس يوم الذكري الأولي لثورة 52 يناير الانقسام بين التيارات المدنية و الإسلامية، حيث تجمع كل منهما حول منبر مستقل، و نشأت بينهما بعض المناوشات، لتكون المرة قبل الأخيرة التي يحتويهم نفس المكان، ودأبوا بعد ذلك علي التجمع فيه بشكل منفصل وتبادلوا تواجدهم به ليتغير المشهد والجمهور من جمعة الي أخري. استعاد ميدان التحرير في لحظة خاطفة، دوره كموحد للمصريين علي إثر الإعلان عن فوز محمد مرسي العياط رئيسا، ما لبث هذا الأخير أن نكص عن كل العهود التي أخذها علي نفسه بسرعة مذهلة، مصيبا الجموع التي إحتشدت لتحيته في ميدان التحرير، طوعا أو جبرا، بخيبة أمل قاهرة. فتتصاعد الإحتجاجات مرة أخري، تنحصر بداية في الغرفة الخلفية، ميدان طلعت حرب في مرحلة الإعداد والتأهب، لتصب في ميدان التحرير لحظة رفع الستار في حشد لامثيل له، دعت اليه القوي الوطنية لجبهة الإنقاذ علي إثر الإعلان الدستوري ل12 نوفمبر 2102 الذي استولي فيه الرئيس المنتخب علي كل السلطات. وبمناسبة هذا التجمع الهائل الذي أعاد لميدان التحرير شمسه الذهب يوم 42 نوفمبر، و ذكرنا بمشهد ليلة التنحي الحادي عشر من فبراير، إبتدعت جبهة الإنقاذ تقليدا جديدا للحشد، تمثل في خروج مسيرات من أماكن تجمع محددة، تتبع مسارات بعينها، علي رأس كل منها شخصية سياسية عامة من قادة جبهة الإنقاذ، كالدكتور البرادعي، حمدين صباحي، عمرو موسي، جورج إسحق و الدكتور أبوالغار، تصب كلها تباعا في ميدان التحرير. خلق هذا التقليد منظومة جديدة وزعت فيها الأدوار بين أماكن للتجمع، ثانوية ورئيسية، مؤدية الي ظهور ساحات جديدة، واستعادة أخري لدورهاالقديم. تتدرج ساحات التجمع كالآتي: في المهندسين، ساحة كنيسة الوحده بشارع الوحده بجوار كشري الاستاذ في إمبابة، الساحة الصغري، ميدان مصطفي محمود الكبري. في الجيزة، عدة ساحات صغري: جامع خاتم المرسلين با لعمرانيه، رصيف محطة الطالبية في فيصل ،ساحة جامع السلام في الهرم، ميدان محطة مترو المنيب، والكبري، ساحة جامع الإستقامة بالجيزة. - جنوبالقاهرة، الصغري : ميدان الباشا بالمنيل، ساحة جامع عمرو بن العاص بمصر القديمة، مسجد الفتح بالمعادي، الكبري، ميدان السيدة زينب - شمال القاهرة الكبري، دوران شبرا - شرق القاهرة الكبري، جامع الفتح برمسيس -شمال شرق القاهرة الكبري، مسجد النور في العباسية، تربط بين الساحات الفرعية و الرئيسية شبكة من المسارات تصب كلها في الميدان الكبير. خطت الجموع الغاضبة في هذه الساحات والمسارت تاريخا جديدا لنضالها طبعته باحتشادها و بمواكبها و هتافاتها في مشهد سيظل يطبع الصورة الذهنية لتلك المحاور و الساحات دهرا. سيطرت إذن القوي المدنية علي ميدان التحرير من جديد في انتفاضة ضد الإخوان اطلق عليها الثورة الثالثة ، في إشارة الي الأولي ضد النظام المباركي، والثانية ضد العسكر. و لم تكتف القوي المدنية باستعادتها لميدان التحرير، ففتحت جبهة أخري في ساحة أخري نائية تضاهي الميدان في اتساعه، أمام قصر الاتحادية في ضاحية مصر الجديدة في الشرق. نقلت اليها جزء من احتجاجاتها، واعتصامها، ونقلت اليها بعض الأنشطة كمعرض صور الثورة وزودته بمركز للإسعافات السريعة. سرعان ما قامت مليشيات الإخوان مدعمة بقوات الأمن بالاعتداء علي المعتصمين وفض اعتصامهم بشراسة و عنف لا مثيل لهم، وقاموا بالقبض علي الشباب ونشبت مصادمات دامية إستشهد فيها الصحفي الحسيني أبوضيف أثناء تأديته لعمله برصاصة مجهولة المصدر، و تم القبض علي أكثر من أربعين من الشباب ،تم الاعتداء عليهم وتعذيبهم بسادية منقطعة النظير. امتلأت ساحة الاتحادية مرة أخري بالحشود الغاضبة و سطرت رفضها وإدانتها للمارسات القمعية للسلطة و أتباعها علي جدران القصر، وإنتشرت خيام الاعتصام مرة أخري، لتزال بعد عدة مصادمات مع الأمن. في مقابل غضب القوي المدنية ونجاحها في حشد الملايين ليس في القاهرة فحسب و لكن في كل المدن المصرية، وفي ظل سيطرتها علي ساحات استرتيجية ، لم تجد قوي التيارات الإسلامية بديلا عن خلق ساحات جديدة، تلافيا لصدام لاتحمد عقباه مع الآخرين. فدأبت علي حشد أنصارها لتأييد النظام أمام جامع رابعة في مدينة نصر وحول تمثال نهضة مصر أمام جامعة القاهرة في الجيزة. وتعتبر الأولي ساحة مستحدثة لم يرد لها ذكر في أي مناسبة، أما شارع الجامعة فقد كان و ما زال مسرحا للاحتجاجات والمسيرات الطلابية و الصدام مع قوات الأمن. في ظل هذه السيولة الجغرافية لساحات الإحتجاج، والتأييد، ظهرت مؤخرا أماكن جديدة، كالمنصة أمام نصب الجندي المجهول في مدينة نصر، التي حلت محل ميدان العباسية للمؤيدين للمجلس العسكري وساحة قصر القبة بدلا من الاتحادية لمناهضي حكم الإخوان المتتبعين لساكن القصر في رحلة تجواله من قصر الي آخر. لم تغير ثورة الخامس و العشرين من يناير المدينة. لم تبدل شوارعها وأزقتها وميادينها. و لم تترك الحجارة أماكنها. من تغير هو البشر، ووعيهم بالمكان وانتزاعهم لحقهم في المدينة و تحولهم لمواطنين. بتوالي فصول الثورة علي مدي عاميين ونصف العام، ُأعادوا صياغة شبكة من العلاقات التراتبية بين الأماكن التي احتوتهم في لحظات الغضب أو البهجة والاحتفال، و خطوا تاريخا جديدا لها خلال مسيراتهم و تجمعهم، خالقين علامات مميزة جديدة في المدن، لا تمثل بالضرورة بؤرا بصرية هامة، و لكنها طبعت الصورة الذهنية كساحات للتغيير وكأماكن انطلاق للحرية و الديمقراطية. وخلال تواجدهم في هذه الساحات، أعادوا تشكيل فراغاتها لتطويعها لأغراض متعددة، ثقافية وسياسية و إقتصادية واجتماعية فأعطوا للفراغ العام معني جديدا، معناه الحقيقي الذي لم يكن له قط .ُ ليس فقط في القاهرة، و لكن في كل المدن العربية و مدن الربيع العربي حيث اكتسبت ساحات التغيير شهرة عالمية ووضعت في مصاف الأماكن التراثية وتحولت الي مزارات كميدان التحرير في مصر، وجادة الحبيب بورقيبة في تونس وساحة الحكمة في صنعاء والحرية في تعز، وميدان اللؤلؤة في المنامة. ونالت أيضا شهرة محلية في أوطانها كميادين القائد إبراهيم وساحة المنطقة الشمالية في الأسكندرية، وميادين الأربعين في السويس، و المسلة في بورسعيد، والممر في الإسماعيلية، والثورة في المنصورة والشون في المحلة، و المحطة في طنطا، والساعة في دمياط و دمنهور والثورة في الفيوم، وبالاس في المنيا، والتركي في أسيوط، وأبوحجاج في الأقصر، وتطول القائمة إذا أضفنا الساحات في المدن المتوسطة والصغري كدسوق، المطرية والمنزلة. لقد جسدت ساحات التغيير فجرا جديدا للحرية و المواطنة، فتحت آفاقا جديدة و ملهمة لإعادة تهيئة ميادينها وشوارعها لتواكب توق الأفراد و الجماعات الي الرفقة، و الاندماج و التواصل و التأمل و الاستمتاع و الاحتجاج ، و تطلعهم لنوعية حياة أفضل لهم و للأجيال القادمة. الهوامش Wang, P., (2002). Systematic1 - Construction of Urban Public Space. Nanjing: Southeast University Press (in Chinese) 2 حنا اردنت 3 حسين حمودة، ميادين الغضب، قراءات في روايات مصرية، دار العين، 2013 4 أقيمت هذه الحوائط عند التقاء شوارع القصر العيني، و محمد محمود و الشيخ ريحان بميدان التحرير، و كل الشوارع التي تربط حي جاردن سيتي بالكورنيش في المنطقة الواقعة بين فندقي سميراميس و كيمبسكي بالإضافة الي الحائط الذي يسد منفذ الشارع الذي تقع فيه السفارة الأمريكية ناحية ميدان سيمون بوليفار. 5 أيام مصرية، العدد 40، 2011، ميدان التحرير في ذاكرة التاريخ، ص، 41 6 فاروق القاضي، فرسان الأمل، ص 236 7 أيام مصرية، مصدر سابق، ص 46 8 نفس المصدر السابق، ص 57 9 حسين حمودة، مصدر سابق، ص 225 10 نفس المصدر السابق، ص 223 11 حسين حمودة، مصدر سابق، ص. 226