"واتصلت مصر والقاهرة فصارتا بلداً واحداً يشتمل علي جميع أنواع العمائر : البساتين والمناظر ، القصور ، والمنازل ، الأسواق والفنادق ، الحانات والحمامات ، الشوارع والحارات ، الدروب والأزقة ، الجوامع والزوايا ، الربوع والمشاهد ، المدارس والمقابر ، متصل جميع ذلك بعضه ببعض من مسجد قبر إلي بساتين الوزير قبلي بركة الحبش ومن شاطيء النيل بالجيزة إلي جبل المقطم" . المقريزي : السلوك في معرفة دول الملوك القاهرة بولاق 1932 . في نهاية فيلم هالة لطفي الخروج للنهار، نري البطلة في الفجر، علي ضفاف شاطيء مسطح مائي ممتد، تطل عليه بعض الأكواخ الخشبية وقباب لضريح متهالك يلفه الضباب... لم يتعرف الكثيرون علي الموقع واعتقدوا انه ربما يكون مكانا ما علي نهر النيل. وفي ومضة ذهنية اكتشفت أن المكان هو بحيرة عين الصيرة والضريح لال طاباطابا، الأثر الوحيد المتبقي من فترة الأخشيد ( 905-969) و قد شيد عام 934 و كان مكونا من أضرحة تغطيها تسع قباب لم يتبق منها سوي اثنتين و قال عنه المؤرخ كريسويل أنه منشأ فريد في العمارة الإسلامية. و قد دفن فيه بجانب الامام ابي الحسن بن الحسن بن طاباطابا رجال و نساء من آل البيت الطيبين و الزهاد. في اليوم التالي توجهت الي أحد أقدم مواقع القرافة الكبري، و كنت قد انقطعت عن زيارة هذا المكان منذ عام 2007، اثر صدور الطبعة الإنجليزية لكتابي عن العمارة الجنائزية في القاهرة ، لتلافي رؤية تدهور أماكن ترددت عليها لسنوات واكتشفت الكنوز التي تحويها و لفت النظر للقيم التي تحملها، التاريخية و الجمالية و الرمزية و ناديت بضرورة الحفاظ عليها. كانت قباب الضريح، مختفية وراء الحشائش و بقايا سور حديدي أكله الصدأ تحيطه القمامة من جانب و جانب آخر مياه آسنة تسببت في انهيار جزء من جسم الضريح، و خلفت التشققات الظاهرة علي القبة. قررت استكمال الرحلة و الذهاب لمواقع أخري، و إعادة استكشاف القرافة بعيون جيل جديد من الشباب، ليتعرفوا علي أماكن فريدة في مدينتهم و يمنعوا اندثارها، هذه الجبانة الهائلة، المدرجة داخل نطاق القاهرة التاريخية و مسجلة معها علي قائمة تراث الإنسانية. مدينة الموتي ال Necropolis التي تعتبر وبحق "وادي ملوك وملكات" المصريين المعاصرين. يمتد هذا المتصل الجنائزي بطول 21 كم من الشمال للجنوب بموازاة القاهرة التاريخية شرقاً تحت سفح المقطم ويحتل مساحة ألف هكتار ويتكون من مجموعتين رئيسيتين : - تقع الأولي جنوب وجنوب شرق المدينة وتعد أضخم متصل من المقابر وتضم من الجنوب إلي الشمال جبانات البساتين والتونسي والإمام الليثي وسيدي أبو الوفا وسيدي الشاطبي والإمام الشافعي وعمر ابن الفارض والمماليك والسيدة نفيسة . ويحدها من الشرق تلال المقطم ومن الجنوب منطقة البساتين الصناعية ومن الشمال القلعة وجامع ابن طولون . أما المجموعة الثانية فتقع في الشمال الشرقي وتبدأ عند سفح القلعة وتضم من الجنوب إلي الشمال الشرقي جبانات باب الوزير والمجاورين والقرافة الشرقية للمسلمين وقايتباي والغفير ويحد هذه المجموعة من الشرق طريق الأوتوستراد ومنشأة ناصر علي تلال المقطم ومن الغرب طريق صلاح سالم ومن الشمال الشرقي مدينة البعوث ويفصلها من الغرب عن القاهرة التاريخية منطقة بها منشآت عسكرية منخفضة الكثافة و حديقة الأزهر التي أنشئت عام 2002 علي تلال قمامة القاهرة المتراكمة عبر مئات السنين. يرجع تاريخ إنشاء جبانات القاهرة إلي القرن السابع الميلادي مع إنشاء أول عاصمة عربية لمصر ذ الفسطاط ، وعلي مدي أربعة عشر قرناً توسعت تلك الجبانة التي أطلق عليها القرافة3 ثم استحدثت جبانات أخري بعد ذلك حيث أضاف كل عصر من العصور اللاحقة جبانة جديدة حتي أصبح لمدينة القاهرة هذا المتصل الجنائزي الضخم . وقد كانت هذه الجبانات في كل العصور السابقة محل إعتناء الحكام فشيدوا بها المساجد والخوانق والمدارس والأربطة وألحقوا بها المدافن وأيضاً الجواسق والقصور والمتنزهات وما أن انتهي القرن العاشر الميلادي إلا وكانت بها مجموعة من المنشآت الدينية التي لم تجتمع في صعيد واحد مثلما اجتمعت هنا . و قام بزيارتها العديد من الرحالة الأجانب والعرب منذ العصور الوسطي وأشادوا بحسن بنائها وعظمة آثارها وشبهها الرحالة ابن جبير بمتحف للآثار وبإحدي عجائب الدنيا . وذكر ابن جبير أنه بات بالقرافة ووصفها بأنها " إحدي عجائب الدنيا مما تحتوي عليه من مشاهد الأنبياء صلوات الله عليهم وأهل البيت رضوان الله عليهم والصحابة والتابعين والعلماء والزهاد والأولياء ذوي الكرامات والأنباء الغربية . وعندما زار مصر ابن سعيد في أواخر العصر الأيوبي ترك لنا وصفاً جميلاً للقرافة فقد ذكر أنه بات ليالي كثيرة بالقرافة التي تقع شرق الفسطاط وأن بها منازل لأعيان الفسطاط والقاهرة وقبور عليها مبان معتني بها وفيها القبة العظيمة العالية المزخرفة التي فيها قبر الإمام الشافعي رحمة الله عليه وبها مسجد جامع وترب كثيرة عليها أوقاف للقراء ومدرسة كبيرة للشافعية . و وصفها كل من العمري والقلقشندي بأنها "تربة عظمي أو عظيمة " وأضاف القلقشندي علي ذلك فذكر أن الناس بنوا بها "الأبنية الرائعة والمناظر البهيجة والقصور البديعة يسرح الناظر في أرجائها ويبتهج الخاطر برؤيتها وبها الجوامع والمساجد والزوايا والربط والخوانق وهي في الحقيقة مدينة عظيمة إلا أنها قليلة الساكن " وتضم جبانات القاهرة اليوم 78 أثراً مسجلة علي قائمة الآثار من ضمن 537 أثراً إسلامياً (15٪) ترجع إلي العصور الفاطمية والأيوبية والمملوكية والعثمانية بالإضافة إلي العديد من المواقع التي دفن فيها الصحابة وكبار المتصوفة في الإسلام أمثال ابن عطاء الله وذو النون ورفاق الحلاج (القرافة الجنوبية) والعلامة ابن خلدون والمؤرخ المقريزي (قرافة باب النصر) ذ علي سبيل المثال لا الحصر. وتشمل هذه الآثار العديد من الأنماط المعمارية فنجد المجموعات الجنائزيةComplexes Funéraires المتعددة الوظائف لسلاطين المماليك كمجوعات قايتباي وبرقوق وإينال وقرقماس بالقرافة الشرقية وأهمها علي الإطلاق مجموعة قايتباي التي كانت تعتبر مدينة صغيرة مسورة تضم جامعا وسبيلا وكتابا وضريحا تعلوه قبة بديعة ومدرسة ومقعد ورواق وربع وحوض للدواب مازال معظمها قائماً إلي يومنا هذا وتعتبر مجموعة قايتباي من أروع ما أنتجته العمارة الإسلامية ليس في مصر فحسب ولكن في العالم الإسلامي برمته . وأضرحة لأئمة لهم مكانة كبيرة عند المسلمين كالإمام الشافعي والليثي وسيدي عقبة بن عامر وسيدي الشاطبي (القرافة الجنوبية) وكذلك لآل البيت السيدات رقية (1113) وسكينة ونفيسة وعائشة (1120) التي تتابع في شارع درب الوداع سابقاً (الخليفة حالياً) وهو امتداد جهة الجنوب لشارع المعز وقد أطلق عليه المؤرخون الشارع الأعظم وكان يصل في الماضي حتي جامع عمرو في الجنوب الغربي . ويضم هذا الشارع بجانب أضرحة آل البيت ، ضريح تاسع السلاطين المماليك الأشراف خليل (1290 1293) وأشهر ملكات مصر شجرة الدر (1250) . تضم القرافة أيضاً خوانق للمتصوفة مثل خانقاه ومدرسة زين الدين يوسف شيخ الطريقة الكاملية ومدافن مستقلة علي هيئة قباب لأمراء المماليك تتابع في تناغم جميل في القرافة الشرقية وقام برسمها في الماضي كبار الفنانين الأجانب أمثالتPriss dصAvenne ومدافن أسر البرجوازية والأرستقراطية وأحواش الأعيان والحكام أمثال أسرة محمد علي وأحمد عرابي وعمر مكرم وجزء لا يستهان به من الوجوه السياسية المرموقة التي تعتز بها الأمة وتشبه القصور نظراً لإحتوائها علي عدة مبان تطل علي حوش مساو و تحتل مساحات تتراوح بين مائة متر 2 وعدة مئات من الأمتار المربعة كما أنها مشيدة غالباً بالحجر والطوب . وقام بوضع بعض من تصميماتها كبار المعماريين المصريين أمثال مصطفي باشا فهمي وحسن فتحي . ويقابل هذا التنوع في الأنماط المعمارية تنوع وثراء في أنماط النسيج والأشكال المعمارية يكتشفها المتجول في تلك المناطق منذ الوهلة الأولي . ويمكننا هنا أن نتحدث عن تخطيط حضري دون أن يمثل ذلك نوعاً من الاستعارة أو الكناية . فمساحات الأحواش تتراوح ما بين بضعة أمتار مربعة وعشرات منها بل ومئات . أما النسيج الحضري فهو يتنوع ما بين المتعامد المخطط والمنظم والعضوي العشوائي الحر . هذان النمطان يتجاوران في أماكن محددة وربما تداخلا . وينشأ عن هذا التداخل العديد من أنماط النسيج الأخري . كذلك أفرز تنوع أحجام قطع الأراضي ثراءً معمارياً كبيراً وهذا أمر طبيعي ، فقطع الأراضي ومساحاتها تحدد أشكال البناء والوضع يختلف كلية بين قطعة أرض ذات عشرة أمتار مربعة ومائة متر مربع . وبالتالي فالمدفن يمكن أن يكون مجرد حجر مزدان بشاهدين أو ضريح هائل ذي قبة في وسط حديقة خضراء ويشبه الجامع أو فيللا ذات أبنية متعددة أو كشك خشبي صغير له فتحات مثل القماش المفرغ . وعند محاولتنا لتحليل تلك العمارة نجدها تبدأ منذ أكثر من ألف عام ... إلا أن هناك العديد من المؤثرات المختلفة تظهر بشكل جلي في وسائل البناء والتفاصيل المعمارية ولكن تلك العمارة تعبر في المقام الأول عن الرغبة في الإفصاح عن الهوية الاجتماعية من خلال المقبرة وتشير إلي الأهمية الثقافية لدار الخلود في المجتمع المصري . ومازالت مدينة الموتي في القاهرة تثير دهشة وإعجاب السائحين الأجانب وتعتبر من المزارات الهامة في الدلائل السياحية مثلها مثل القلعة وقاهرة المعز إلا أنها تواجه عدة تحديات ومخاطر . أولها يتمثل في زحف الإسكان العشوائي داخل حيزها الجغرافي في صورة تجمعات سكنية حول المجموعات الجنائزية الضخمة لقايتباي وبرقوق في القرافة الشرقية ، وحول الإمام الشافعي والتونسي في