مبنى مصلحة الجمارك 1931 لم أكن أعرف الإسكندرية جيداً؛ لكن أمي كانت قد ولدت هنا، وهنا تزوجها أبي وجاء بها عروسا إلي كيفسيا. لكن شهرا لم يكفني في خريف العام الماضي. لكي أتعرف علي مدينة كهذه أحتاج إلي شهور، أيام طويلة وخالية. كي أتجول فيها بلا هدف، أسلك شوارع لا أعرف إلي أين تؤدي، أكتشف أماكن وأفنية داخلية ورخاما مالطيّا، نقوشا علي أبواب حديدية معشقة، جامعا صغيرا بخطوط صفراء ووردية مثل قمصان لاعبي الكرة، بجواره شجرة لها جذع لامع وأوراق مليئة بالعصافير. أتوقف أمام الأبواب القديمة وأقرأ تواريخ محفورة علي الحجارة وأتأمل: هذا لم يلتهمه الحريق، ذاك بُني في نفس سنة ميلاد أمي... أسمع إلي أسماء الشوارع ومخيلتي تسير من عالم هيرودوت وبلوتارخ إلي الآن مع المرابين وتجار الأقطان. أدخل إلي مقاهٍ قديمة حيث المرايا التي تعلن عن ماركات نبيذ وكونياك ومقويات كلها منسية اليوم، ورائحة التبغ قد تخللت أعماق مقاعد الخوص الغائرة، ومفارش الجوخ المهلهلة علي طاولات البلياردو، وعلب الطباشير والممسحة، مع صوت الجرسون الجهير الحاد يصدح ويطلب المشروبات باليونانية... كان لابد أن تكون لديّ الحرية لأكون بين الناس، العمال، في الميناء، في الأسواق، في بيوتهم، في المصانع وفي المراكز، في الأضواء، داخل الضوء. ذلك الشهر قضيته محبوسا في طابق أرضي، شئ أشبه بسكن مشترك أو سكن خاص بعمال الموانئ عند محطة كليوباترا علي الكورنيش. كنت أخرج في الليل للتعاون مع الرفاق، لكن كنا نرتب اللقاءات في الأماكن التي يمكنني فقط أن أذهب إليها بسهولة أو أتذكر أسماء الشوارع التي كنت أتعرف عليها علي عجل ليلاً وعقلي كان مسلوباً نحو الأخبار التي ينقلها المذياع، حرب العلمين، انسحاب روميل. شرقاً ناحية شارع أبو قير، كانت المستشفي اليوناني. قضيت هناك عشرة أيام في يناير. ولا حتي في تلك الفترة فكرت أن أسأل إذا كان هناك مازال أي أقارب لأمي، أبناء عمومتها أو أبناءهم. كنت أعرف فقط أن في منطقة الرمل وفي منطقة كنيسة الرسول إلياس علي أن أبحث، إذا ماقررت. والآن للمرة الثالثة، مرة أخري خارج عن القانون ، وفي الخريف مرة أخري، ليلاً. كنت أسير في طريقي بهدوء حتي المستشفي. تسللت من بوابة القديسين نحو الحديقة سيراً بجوار الحائط حتي وصلت إلي جناح الموظفين. حلقة الوصل كان أحد الطباخين، بدين وقصير ومشوش بعض الشيء لكنه رفيق أهل للثقة. آه ! فوجئ عندما رآني أمامه ودفعني بكرشه في الظلام نحو الممر: هل رأوك وأنت تدخل؟ طمأنته وقلت له إن حتي مخبري المحطة لم ينتبهوا لي عندما وصلت وسألته إذا كان ذلك السكن الجماعي في كليوباترا لايزال قائماً. قال لي، هيا أسرع، بالكاد ستلحق بالأرملة. لديه موعد في العاشرة. الأرملة كانت كنية واحد اسمه ثاناسيس، بحار سابق، الآن هو عسكري برتبة عريف أول ذو وجه طويل مليء بالتجاعيد، »كان مثل الأرملة الباكية« لا يكف عن الشكوي، كان يشكو من كل شيء، لكن لم يكن أحد يسبقه في المبادرة وسرعة البديهة. كان يتسلل كالقط، لا ينتبه أحد متي يغادر؛ سيظهر بعد قليل برأس منحنٍ وخلسة يمرر إليك شيئا من رابع المستحيلات أن يوجد بالإسكندرية: أنبوبة مصحح، شريط أسكتلندي لحلة شتوية، شراب الميرك النادر من أجل أوجاع البطن. لا يدري أحد هل كان يسرقها أم يقترضها أم يبتاعها؟ لم يكن يقول أبداً. لكن الأمر الغريب: أن هذا الدميم كان يحصل علي الكثير من النساء، لم يكن لديه الوقت الكافي لينسق مواعيده الغرامية: مربيات، ممرضات، معلمات، خادمات، يونانيات وأجنبيات.
مساء يوم أحد وقت الغروب، بدأت أنفذ وصية فانيس. عندما خرجت من المنزل المشترك واجهت بحراً أحمر اللون وسماء حمراء، وكأن كل شئ مازال يحترق؛ غربت الشمس بعظمة بديعة. انحرفت يميناً لأستقل ترام الرمل وللحظة ظننت أنني أدرت ظهري ليوم دامٍ وهرولت نحو أحضان عالم أزرق. في رواق الترام الذي حشرت نفسي فيه كانوا يتكلمون اليونانية والعربية والإنجليزية. كبارا وصغارا كانوا في عجلة ليذهبوا إلي بيوتهم قبل حلول الظلام بعد عرض مسرحي أو سينمائي مسائي. من محطة لأخري راح الترام يفرغ من ركابه. رأيت مقاهي شعبية يحمل جارسوناتها المقاعد والطاولات للداخل ويعدون الستائر الداكنة ليغطوا الأبواب والنوافذ. تملكني خوف أن يحل عليّ الليل في مناطق جديدة لا أعرفها فأضل الطريق. لكني نزلت في محطة جناكليس، لم يحل الظلام بعد، رحت أقرأ لافتات المحلات. إحدي اللافتات كانت بالإنجليزية تقول »هنا تُغسل وتُكوي الملابس البيضاء«. صيدلية لشخص يُدعي منصور. محل بقالة »ليمنوس الجميلة«، »خضراوات ثوماس وسيان«. اتجهت صاعداً من شارع أبي قير؛ كانت ساعة هادئة في حي هادئ. أمام إحدي الفيلات التي كان يحرسها شاويش في زيه الرسمي الأبيض. بعدها مربيتان تثرثران واقفتان قبل أن تفترقا وتجرا خلفهما عربات الأطفال. علي جانبي الشارع أشجار استوائية كبيرة بجذوع لامعة وأوراق كثيفة تشبه المظلات. لابد أنها شجرة البونسيانا. آه لو رأيتها مزهرة، كما لو أن العالم قد ارتدي ملابس العيد، كان يهلوس محموماً سكندري في الرقة عندما انتهينا واحتفلنا بنهاية المسيرة إلي الفرات ثم وقعنا في جحيم آخر علي التبة مع العقارب. عضه عقرب سام إلا أن الرفيق نجا. أين يذهب عقل الإنسان، تعجب فيما بعد عندما ذكرته بما قاله: إنها أشجار جميلة بدون شك لكني لا أذكر أنني قد انتبهت لها يوماً. لم ألتقط لها حتي صورة فوتوغرافية. لابد أن تذهب إلي الإسكندرية في شهر يونيو، فالمدينة تكون في قمة عظمتها. الآن نحن في الخريف. هل سأبقي حتي أري أشجار البونسيانا مزهرة أبداً؟ أفضل ألا أراها ولتنتهي الحرب كي نري كم من البشر بقوا أحياء علي الضفة الأخري من البحر. (.......)
كان يسكن في الطابق الرابع في بناية فخمة إلا أنها قديمة ومهترئة بعض الشيء وليس بها مصعد ولا بواب، عند بداية الذراع الغربي علي الكورنيش. فتح لي الباب مبتسماً كأننا نعرف بعضنا من سنوات. كان معتدلاً بلا إفراط، به مسحة من الحزن وشئ مألوف. كانت الغرف واسعة عالية الأسقف مفروشة ببساطة حكيمة؛ المكتبات في كل مكان محملة بالكتب الفرنسية والإنجليزية؛ نقوش علي شكل كلاب صيد وخيل، لوحة أكوريل لماري لورنسن، أخري زيتية لكاليماخو من فترته التعبيرية. كان يعيش وحيداً تماماً، في رفقة غليوناته وأنواع الأتبغة التي يخلطها بنفسها من أنواع التبغ الإنجليزية والهولندية والأمريكية بعناية شديدة، سيجار هافاني رفيع ومقطع جيداً. علي أحد قطع الأثاث السميكة بالطبع ستكون زجاجات الجين والويسكي. كان يكبرني بعام واحد، وهذا الأمر بالطبع خلصه من التجنيد في جيش كانيلوبولوس. بدأ الشيب يدب في قمة رأسه. كان أسود الشعر ذا وجه حليق بعناية، يرتدي ملابس ثمينة وبسيطة. قصير: يبدو إنجليزياً. قلت له. نزع الغليون عن فمه ببطء وراح يضحك وهو ينظر إلي المبسم المبلل. نفس الشئ كان يقول رجلنا العجوز أنطوان. لكن أعتقد أنه كان لا يحبني. كلما أعجبت به كلما كان ينفر مني. ربما كان لا يصدقني. عموماً لم تكن لديه مقدرة أن يتحمل مهتزي القرار والمتأملين. كان تلقائياً جداً وصريحا. كان شخصية رائعة. لدينا ابن عم يدعي أنتوني في الشرطة قلت. أخرج الغليون من فمه مرة أخري. كانت عيناه في تلك اللحظة تدوران بقلق كأنه كان يبحث في كومة من الذكريات؛ اشتد بريقهما؛ ثم ابتهج راضياً. أتعتقد؟ مرت سنوات كثيرة لم أره. عرفت أنه قد صار لاعب كرة محترفا أو مدربا أو شيئا آخر مثل وظيفة عاطلة. ليس غريباً بالطبع أن يصبح شرطياً... من قال لك هذا؟ بدأت أحكي له عن الأحد الماضي في كنيسة النبي إلياس فلمع وجهه فجأة. هكذا، تعرفت علي الساحة؟ لم أفهم مايقصده. إذا كان يقصد فناء الكنيسة... لا؛ الساحة، قاطعني. ألم تكلمك العمة أماليّا عن الساحة؟ ولا حتي أمك بالمعمودية؟ خسارة... لابد أن نذهب سوياً. بالنسبة لنا ولمن عاش هناك، هي الجنة بعينها. لا، لم أعبر بالشكل الصحيح. هي شيء آخر، مثل وطن شكل وجداننا، منحنا الكرامة والأخلاق. كم جيل مر بها منذ أن بنيت؛ ثلاث، أربعة أجيال! كلهم أقارب هناك. يكفي أن تقول الساحة فتجد الآخر عجوزا كان أو صبيا، يسلم كل أسلحته. بينما كنا نتحدث فتح لي باب الشرفة. حينها ظهر البحر صافياً ولامعاً، فسُلبت أنفاسي. في السماء كانت سحب كبيرة متوقفة. أمامنا، فوق جزيرة فاروس الأثرية تقبع قلعة قايتباي ثقيلة وصامتة، كانت صورتها كاملة تنعكس علي سطح الماء مثل لوحة أكواريل سياحية. انحنينا كي نري الميناء الشرقي صاعدين حتي الرمل. كان لدي الشعور أننا في إفريز استاد قديم أو حلبة. عند خليج السلسلة في اليمين السفلي لوخياس سترابون ، قال باراسخوس بالمدافع المموهة وأجهزة العرض والإضاءات من أجل ممرات الطائرات، لابد أن هناك غرفة تبديل الملابس. سيفتح باب ما ويدخل الثور. وبعدها، انحناءات الشاطئ الثعبانية وانحرافاته وتموجاته، الخلجان المفاجئة المفتوحة والرمال الناعمة الصفراء. أشار باراسخوس بإصبع ممدود بعيداً ليشرح لي. اتخذ من إحدي البنايات بجوار السلسلة مركزاً عليه لافتة براقة ثم شرقاً المستشفي اليوناني علي شارع أبي قير. بينهما كانت مقابر الشاطبي. هناك تُذوِّب عظام أنطوان، ليعيد للأرض المواد القليلة التي كان قد اقترضها منها كي يعيش. لم يأخذ معه شيئاً كما لم يترك لذويه شيئا سوي الذكريات. مقاطع من رواية »الخفاش«.. وهي الجزء الثالث من ثلاثية »مدن جامحة« للروائي اليوناني ستراتيس تسيركاس المولود عام 1912 بحي عابدين بالقاهرة. وعاش بالإسكندرية منذ عام 1939 إلي أن غادرها إلي اليونان في عام 1963 وتصف الرواية الحياة في الإسكندرية في أعقاب الحرب العالمية الثانية.