مصر وقبرص تنفذان التدريب المشترك «بطليموس 2025»    تأكيدًا ل«المصري اليوم».. «الأوقاف» تصدر بيانًا حول أزمة سفر الأئمة للحج دون إذن مسبق (تفاصيل)    اتحاد عمال مصر يؤكد دعمه لحقوق الشعب الفلسطيني ويدين ممارسات الاحتلال    بدء ضخ 15 ألف متر مكعب بخط الجلالة الكريمات كمرحلة أولى لإنهاء أزمة المياه بالغردقة    البورصات الأوروبية تغلق على ارتفاع وستوكس 600 يصعد 0.49%    رئيس الوزراء يشهد حفل إطلاق خدمات الجيل الخامس للهاتف المحمول في مصر رسميًا    إطلاق خدمات الجيل الخامس للمحمول فى مصر من منطقة الأهرامات    سنابل الخير.. توريد 304 آلاف طن قمح محلى إلى شون وصوامع البحيرة    منظمة الصحة العالمية تطلق استراتيجية للتأهب للكوليرا في منطقة شرق المتوسط    رينارد: جاهزون لمواجهة البحرين وندرك حجم المسؤولية    ترامب: إبرام اتفاق مع الرئيس الصيني سيكون أمرًا «في غاية الصعوبة»    بالأسماء.. 25 لاعبا في قائمة الأهلي المسافرة إلى أمريكا اليوم    منتخب شباب اليد يتوجه إلي بولندا فجر 17 يونيو لخوض بطولة العالم    نتيجة الصف الثاني الثانوي الترم الثاني 2025 في المنيا والمحافظات.. الموعد والرابط    مصرع شاب بطلقات نارية فى مشاجرة بقنا    موفد قناة الناس: توافد الحجاج على مشعر منى فى يوم التروية وسط استعدادات مكثفة    كريم محمود عبد العزيز يحيي ذكرى ميلاد والده برسالة مؤثرة    «إحلالٌ.. نعم! إغلاقٌ.. لا!»    أمين الفتوى يوضح فضل قيام ليلة العيد: من الليالى التى لا تُفوّت    الوداد المغربى يستعجل رد الزمالك على عرض صلاح مصدق    أهم أخبار الكويت اليوم الأربعاء.. الأمير يهنئ المواطنين والمقيمين بعيد الأضحى    حريات الصحفيين تطالب بالإفراج عن 22 صحفيا معتقلا بمناسبة عيد الأضحى    جامعة القاهرة ترفع درجة الاستعداد القصوى بمستشفياتها خلال عيد الأضحى    دعاء يوم التروية لغير الحجاج .. اللهم إنى أسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل    محمد بن رمضان يعيد أمجاد هانيبال مع الأهلي.. من هو وما قصته؟    القاهرة تستضيف النسخة الرابعة من المؤتمر والمعرض الطبي الإفريقي «صحة إفريقياAfrica Health ExCon»    اتفاق تعاون بين «مصر للمعلوماتية» و« لانكستر» البريطانية    بعد نشرأخبار كاذبة.. مها الصغير تتقدم ببلاغ رسمي ل«الأعلى للإعلام »    زوارق إسرائيلية تختطف صيادًا من المياه الإقليمية بجنوب لبنان    سيراميكا كليوباترا يفتح الخزائن لضم «الشحات وعبد القادر»    نجم الزمالك السابق: وسط الملعب كلمة السر في مواجهة بيراميدز    حنان مطاوع: يشرفني تقديم السيرة الذاتية ل سميحة أيوب    صعب عليهم نسيان الماضي.. 5 أبراج لا يمكنها «تموڤ أون» بسهولة    تأكيدا ل «المصري اليوم».. أيمن منصور بطل فيلم آخر رجل في العالم (البوستر الرسمي)    محمد رمضان يقترب من الانتهاء من تصوير «أسد»    قرار عاجل من الزمالك بفسخ عقده لاعبه مقابل 20 ألف دولار    بعد اهتمام برشلونة والنصر.. ليفربول يحسم موقفه من بيع نجم الفريق    برسالة باكية.. الشيخ يسري عزام يودع جامع عمرو بن العاص بعد قرار الأوقاف بنقله    خُطْبَةُ عِيدِ الأَضْحَى المُبَارَكِ 1446ه    وفد من الأزهر والأوقاف والكنائس يهنئ محافظ الإسماعيلية بعيد الأضحى    رئيس هيئة الاعتماد يعلن نجاح 17 منشأة صحية فى الحصول على اعتماد "جهار"    جامعة القاهرة ترفع درجة الاستعداد القصوى والطوارئ بجميع مستشفياتها    وزيرة خارجية لاتفيا: سنعمل في مجلس الأمن لتعزيز الأمن العالمي وحماية النظام الدولي    الصحة: 58 مركزًا لإجراء فحوصات المقبلين على الزواج خلال فترة إجازة عيد الأضحى المبارك    رئيس الوزراء: إزالة تداعيات ما حدث بالإسكندرية تمت فى أقل وقت ممكن    شيخ الأزهر يهنئ الأمة الإسلامية بعيد الأضحى ويطالب المجتمع الدولي بوقف غير مشروط للعدوان على غزة    ما تفاصيل مشروع قرار مجلس الأمن المرتقب بشأن غزة؟    صلاح عبدالله يستعيد ذكرياته مع سميحة أيوب في مسرحية رابعة العدوية    مد فترة التشطيبات.. مستند جديد يفجر مفاجأة في واقعة قصر ثقافة الطفل بالأقصر    مجلس الوزراء يوافق على اتفاقية مع الاتحاد الدولي للاتصالات لتحقيق التنمية الرقمية    زلازل وعواصف وجفاف.. هل تستغيث الأرض بفعل تغيرات المناخ؟    الإسكندرية ترفع حالة الطوارئ بشبكات الصرف الصحي استعدادًا لصلاة عيد الأضحى    أول تحرك من «الطفولة والأمومة» بعد تداول فيديو لخطبة طفلين على «السوشيال»    تحرير 911 مخالفة للممتنعين عن تركيب الملصق الإلكتروني    مسابقة لشغل 9354 وظيفة معلم مساعد مادة «اللغة الإنجليزية»    «اللهم املأ أَيامنا فرحًا ونصرًا وعزة».. نص خطبة عيد الأَضحى المبارك 1446 ه    زيادة الرسوم الجمركية الأمريكية على واردات الصلب والألمنيوم إلى 50% تدخل حيز التنفيذ    موعد إعلان نتيجة الصف الثالث الإعدادي 2025 في الجيزة ترم ثاني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حكايات عن حي الارستقراطية المصرية كذلك في »الزمالك«
نشر في أخبار الأدب يوم 02 - 08 - 2014

لا يفتي وعابد في الزمالك. والمقصود المهندس وائل عابد بالطبع الذي أخرج لنا كتابا آية في جمال صوره ودقته التاريخية العام الماضي. وليس ذلك بخسا لجهود كتيبة من المؤرخين المحليين و مؤرخي خطط المدينة المعاصرين و لكن لأنه آخر ما وصلنا من تلك الجهود ولأنه ذكر شارع أحمد حشمت و وصفه بأنه أثري شوارع الزمالك عمارة و كنت أعتقده أقبحها! شعرت و كأنه يشجعني علي النظر مرة ثانية لعلي أفهم ما يجعلني أشعر بالانتماء لهذا الحي الذي أجده ملوثا، و كثير من أرصفته وقد صارت مقالب للقمامة، مليء بالضوضاء، شوارعه بلا أرصفة و مبانيه الأثرية تعاني الاهمال المقصود المتعمد حتي تحل محلها المولات الصاخبة و العمارات الشاهقة مما يدل علي أن قيمة الأشياء دائما ما تخسر الحرب أمام ثمنها وهو مرض إنساني عام تعاني منه عواصم الدنيا كلها في تحولاتها مع تفاوت النسب التي تتوقف علي درجة وعي المثقفين و المسؤلين عن الحفاظ علي ذاكرة المدن و البلدان و ليس وعي البائعين و المشترين. لذا بدي من الصعب أن يكون مدخلي في هذا المقال، مدخلا غير ذي علاقة بتاريخ المعمار. لقد شهد هذا الحي الذي كنت قد بدأت أن أتململ من العيش فيه، قبل كتاب وائل طارق عابد بالذات، أحداث جسام علي مر تاريخه. و هو تاريخ بدأ مبكرا جدا (حوالي 1370) عندما ظهرت علي سطح النيل جزيرتين سميتا "حليمة" و "مروي" ثم انضمتا في عام 1600 بفعل الطبيعة و الفيضان فكونتا ما صار يعرف بجزيرة بولاق. أما الاسم الذي أصبحت تعرف به الجزيرة "الزمالك" فما زال قيد بحث المؤرخين و ان كان معظمهم يروح بشيء من التحفظ للقول بأنه مستقي من لهجة ألبانية غير معروفة تنوه عن قرية أو تجمع سكاني بدائي من الخوص و القش و أن ذلك التجمع الذي اقترض اسمه من قرية جنوب غرب إمبابة، كان محل سكن خدم قصور أثرياء حي بولاق العريق و ربما مكان تجمع المجندين الجدد. اختلفت الامور عندما بني محمد علي قصره الذي يرجح أنه شيد في المكان الذي يقوم عليه اليوم نادي الضباط حيث رأيت جمال عبدالناصر أول مرة. و هو ذاته النادي الذي شهد باكورة ثورة الضباط باختيارهم محمد نجيب رئيسا للنادي تحديا للرجل الذي اختارته السرايا آنذاك، حسين سري عامر قائد قوات الحدود إبان حرب 1948الذي اتهمه الضباط ممن حاربوا في فلسطين بضلوعه في صفقة من الأسلحة القديمة. لكن لا يبدو أن أي أعمال تشييد حقيقية بدأت في "الجزيرة" إلا عندما اختارها الخديو إسماعيل لتشييد قصره الصيفي في عام 1863 وكان اسمه ببساطة سرايا الجزيرة لكنه اشتهر بأنه القصر الذي شرف يوجيني "امبراطورة" فرنسا و فرانز جوزيف امبراطور النمسا بالنزول فيه لدي حضورهم افتتاح قناة السويس في 1869 ويعرف اليوم "بالماريوت". تواكب عمران الزمالك مع عمران مصر الجديدة و حدائق القبة، حيث سكن أهل كل من أبي و أمي، بداية من 1900 وكان سكني الزمالك مقصورا علي الفيلات و القصور لكن سرعان ما تنبه المستثمرين في العمران لفرص الكسب الذي يتيحها بناء عمارات من عدة طوابق وكان متر الأرض يباع بخمسين قرش تامة. و هكذا بنيت في ظهر نادي الجزيرة ما يعرف اليوم بعمارات "اليمني" و كان أولها ما سمي بالانجليزية Zamalek Mansions حيث كانت تسكن مدرسة اللغة الانجليزية في مدرستنا مع حب حياتها الضابط المصري موسوعي المعرفة بالصحراء الغربية و نباتاتها و الحياة البرية فيها، الذي قتل في الحرب فلم تستطع مغادرة مصر حتي تدفن بجانبه.
في العام 1950 انتهي المهندسان فتحي شنوده و حلمي فؤاد من بناء عمارة من سبع طوابق علي أرض فضاء بجوار قصر أحمد حشمت باشا و ربما كانا من أوائل من شيد و صمم من المصريين في الزمالك و لا بد أن من تبقي من عائلة حشمت باشا وقتها، كانوا يلعنون سكان العمارات الدخيلة التي لابد أنها بدت لهم وأنها ناطحات سحاب تحجب عنهم ضوء الشمس و حسهم بالخصوصية كما لعن من تلوهم من سكان العمارات البوارج الأسمنتية أكلت من نهر الطريق بالذات في تقاطع شارعي شجرة الدر و اسماعيل محمد بجوار كلية الفنون الجميلة ومعهد الموسيقي العربية اللذين كانا بالتوالي سكني لعبود باشا و اسماعيل باشا محمد.
هنا وجدت نفسي في الدنيا و كانت الخريطة سالفة الذكر هي كل عالمي. من شارع أحمد حشمت عند تقاطع شجرة الدر و اسماعيل محمد انعطافا لليمين في شارع سير وليام ويلكوكس القائم علي أعمال الري و القناطر والسدود تحت الاحتلال، و كان بيته في نفس الشارع (طه حسين حاليا) حيث مدرسة المانور هاوس (بورسعيد منذ العدوان الثلاثي) ثم بعد الظهريات عبورا بطول شجرة الدر لنادي الضباط الذي كان بديع المعمار ذو ممشي من الرمال الحمراء يحفها طوب الأرميد في مثلثات مستوية ووراءها صفوف الورود البلدية العطرة. و في أيام العطلات في الشتاء بالذات عبر شارع فؤاد (26 يوليو) في اتجاه حديقة الأسماك أو "الجروتو" التي صممها و أشرف علي اتمامها فريق مكون من الأجانب. مع تقدمنا في العمر بعض الشيء بدأنا نتخذ طريقنا لنادي الجزيرة. لكنهم ظلوا يرفقون بنا عندما يبدأ الصيف فيصحبونا لنزهات في شارع أبو الفدا الطويل لينتعش الصغار ممن كانوا ما زالوا يجرون في عربات الأطفال بهواء النيل الصيفي و ينتهي بنا المطاف في حديقة الجامع الذي ربما لا يعلم كثيرون انه من تصميم الإيطالي المولع بالعمارة الإسلامية "ماريو روسسي" و يقع الان بجانب ساقية الصاوي وكانت به حديقة أطفال برحة وجميلة لا تقل جمالا عن حديقة الأطفال في نادي الجزيرة. أيام الأجازة الأسبوعية كنا نعدي النهر من كوبري السلطان أبو العلا لنحضر حفلة العاشرة في سينما مترو أو نخطو في الاتجاه الآخر عبر كوبري إمبابة لاصطحاب مربيتي العظيمة، مثال تمام الخلق و القدرة علي صناعة الحياة: السيدة رسمية محمد عبدالرحمن. رحمها الله و أسكنها مكانا تحبه بجانب نهر وصفصافة.
لكن الأماكن لا تذكر بتواريخها إنما تذكرها الروح بالعلامات التي تصقل الوعي و ترتقي به لينسج كل منا حكاية تخصه. في الغرفة التي بناها لي فتحي شنوده وحلمي فؤاد و جعلاها تطل علي فناء قصر أحمد حشمت باشا وزير التعليم ما بين 1910 و 1914 ذلك المقاوم الشرس للاستعمار البريطاني حيث أول وزير للخارجية المصرية بعد إعادة هيكلتها عقب الاعتراف الرسمي باستقلال مصر المنقوص عام 1922،و في الدور الرابع من العقار رقم 4 شارع أحمد حشمت سمعت حكايات طفولتي وتعلمت أن الوطنية لا تخص طبقة عن طبقة كما تعلمت ما احتفظت به الذاكرة لليوم لتحدد لي مساري الفكري بعدها بزمن.
عندما خطب الضابط الشاب، حفيد مفتي الديار، رائعة الجمال ذات الثمانية عشر عاما ابنة العائلة التي حارب كبيرها بجوار عرابي باشا في التل الكبير، كان هوعائدا من بعثة قصيرة من كلية ساندهيرست في انجلترا وكانت هي عائدة من آخر يوم لها بالمدرسة الداخلية وبيدها مضرب للتنس. حدث المحظور ووقع هوفي غرام التنس ووقعت هي في غرام الزي العسكري. كانت الزيجات وقتها تتم علي نحومختلف. ما زاد الأمور تعقيدا أنهما عقدا عزمهما علي عدم الزواج في حديقة منزل أي منهما كما كان المتبع. وكانت الطامة عندما هدد الكبار بعدم حضور حفل الزفاف لوأصرا علي اختيارهما الغريب وكان إقامة الحفل في فندق جديد كان يسمي "هليوبوليس بالاس" ثم أصبح اليوم "قصر الاتحادية"! لكنهما نالا ما قررا وتزوجا في المكان الذي اختاراه رغم أنف من يتباهون اليوم بهذا الاختيار الذي كاد يلغي الفرح. من المفترض أن يقطنا إما في منزل أحد عائلتيهما أوعلي الأقل بالقرب منهما في حدائق القبة. لكنهما قررا أنهما رأيا شقة جميلة في حي الزمالك قيد التشطيب! وكان العام هو1949. هنا أصبحت الطامتان ثلاثا. الوقوع في الحب؟! زفاف في "لوكانده" ثم شقة؟! يعني إيه شقة؟! وفي الزمالك؟ يعني سفر! يعني غربة! فكان أن شكلت لي تلك الحكاية فكرتي الأولي عن الحداثة بعد ذلك عندما صارت الحداثة وما بعدها شغلي الشاغل. كانت الأسرة الجديدة الصغيرة مثالا لاكتمال أوجه الحداثة: الناس تحيا في علب صغيرة في أدوار عالية ويحرصون علي المواعيد التي ترقمها الساعات الحديثة وينفصلون عن عائلاتهم الأم وينتفي وجود العائلة الممتدة وتصبح الزيارات بالمواعيد. وعندما ينجبان يخططان لطريق تعليم الأبناء ويفضلان كل ما هو"لاييك"، "سكيولور" مدني غير ديني، ويشجعان البنات بالذات علي تحصيل العلوم: "فمن الممكن أن يضع أي من كان في أي وقت الأرض والأرصدة قيد الحراسة أوالتأميم لأسباب وجيهة تضمن عدالة توزيع الثروات، ومن أجل صحة الخزينة العامة، لكن لا يمكن لأي من كان في أي وقت أن يؤمم ذهنك ويضع رأسك تحت الحراسة". كان أبي قد كلف بتأميم الشركة الخديوية للملاحة البحرية وكان صديقا لعبود باشا الذي كان يجله لعصاميته ولا يفتأ يحكي لنا أن عبود باشا عندما كان يزور النادي الأهلي لا يتفضل بإكرامية أكثر من خمسين قرش في حين كانت ابنته أكثر كرما ويقال إنه في يوم سئل في ذلك فأجاب: طيب هي بنت عبود باشا. أنا بقي ابن مين؟ كانت تلك احدي الحكايا التي تكرر لتأكيد البيت الذي مللنا سماعه ونحن نكبر: ليس الفتي من قال من أبي. أمم عبود باشا بأكبر قدر ممكن من اللياقة والذوق ولكن ظلت غصة في حلق أبي تبدوعندما تجيء سيرة التأميم والحراسات وكان يشعر أحيانا انه مسئول مسئولية مباشرة عن سقوط عائلات لم تكن في ثراء الارستقراطية التركية وكانت الأرض هي كل ما تعتمد عليه وكانت كريمة مع من يعتمدون عليها، كما كانت أمه تركية الأصل التي ظل يعولها حتي مماتها.
وهكذا كان أول درس وعيته أنهم كانوا يتحدثون عن أشياء مادية صرف وأن الرأس والفكر والذهن والوعي هي بالتحديد ما يؤمم ويوضع تحت الحراسة في المدرسة ثم الجامعة وتحت وطأة ضغوط الأقران والتهم الجاهزة لمن يحدوعن الاجماع. ومن قبل كل هذا وذاك يوضع تحت حراسة مشددة كل ما يعتقد أنه مفروغ منه. وكانت الأشياء المفروغ منها كثيرة جدا. العمل مفروغ منه للجميع لكن من المفروغ منه كذلك أن هناك مهن أهم من مهن. الاستقلال المادي مفروغ منه لكن من المفروغ منه كذلك أن النساء تقع مسؤليتهن علي الرجال ماديا ومعنويا. كان أيضا من المفروغ منه أن أوروبا أجمل من مصر وأن الأجانب أقدر علي تربية النشء وأن الناس معادن ولكن من المفروغ منه أن هناك طبقات تفرز معادن أفضل من غيرها!
هكذا وعيت أنني لا انتمي لكل ما هومفروغ منه وبدأت أبحث عما يرضي رأسي أنا حتي تحيا رأسي أنا حرة مستقلة كما تقول مدونة صديقتي " أمل" في جمهورية أحب أن أستعير اسمها من الأيرلندي شيموس هيني:" جمهورية الضمير" حيث يعيش أناس علي زاد اسمه الكلمه والتي كانت وفقا لما هومفروغ منه لا تسمن ولا تغني ولا تسبغ الاعتراف والاحترام علي النساء بالذات علي رغم التشدق بأوقاف الأميرة فاطمة وشعر وفن الأميرة سميحة فهمي التي انقذ قصرها الرائع كامل زهيري من يد وزير الداخلية الذي أراد له أن يكون مبني لإدارة أمن الزمالك فصار بفضل جهود كامل زهيري" مكتبة القاهرة الكبري" البديعة في شارع محمد مظهر. كانت هناك أخريات كذلك لم يكن يذكر إلا علي استحياء لأسباب لم أعرفها إلا بعد بداية اهتمامي بتاريخ الكاتبات والمبدعات في مصر من أمثال عائشة فهمي وقوت القلوب الدمرداشية وملك حفني ناصف وعائشة التيمورية ثم درية شفيق ونوال السعداوي: قافلة من المتحديات للأعراف والتقاليد، فقد ظلت الكتابة وبالذات الابداعية منها توحي "بالفضيحة" علي نحوما وهوربما ما نحي بكثيرات للجوء إلي الحصول علي مؤهلات عليا عندما أصبح التعليم الجامعي للجميع فدخلن رحاب السلك الجامعي "المحترم" كتعويض عن شغفهن بالكتابة الحرة وإن كانت الأمور اختلفت بعض الشيء الان، بعضه وليس كله وفي العالم بأسره وليس في مصر وحدها وكله نسبة وتناسب.
هنا أيضا عرفت أن الشقة في الطابق الأول تملكها رئاسة الجمهورية فحدث أن صادفت أبناء لومومبا ونكروما شخصيا ومانديلا وكان بالطبع الرئيس عبدالناصر يحضر أوحضر بالفعل ثلاث مرات للشقة التي بها الغرفة المطلة علي قصر حشمت باشا. عبر الشارع فيلا رقم 5 ما زالت مكاتب الرابطة الإفريقية تعمل في دأب وصمت وعندما تحول اسمها للجمعية الافريقية ظلت تعمل في ذات الدأب والصمت حتي حصلت علي جائزة الأمم المتحدة "رسول السلام" عام 1987. هنا كان يحضر السفراء محمد فايق وحلمي شعراوي وبين الطابق الأول والمبني عبر الشارع تعلمت معاني قابلتها بعدها في الأدب علي أيدي تشنوا أتشيبي، وجوزيف كونراد والطيب صالح الذي انضم إلي قافلتهم أخيرا السوداني الشاب حمور زيادة صاحب "شوق الدراويش". هنا انتفضت بالغضب عندما قالت احداهن وهي تحيي أمي علي السلم: "مش كفاية المدارس اللي جابهالنا عبدالناصر لازم كمان يجيب لنا العبيد لحد هنا؟! "
قالتها دون وعي أن النوبي الجميل حارس الليل النبيل الذي لا يطرف له جفن في حراستها؛ سليل رماة الحدق الأصيل كان علي مرمي السمع منها وكان في طريقه لتوصيل ابنتها لاتوبيس المدرسة المنتظر. يومها بكيت بحرقة لأني كنت أعتقد أن سيدنا محمد قد أنهي الرق وقضي علي التجارة في البشر. هكذا علمنا في المدرسة الشيخ مرزوق الأزهري ذوالعينين الزرقاوين. وحكي لنا أن جدته كانت جارية شركسية اشتراها أبوجده لابنه البكر عندما بلغ سن الرشد لكن أبوه أعتقها عندما صار قانون اقتناء العبيد واجب النفاذ ويستوجب خرقه العقاب الصارم. وسألت ولم يجيبني أحد فاكتفيت بالاحتفاظ بصوت جارتنا العصبي المزعج في ذاكرتي حتي انتقم يوما من كل من لا يقرأ التاريخ ويدعي علي الناس ما ليس له به علم. لقد كانت أول مدرسة تقام بالزمالك تلك التي أنشأتها البعثة السودانية ويسأل في عدد مدارس الزمالك قبل ثورة يوليوالأولي كل من سمير رأفت ووائل عابد.
وتعلمت معني الحرب. فلم أعد أسأل في أدب ولكن في تحد. كنت لزمن أعتقد أن الحرب مهنة ككل المهن. يذهب إليها الناس ويعودون وكان أبي يطمئن أمي أن الرصاصة تخرج من المصنع وقد حفر عليها اسم صاحبها. وهومصطلح دارج بين من يعرفون. في يوم عاد وقد أغرق الدم الأوفارول وأغشي علي أمي لكنه كان يبتسم. كان عائدا من طريق السويس وكانت هي تعاني في صمت مثلما كانت تعاني كلما سمعت كلمة "نوباطجية" وكأنه كتب عليه المواساة. مواساة أهل من قتلوا وأهل أهله ممن قتلوا بل وكل الناس وكأنه لم يضطرب له جفن عندما فقد رفيق سلاح أوصديق أوعزيز ويطمئننا: هذا الدم؟ كنا نخلي طريق السويس. وقتها أيضا لم أجد من يجيبني: ودم من هذا الذي اضطرنا لحرق الأوفرول؟ كان غضبي يتصاعد.
في الطريق إلي النادي كنت أمر علي بيت سارة في شارع حسن صبري. سارة كانت يهودية وكانت أمها تصنع أشهي بسكويت في العالم. في يوم ذهبت ولم أجد سارة ولا أمها ولم يجيبني حارس العمارة. ولم أكف عن السؤال حتي أجلسني أبي أمامه وشرح لي بتفصيل فاق قدرتي علي الفهم أن حيوات الناس ليست بأيديهم تماما وأن هناك أشياء تحدث في العالم تحرمنا من الأصدقاء. وأنه هوشخصيا يفتقد محاميه اليهودي الذي كان يثق به ثقة كبيرة لكني أظنه وضع صداقتي لسارة في كفة وحياته هوفي كفة لأني ظننت أن عائلة سارة كانت تنوي قتله هوشخصيا. بعدها عرفت انهم ذهبوا لباريس وانهم يشتاقوا كثيرا للقاهرة وبيتهم في الزمالك ويشعرون بالغربة التامة في تلك المدينة التي طالما ظنوا أنها أجمل مدن العالم. ولكن كيف تكون وليس بها أصدقاء يهتمون ويسألون ويواسون.
لكن ذاكرتي كانت قد وصمتهم كما يصم كل تعميم مخل البشر بالكراهية ثم تنبهت لمكونات الكراهية والتعصب فتعلمت منذ ذلك الحين ألا أجمع في صيغ لابد وأنها تودي المرء إلي تهلكة الكذب علي الله قبل الناس: فلا أقول أبدا "الانجليز" "الفرنسيين" "الطليان" "المسلمين" المسيحيين" اليهود" "أو"البشوات" أو"الضباط" أوالطبقة تلك أوتلك" ولا حتي "المصريين" وانما أسمي أسماء الناس فرادي. فكل منا مهما كان لون جواز سفره أودينه أوبلده أومهنتة يحبها لأنه يعرفها أكثر من غيرها، مثلنا مثل أي أسرة في أي مكان بيننا الصالح وفينا الطالح. ولا معني لكلمة أنا وأخويا علي ابن عمي وأنا وابن عمي علي الغريب لأن هذا يعني أن القربي والقبيلة والعشيرة وزمالة المهنة أهم وأعلي من الحق سبحانه. ويرجع امتناني في ذلك ليوم تنامي إلي سمعي صوت كبيرة المدرسات تقول في اشمئزاز: اووف هؤلاء المصريين! ولما التفت ووعت هي اني سمعتها ابتسمت وقالت انها تتحدث عن كسل الفراش! ظنت أن تبريرها هذا يشفع لها! هكذا تماهيت تماما مع عم علي وعرفت أبعاد الانتماء لجنسية بعينها. ان الوطنية كما قال العظيم الساخر برنارد شومثلها مثل عظام الرجل. الانسان لا يشعر بعظامه طالما هي لا تؤلمه. تألمت عظامي لأني لم أكن أعلم عن عم علي ما يؤهلني للدفاع عنه. وقلت لنفسي بعدها أشياء عن تلك المرأة المتعجرفة الجبانة، حين أتذكرها اليوم أقشعر لعنتريتها وجهلها فتؤكد لي ضرورة المعرفة وعدم الانصياع للمفروغ منه. المعرفة تقودك للدفاع عن الحق دون عصبية. وعدم الانصياع للمفروغ منه يظهر الحق. لوكنت قلت لها يومها في هدوء أنها تطلب الرجل أشياء لا يستطيع تلبيتها لأن لكنتها العربية مضغمة تماما ولا تفهم وأن عليها أن تتعلم العربية أوأقله المصرية لما راح عقلي يكيل لها اتهامات عظام ولاكتفي بالاشفاق عليها من الجهل والغباء العاطفي. ولوكان عم علي هوالذي تأفف من كل الانجليز لضربت له مثل تلك السيدة التي رفضت أن تترك مصر بعد مقتل حبيبها وكم ساعدت وبذلت في حب بلدها الذي انتخبته بمطلق الحرية ولذكرته بكم عطائها وسخائها المادي والروحي بدلا من مشاركته شتيمة كل الانجليز! من المعرفة يظهر الحلال بين والحرام بين.
هنا في آخر الأمر تعلمت أن معرفة تاريخ الحي الذي أقطنه لابد وأن تؤدي إلي حس بالانتماء حتي لولم يكن أجمل أحياء الدنيا بل حتي لوكان أقبحها علي الاطلاق. هنا تعلمت أن أقبح أوجه الاستعمار هوأنه يفرق بين أناس كان من الممكن أن يعيشوا متعاونين وان هذه السمات لا تقتصر علي الاستعمار التقليدي الوافد ولكن علي كل من يري مصلحته في التفريق بين الناس علي كافة مشاربهم. هذا هوالمستعمر. هنا تعلمت أن الناس بالفعل طبقات: الطبقات الدنيا الدنئية هي التي تبطش وتستعبد آخرين وتصنع الوقيعة والبغضاء لتتسيد هي، لكن الطبقات الدنيئة التي تبطش ليست شيئا واحدا اصما يمكننا الاشارة له ونقول :هذه طبقة دنيئة باطشة. بل هم أناس فرادي يكونون جماعات تربطهم صلات وبينهم من هودنيء باطش ومن هوطيب كريم سواء كان موسرا غنيا، أوفقيرا معدما وأن الارستقراطية القديمة والبورجوازية الكبيرة الحديثة، التي يتشدق بها الناس ممن حنطوا أرواحهم في المظاهر هي في الواقع لا علاقة لها بعقارات وفدادين أوشركات عملاقة وسكني قصور مشيدة في "كومباوندات" لكنها أرستقراطية الروح المشبعة بالمحبة غير المشروطة وبورجوازية القدرة علي المساعدة مهما كانت ضئيلة وكرم الخلق في عدم التعدي علي الآخرين قولا أوفعلا.
الشباب اليوم يقدرون ذلك حق قدره ويتواصلون عبر كل المعوقات التي عفي عليها الزمن ولذا فالأمل في مستقبل دون عصبيات ودون تحيزات عمياء ممكن حتي لوكانت البداية ضئيلة وبسيطة: فليتعرف كل منا علي شارعه وعلي ناسه من كل المشارب فيه ومنه الي الحي الذي يقع فيه الشارع ومن الحي للمدينة ثم الاقليم ثم بلاده ثم قارته ومنها للعالم كله وأن يكون ذلك وفقا لتوجه بسيط في جوهره عظيم في تداعياته: كلنا أفرع شجرة واحدة وأوراق غصن واحد. كما في الدويقة كذلك في الزمالك.
المعلومات المستقاة عن تاريخ المعمار مقتبسة عن كتاب المهندس وائل طارق عابد الصادر 2013 وطبعته أي. آر جروب


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.