يبدأ العلم الحديث كما نعرفه بأدواته و أصوله التي أصبح متعارف عليها منذ كوجيتو ديكارت عندما يبدأ في طرح الأسئلة المحرجة علي الأسطورة. المقصود بالأسطورة هنا ليس تلك الحكايات الرائعة التي حاول بها الناس تفسير العالم من حولهم خلال سعيهم للمعرفة. فهذه الأساطير أو الحكايات و منها أساطير الخلق الأول تظل دون أدني شك من أهم روافد الأدب حتي اليوم، كما أنها ترتبط بشكل وثيق بأسس الفلسفة و مفاهيم الحق و الخير و الجمال و قد مثلت جزءا لا يستهان به في تطور علوم النفس الحديثة و علوم الأثروبولوجيا و غيرها و كانت بالفعل البداية في رحلة العلم الموضوعي كما نعرفه اليوم. إنما الأسطورة التي أتحدث عنها هي تلك التي ما زالت تتسبب في كثير من الجدل العقيم الذي يضع العلم في مواجهة صراعية مع المفاهيم الإيمانية فتنتج ثنائية غير عقلانية لا علمية ولا إيمانية. و لنوضح: الأسطورة التي أتحدث عنها هي بالضبط أسطورة التمسك بمواقف مبدئية حرفية غير قابلة للتأويل أو المراجعةو النقاش دونما تواضع علي الوصول إلي الحقيقة سواء كانت تلك الحقيقة تستند إلي ما تدعي أنه العلم أو تدعي أنه إيمانا عقائديا. من أهم سمات العقل البشري هوالقلق الذي يبدو أنه المحفز الرئيسي في رحلته اللامتناهية نحو الاستقلال و التحرر. وهو في ذلك يبذل جل الجهد في الكشف عن الحقيقة. و العلم حين يطرح الأسئلة الصعبة علي الحال كما هو عليه في أي حقبة يهدد الطمأنينة المصطنعة التي يبذل الراكنون إلي تلك الطمأنينة كل جهدهم أيضا في الحفاظ عليها دون تساؤل وهو ما يفعله العلماء "الموضوعيون" حين يتشبثون هم كذلك بإنكار كل ما لا يمكن أن يخضع للتجربة المعملية العلمية. و ينتج بالتالي فضاء وهمي لا يتوجه بالسؤال و الفحص داخل مجاله الصحيح. فمال العلم و المنطق العلمي و الحكايات و الأساطير؟ و مال الأساطير و الحكايات المجازية التي تصلح لترميز الخير و الحق و السلوك القويم في كل زمان و مكان من المعامل؟ النزاع إذن ليس علي الحق و الخير والسلوكيات التي تؤكدهما علي الأرض و إنما النزاع في واقع الأمر لا يتعدي صراع قوي من أجل التحكم في فضاءات الخطاب. من أكثر المجالات إثارة لتلك المواجهات المصطنعة هو مجال نشأة و تطور الجنس البشري و أقرب الحقول المعرفية لطرح تلك الاشكالية هي مباحث ما نطلق عليه "ما قبل التاريخ" وهو علم حديث نسبيا ينم حتي الآن في الأعم الغالب عن عصور ما قبل الكتابة. بدأ ظهور مفهوم "ما قبل التاريخ" في الظهور خلال الحقبة التي نسميها حقبة "التنوير" و اتخذ الاسم الذي ما زال يلاصقه عام 1836. فعلي الرغم من أن مصطلح "ما قبل التاريخ" يشير إلي زمن شاسع يصل إلي بداية الكون وظهور الإنسان الأول علي الأرض إلا أن المؤرخون لذلك الظهور المدهش يقسمه الدارسين له في ثلاث نظم لتسهيل الأمر: العصر الحجري و العصر البرونزي و عصر الحديد. وهي قسمة كما نري تعتمد علي الأدوات التي وجدوها في حفرياتهم في كل مكان علي حدي وفي شتي أنحاء العالم. والمؤرخين لعصور ما قبل التاريخ يعتمدون أكثر ما يعتمدون في بحوثهم علي أدلة مستوحاة من العلوم الطبيعية والاجتماعية و هكذا صارت الحدود الفاصلة لما هو "تاريخ" وما هو قبله سائلة في أحيان غير قليلة و أصبح من المتعارف عليه اليوم الحديث عن تاريخ عميق إلا أننا في كل الأحيان حين نتحدث عن التاريخ نكون نتحدث عن ظاهرة إنسانية. لقد تعودنا في مصر علي صورة ذهنية عن حضارة عظيمة نتحدث عنها و كأن جماعة من الناس استفاقوا فجأة فبنوا أول عجائب الدنيا السبعة. في أول كتب سلسلة "ببساطة" الصادرة عن دار دوم للنشر لمؤسسها د.خالد الخميسي نقرأ للمؤرخ أحمد فهيم كتابا بعنوان "متي سكن المصريون مصر؟" الكثير مما يفيقنا نحن اليوم علي نشأة و تطور الحياة في مصر و نعي بالفعل لا بالقول المكرر غير الموثق أهمية نهر النيل و دوره في احتضان واحدة من أهم حضارات العالم ربما حتي اليوم. يبدأ الكتاب المصور الذي يطرح أسئلة قلما تطرح لدي الحديث عن استيطان مصر بالجماعات الأولي بالمناخ و تحولاته. و يأخذنا في رحلة ساحرة منذ كانت الصحراء الغربية غابة كثيفة يحفها نهر عفي ما زال يحفر مجراه بعنف و صخب حتي أن تلك الجماعات الاستيطانية الأولي كانت تحيا علي الهضاب الشرقية و الغربية وكانوا بالطبع جماعات رحالة مما يسمي الصيادون والجامعون بمعني أنهم كانوا يعتمدوا في حياتهم علي الصيد و جمع الثمار أي كما يقول الكاتب في فقاعة تظهر فوق رجل شبه عار "يعني ولا كانوا ساكنين في الوادي ولا كانوا مستقرين". وهو ما يليه وصف للدور الذي لعبته الطبيعة في جذب تلك الجماعات من فوق الجبال و الهضاب والنزوع نحو النهر ليبدأوا رحلتهم الطويلة نحو الوادي. كانت الأمطار قد بدأت تنحسر و بدأت الهضاب تجف و بدأ النهر تتضح ملامحه التي كان من أهمها أنه نهر منتظم يمكن الاعتماد عليه فهو يفيض في أوقات بعينها و يرتبط فيضانه بظهور النجم "سيروس" أو الشعري اليمانية و بذا توفرت للزراعة الظروف و تهيأ للجماعة البشرية التي سكنت الوادي في العصر الحجري الحديث الاستقرار و استئناس بعض الحيوانات. ولأن الطبيعة كانت طيبة إلي حد بعيد و النهر من الممكن التنبؤ بتحولاته علي نحو منضبط المواعيد بدأ تقسيم السنة وما ترتب عليه فيما بعد من انضمام سكان الجبال لسكان الوادي و ظهور معتقدات و زعماء لتلك القبائل حي نصل إلي الملوك الذين نرمز لهم بمينا أو الملك العقرب الذين كانوا في الغالب كما يروح أحمد فهمي أكثر من زعيم وحدتهم المخيلة الجماعية لدي بداية التدوين. لما كان الباحثين الأساسيين فيما يسمي "عصور ما قبل التاريخ" هم من علماء الأركيولوجيا و الأنثروبولوجية فإن روافد هذا الحقل تتعدد و تتضافر لتعطينا تصورنا الحالي لكن المسميات و المصطلحات التي تظل موضع جدل و نقاش كما يظل كذلك ما يوصف بما قبل التاريخ غير متوافقا عليه تماما و إن كان التوافق الأعم هو التسليم بأن التاريخ في أي بلد يبدأ بظهور نظام كتابي مدون وهو ما حدث في مصر فيما يبدو علي الأقل حتي الآن حوالي 3200 قبل الميلاد. ولذا فإن التوثيق قبل ظهور الكتابة يعتمد علي الحفريات التي تسمي بموقع اكتشافها. في مصر امتاز الصعيد بكم أكبر من تلك الحفريات بما أن دلتا النهر كانت منغمرة في الطمي وبذا نجد أهم اكتشافات في نزلة خاطر بأسيوط و مرمدة بني سلامة حوالي 50 كم شمال غرب القاهرة و بها أقدم الدفنات المعروفة في وادي النيل وعاصرتها حضارة الفيوم و البداري و المعادي و غيرها من حضارات العصر الحجري الحديث وكان بينها صلات تدل عليها الكثير من البقايا التي كانت تدفن مع الموتي. يصف لنا أحمد فهمي بتبسيط مثقف لا يخل ولا يحيد عما توصلت اليه الأبحاث الأكاديمية الجادة التي لا يطلع عليها غير المتخصصين أهم آثار تلك الحضارات التي تنتمي للعصر الحجري الحديث حتي يصل بنا إلي المرحلة الأخيرة لتوحيد مصر سياسيا و بداية الحضارة الشاملة التي تقفز رموزها للذهن حين نتحدث عن مصر القديمة ممثلة في الغالب في الأهرامات. الشيق في الكتاب ليس فقط كم المعلومات المرتكزة علي بحث أكاديمي جاد و لكن طريقة العرض الطريفة التي تشحذ القاريء فتنبهه لما ارتكن عليه من افكار ورثها و تسلمها دون تفكير مثل "متي بدأ استخدام الطوب اللبن؟" علي سبيل المثال. أو عند وصفه لطبق ينتمي لما قبل خمسة آلاف و خمسمائة عام مصنوع من الفخار و يرجونا أن نذهب لرؤية الطبق في المتحف المصري علي لسان شخصية مرسومة تزعق، و يتناول أهمية النقوش المحفورة علي الطبق و علاقتها بفكرة الصانع حتي في هذا التاريخ عما ترمز له المثلثات التي كانت اللبنة الأولي لفكرة الهرم ثم يتسائل كيف ربط المصري القديم بين هذا الشكل و فكرة خلق الكون من وجهة نظره و لماذا اختار الشكل البيضاوي للطبق؟ وكلها أسئلة يجيب عليها بالطبع ولكن مجرد طرحها و إيضاحها في رسم كاريكاتوري مميز يركز الذهن لتلقي المعلومة في يسر و يسهل التذكر دون عناء. إن مثل تلك الأعمال التي تنتمي لحقل تبسيط العلوم من قبل المتخصصين كفيلة بخلق مناخ جديد يجعل من السؤال المعرفي سؤالا يبدد الأساطير التي تعتمد التكرار لاستمراريتها ويجعل من الإجابات العلمية غذاء طازجا للعقل و يشجع علي مراجعة العادات الذهنية الكسوله و يقدم نموذجا للفضول المعرفي من المؤكد أنه يؤسس لبنية ذهنية جديدة قد تفيض ظلالاها علي كل الأفكار المسبقة غير الممتحنة التي تغلفنا في شعارات جوفاء لو أردنا إثباتها لا نجد ما نقول. هذا هومثال البحث العلمي المرتجي، مبسط و سهل و معروض في إخراج يستخدم الصورة لإغواء العين علي نحو يخفف من ثقل المادة العلمية و يشجع علي هضمها، ولا يخشي الجنوح إلي الخفة و الفكاهة لأن الرصانة لا تعني انعدام حس المفارقة و حس المفارقة وحده هو ما يخلق عقلية ناقدة مستقلة. شكرا أحمد فهيم و مؤسسة دوم للثقافة التي أعلم أنها كانت حلم لخالد الخميسي من زمن أراد به أن يوفر العلوم المتخصصة و نتائج البحث الأكاديمي علي نحو يصل جمهور أوسع. و لذا فإن سلسلة ببساطة سوف تليها سلسلة اخري باسم "بكل بساطة" لجمهور سيتسع ليشمل أطفال المدارس و بذا تتوفر لوزارة التربية و التعليم ما يؤازر جهودها في عملية تطوير المناهج التي طال انتظارنا لها.