كنت أهاب البوابة ولا أخافها، ورغم ضخامتها وتعاظم الزحام أحيانا عندها ألا أنني لم أجد إلا الخلاء.. كافة الطرق والسكك عندي مسارات شتي. مرة من الشمال إلي الجنوب، ومرة من الجنوب إلي الشمال، أما الثالثة فتمتد في روحي، وفي كل مرة أري شيئا مغايرا، متبدلا، بمحاذاة مدخل حارة الروم الجوانية والعطوف يمتد شارع الجمالية الموازي للمعز وسوق الليمون والزيتون، كل جزء من الطريق كيفما جئته يهبني أمرا جميلا، لكني عند اقترابي من باب النصر تبطئ خطواتي، وتتمهل أنفاسي، أخشي باب النصر، أخاف باب النصر. لا.. بالدقه أهابه. جزء ليس بالهين تبقي في سور القاهرة الثاني الذي أشرف علي بنائه بدر الدين الجالي أربعة أبواب كبري من ثمانية. ثمانية، يحمل عرش ربك يومئذ ثمانية. مبدأ حاكم وقاعدة مهيمنة، للجنة في التصور الاسلامي ثمانية أبواب، غير أن للثمانية قدسية قديمة في مصر العتيقة، في عين شمس - أون- استقر مجمع الثامون والمكون من ثمانية تجليات للاله، في منف التاسوع، في الزخرفة عرفت النجمة المثمنة. مربعان متداخلان، السداسية هرمان متعانقان، هنا يتجسد التصور المصري القديم، هرم في هرم، هرم يعبر الآخر، انتقل الرمز إلي بني اسرائيل، صار نجمة داوود، أبواب القاهرة كانت ثمانية، بقي منها النصر والفتوح وزويلة وجزء من باب البرقية تحت تلال الدراسة، أحبهم إليّ باب الفتوح، بقدر ما أخشي النصر أهوي مقاربة باب الفتوح، رغم وقوف الاثنين علي خط واحد، غير ان لكل منهما حضور مقابر وهيئة مختلفة، في طفولتي النائية صحبني الوالد إلي خارج باب الفتوح، نقعد علي السور المحازي لخندق الماء العميق والذي كان يحول بين المهاجمين من الخارج والوصول إلي الحائط المتين المبني من حجارة عليها نقوش فرعونية، لماذا صحبني إلي هذا المكان، كان يجلس صامتا، لا يلتقي أحد، لا يتحدث إلي شخص ما مع أنه كان الأقدر علي نسج الحوار مع من لا يعرفهم، يكون مدخله عادة، أنت من أي بلد؟، فإذا ذكر الغريب أسم مدينة أو قرية أو كفر أو نجع لابد أن يسأل عن شخص ما، ويكون ذلك بداية لكن في باب النصر يلزم السكون الذهاب ومع ذلك لم أكن أخشي المكان، لا يبدأ الذهاب إلا اذا وقف وبدأ يمشي تجاه باب النصر، لماذا؟ لا تفسير عندي، لا ايضاح، هكذا أنا موضع يريحني وآخر يشقيني. واحد يقربني وآخر ينفيني، الناظر إلي السور ومئذنتي الحاكم بأمر الله لا يلمح فرقا، ولكن عندي يبدو الحال شاسعا، هاتان البوابتان تشغلاني حتي الآن، ليس من الضروري أن أقترب لأبدأ طوافي بهما وتخللي لهما، لباب الفتوح منزلة، إذ تلوح لي عند قدومي من شارع المعز أتوقف. ها هي المئذنة البحرية، تواجهها القبلية، قرب المنتصف آيات محفورة بالخط الكوفي وهذا نموذج مفرد لا مثيل له. المئذنة من جزئين، أتحدث عن كل منهما، الأسفل صاعد يميل ويقال إنه تأثير منارة الاسكندرية، بعد حوالي ثلاثمائة سنة جري زلزال شديد أسقط الجزئين العلويين، غير أن هذا لم يرض الأمير بيبرس لجاشنكير - أي المسئول عن تذوق الطعام قبل السلطان للتأكد من خلوه ونقائه - لا أعرف من الذي توصل إلي هذا الطراز المعروف بالمبخرة، يبدو أنه أعجب به فأضاف إلي مئذنة ابن طولون وإلي مئذنتي الحاكم، وبالطبع إلي مئذنة الخانقاه الكبري التي شيدها في شارع الجمالية. أقمنا في البيت المواجه عامين، جئنا إليه عام خمسة وخمسين وعدنا منه إلي درب الطبلاوي بداية السابع والخمسين. من هنا يبدأ طريقي إلي باب النصر، يقوي الحضور، كمن يشارف صحراء، ما يحيط بالموضع خلاء، خلاء حقيقي وآخر رمزي لعل السر يكمن فيه، خارج باب النصر تمتد المقابر، متجاورة، متلاصقة، منها خشية ومهابة، يوجد بها من لا نجده في أي مقابر اخري، تلك الاشكال الخشبية، جدران من خشب ، ابراج من خشب. كرانيش وحدود من خشب، خشب مطل وآخر ملم، يبدأ ظهوره بعد تجاوز حارة الروم الجوانبة أو الجوانية كما يعرفها وينطقها أهل الحي، دخلت وتجولت فيها مع صاحب وزميل لي غاب عني أسمه الآن، يسكن درب الرشيدي، حارة نافذة ما بين شارع الجمالية والمعز. يجريان بالتوازي. هذه المسافة الشاسعة كانت بناءين اثنين لا غير، القصر الشرقي الكبير والغربي الصغير الذي خصص لنساء الخليفة الفاطمي، وفيه عاشت وقتلت ست الملك، شقيقة الحاكم بأمر الله. شغلت به ومازلت، أراه بشكل ما، مما قرأته عنه صيغة هيئة تطالعني عند جلوسي بمفردي، يمر أمامي غير ناضر إليّ، أو يقف عند حدود المقطم متطلعا إلي النجوم بنفس وضعي عند خطوي بجوار البحر الأحمر. أو عند وصولي جبل الجلالة والجرف الكبير، أخر حد مصر من الغرب، لن أتحدث عنهما الآن، ربما ابتعثهما وأخبر عنهما أو أصمت فلهما رهبة تماما مثل باب النصر، باب النصر، حتي لو كان النهار ساطعا، مظهرا وظاهرا، فانني أمد الخطي، ظل هذا حتي وقت قريب قبل تحلل الخشية من الواضع المرتبط بالابدية. بل أنني بدأت التردد علي بعضها، مثل مقابر الوزير حيث الزاوية السودانية، عوالم في عالم. بل أنني امضي بمفردي إلي سيدي ذي النون الراقد بقرافة سيدي عقبة وفي أحد أجزائها أبي وأمي. من الإمعان في العمر يتلاشي الخوف. أصبحت دائم التردد علي قرافة سيدي عبدالله، ما بين خلوة السيدة العالمة نفيسة، وضريح ابن دقيق العيد وغيرهم من الصالحين، حملة العلم اللدني، أسعي إليهم بمفردي، أمكث عند أعتابهم، مبتهج، متمايل داخلي، متقلب بين الأحوال، علي مقربة شيدت المكان الذي سيكون مرقدي، أول الداخلين إليه أخي الأصغر علي وقد عاني طويلا وصمت وتعبد متفرغا في مراحله الأخيرة، أقضي في زيارته راحلا أكثر مما كنت أمكثه أثناء سعيه، هكذا طوافي. غير أن حذري الخفي بقي، لا أقرب باب النصر إلا وأتوجس خيفة، ربما بتأثير ما تبقي من صباي، عندما وصلت إلي حد سمحت فيه الظروف بدخول الحصن ، الجدار المحيطة بالقاهرة فوجئت، كنت أظنه جدارا مصمتا، الحق أنني ولجت مدينة، سلالم صغيرة، أخري عريضة مؤدية، ثالثة حلزونية، تفضي إلي غرف القيادة المشرفة علي الخلاء، طبقا لما عرفته من الاوصاف التي استقيتها من هنا أو هناك كان ما يقع خارج الميدانية خلاء، خلاء وليس صحراء، ثمة فرق، لا أخشي الايغال في الصحراء، كل ما فيها متنوع، ملموس، صخر كان أو رمل، أما الخلاء فيمكن أن يأخذني إلي حيث لا أعرف. إلي حيث أجهل، رغم تمدد العمران حتي الريدانية - العباسية - إلا أنني مازلت أتمثل ذلك الخلاء، يتداخل خلاء المكان بخلائي، لا أدري من يدعم من؟، أيهما يلتقي بالآخر أو ينأي عنه، الخلاء يمكن أي يستمر إلي الأبد، استعيد الممرات الشبيهة بمعبد دندرة، النوافذ التي تنفرج إلي الداخل وتضيق حتي تصبح شقا نحيلا لا يسمح لهم بالنفاذ، يشغلني الخلاء، الخلاء فيما يلي باب النصر يقلقني ويلزمني الصمت والتأمل، أما فيما يلي باب الفتوح فيكفي أمواج الحياة المتلاطمة بالحسينية وما ذكره المقريزي عن جمال نسائها كنت أعاينه في صباي وصدارة فتوتي، ألهذا السبب أفضل باب الفتوح مدخل السفراء، قبل وطئهم أرض القاهرة لابد أن يقبلوا الارض ثلاث مرات، لابد من المشي حتي القلعة، مرة افترضت نفسي سفيرا لملك الروم، جئت علي مهل من ناحية الحسينية وليس من ناحية باب النصر، أخشاه رغم زعمي عكس ذلك، عندما أتكلم أقول ما أقول، ولكن عندما أكتب فانني ألزم الصواب قدر الأمكان قبلت الارض مرات ثلاث. تطلع القوم متعجبين، ومضي معظمهم بدون أن ينظر أو يلتفت، اعتادوا مثل ذلك من مجاذيب الحسين وسيدي مرزوق، وسيدي بيومي و سيدي الحنفي وأم هاشم ونفيسة العلم، أتوقف قبل الباب، يخبر الجندي بقدوم الزوار عبر فتحة أعلي الباب، يجري التدقيق بالنظر، مع الوقوف والاطمئنان يصدر الامر باجتياز البوابة، بوابة الفتوح، بوابة البهجة، المرح الدائم المستمد أو المتجة إلي الحسينية، حيث نشوة الحياة ومباهج الوجود وكل ما لا تعرفة المدينة سواء كانت القاهرة أو الفسطاط، لا شيء من تلك التفاصيل، رغم وجود مدخل الحصني كله، السلالم المؤدية إلي كل ركن حتي المئذنة البحرية، أول مرة ارتقي درجها أصغيت إلي اصوات نحيلة، حادة لكنني لم أر شيئا، أخبرني محمد مجاهد حافظ بيت السحيمي إلي حين معلوم، أرغموه علي مغادرته، لم يدم أمره أكثر من شهر، للامر تفاصيل، قال لي إنها الوطاويط، تنتقل ليلا إلي أشجار النبق في حديقة بيت السحيمي، لحسن الحظ أنها من نوع لا يمتص الدماء، رغم ديمومة الغناء في باب النصر إلا أن الوطاويط لا تقربه، لا تحوم حوله، انتبهت إلي تجنب اسراب الحمام التحليق فوقه مع أن الفراغ المحيط منطلق، لا حد له، لكنه الخلاء، وفي الخلاء عدو، لا تطير الفراشاة ولا يحلق اليمام، لذا أهاب باب النصر.. لا. لا أقصد الندوة الشهيرة التي كانت معلما، يتصورها منذ الاربعينات توفيق الحكيم ونجيب محفوظ، وابراهيم باشا فرج وثروت أباظة وآخرين من ادباء اسكندرية، انما اعني المطعم المندي بضوء البحر الشفاف، كان ذلك ساريا في مواضع من الاسكندرية، أتحدث عما عرفته وألفته واعتدته، بحري مثلا، سيدي بشر، الرمل كله، الشاطبي، أبو قير، بترو اتخذ زاوية في أقصي الطابية، يتكون من شرفة خارجية بسيطة، تبدو مشدودة إلي البحر أكثر من الجبل، الصخرة الضخمة المنحوت فيها المقهي والمطعم، أقصد صاحبه اليوناني وزوجته، كان الرجل جالسا وراء المكتب، يدير الموقع بعينيه وصمته، في أحد الايام أقتربت منه، كان نحيلا، انيقا، اخبرني أحدهم أنه عمل ضابطا في سلاح البحر اليوناني، شارك في الحرب العالمية الثانية، كان يجلس إلي كرسي متحرك، ثابت، لم أره قط عند قدومه أو انصرافه، زوجته المتقدمة في العمر، النضرة ماتزال، تبدو هي المدبرة لأمور الحياة اليومية، مطعم مفتوح تماما علي البحر، علي الخلاء، يفيض بالضوء. أكلت فيه مرة. متي؟، لا يمكنني التحديد، ربما اثناء خطوبتي لماجدة، مرتان ذهبنا إلي الاسكندرية وعدنا في نفس اليوم، من الاوضاع المعتادة، الماثلة، الثابتة، جلوس خواجة بتحد، رغم أنه مقعد لا يتحرك إلا أنه يبدو علي وشك الإقلاع. رأسه متراجعا، عيناه مصوبتان إلي أعلي، لا أحد يراه عند مجيئه أو ذهابه. يعز عليه رؤية الآخرين له محمولا، هكذا سمعت من عبدالمنعم مدير فندق سويس كوتيج الذي دلني عليه صاحبي ابراهيم منصور سيد مقهي ريش ونجم المندرة المحفوظية بعد قيام صاحبه المنضبط في الثامنة والنصف، عندما علم بزيارتي السكندرية نصحني بالاقامة في سويس كوتيج، وقد أصاب، فندق أقيم في بداية القرن، لا أعرف هل شيد فيللا للسكني ثم تحول إلي فندق أم أنه صمم لكي يكون نُزلا. معظم نزلائه كانوا من السويسريين والألمان، ثم بدأ بعض المصريين من الفنانين خاصة يترددون عليه وذلك بسبب عبدالمنعم الذي يوصف بأنه أحد رواد الحركة التشكيلية في الاسكندرية، كان رساما، غير أن سعيه إلي خدمة الفنانين وعرض أعمالهم في البهو النسيج الذي لا مثيل له في الفنادق الكبري غلب عليه، ربما أقدم حديثا لهذا الموضع القائم قرب منحني جليم، والمنحني بعد فيللا محمد عبدالوهاب، كنت أمر بها وأكاد أسمع انغاما شتي منبعثة من طلائها الاخضر متعدد الدرجات، لون واحد فيه كل الألوان، لكن تطلعت وحاولت لكنني لم أره قط، بل أنني لم ألمح دليلا علي وجود انسان واحد داخلها، غير ان عبدالمنعم أكد لي حضور الفنان الكبير، غير أنه يلزم النظر إلي البحر من الطابق الثاني، لا يخرج إلا نادرا، في سبعينات القرن الماضي فوجئت بمصاريع النوافذ والشرفات مخلوعة، يتأهب البيت للاختفاء، قال ابن أخ عبدالمنعم ذو اللحية الصامت دائما إن الرجل تقدم في العمر، لم يعد يأتي إليه، اشتري البيت مقاول كبير، لم يحوله إلي متحف، لو أنه أقدم لعاد إليه مال كثير، لخدمة الناس والبلد. بعد شهور جئت لليلة واحدة. رأيت بداية برج شاهق هو القائم الآن من ثلاثين طابقا. رغم أنني لم أعرف ساكني الفيلا، لم تقع عيني علي محمد عبدالوهاب في أي مكان إلا أنني لم أقارب منحني جليم إلا وتبدو عندي شجوة، أغمض عيني حتي لا أري المبني الشاهق عشوائي الحضور، لم ينتظر سويس كويتيج طويلا، بدأ الورثة هدم المبني العتيق، هكذا أختفت الغرفة السرية التي تردد عليها الملك فاروق للعب البوكر بصحبة انطون بوللي، اطلعني عليها عبدالمنعم قبل وفاته بشهور، كان يرتب احواله وكأنه يعي الرحيل، جمع لوحات الفنانين السكندريين المهداة إليه. والقاهريين والأجانب، في هذه الفترة خلا مكان الخواجة بترو. غير أن زوجته ظلت بمفردها، لزمت مكانه ولكن ثمة شيء اختفي من المكان، كان الرجل يبث حضورا خفيا إلي المطعم كله، الابيض والازرق تبدلا، الحق ان طعم الأكل احتفظ بخصوصيته، المطبخ هو المكان الوحيد الذي تتردد عليه مرات، غير انني لاحظت التعب علي ملامحها ومرة توقفت في وسط المكان المغداق بنوره العتيق. امسكت خصرها بيديها، قمت إليها وكذلك فعل آخرون، لكنها ابتسمت لنا شاكرة، وحاولت فرد قامتها وكأنه عز عليها أن يراها زبائن المحل غير قادرة، أو مشرفة علي الوهن، الآن اذا مررت بالبرج الشاهق الذي اقيم في نفس الموضع أولي البصر ناحية البحر، هل ثمة شئ تبدل فيه هو الآخر؟ عطفة الحمام لبوابة المتولي، أو زويلة حضور مهول حتي الآن، غير أن المكان الذي أجج فضولي تلك العطفة الممتدة، علي ناصيتها سبيل رممه الامريكان، ورغم أنه الجزء الاول منها إلا انه يبدو قائما بذاته. طوال سعيي في الطريق لم أدخل، لم يثر فضولي أي شيء يجعلني أقدم، فقط أتوقف أحيانا واقول لنفسي : يا سلام، كأن روح الحواري القاهرية كافة تكثفت هنا، وإذا رافقني صاحب يهمني أمره أقول له عبارة لا تتغير: أنت تري نموذجا رائعا للحارة المصرية الصميمة، اؤكد علي الكلمة الاخيرة، أعبر البوابة الحجرية بالبصر، ارحل قليلا في ثباتي لكنني لا أبادر قط إلي العبور، إلي اجتياز العتبة غير المرئية للبوابة التي ما تزال تحتفظ بملامحها، أعلاها مقوس، عمودان غير ملحوظان واحد إلي اليمين. آخر إلي اليسار، ثم ينطلق المسار المثالي، الارضية ما تزال مبلطة بالحجر، تماما كما كانت شوارع ودروب وحارات القاهرة القديمة كافة، عرفت ذلك في درب الطبلاوي، كانت المسالك كلها تكنس وترش مرتين في اليوم، مرة منهما بالماء والصابون، والله بالماء والصابون، استمر ذلك حتي حرب يونيو، بعدها بدأ كل شيء في الانكسار، عندما احتفلوا بألفية القاهرة أزيلت الحجارة ورصفت الارض بالاسفلت وتحته الزفت الأسود، سرعان ما ظهرت الحفر وفقدت الارض معناها، لكن عطفة الحمام أحتفظت برصفها القديم، كيف جري ذلك؟، رحت أقلب في سائر المراجع المعروفة فلم أجد ذكرا للعطفة نفسها، غير معترف بها، لكن لم يجذبني موضع مثلها، خاصة ان البوابة ذات القوس أضفت علي المدخل حالة، اكثر من نصف قرن أروح وأجيء وأتأمل وأفكر في احتمالات الولوج ولا أقدم وأتساءل عما يوجد في الداخل ولا أشرع، رغم انها خطوات معدودات، بائع الفول بجوار باب زويلة »بوابة المتولي« أكد لي وجود خرابة متخلفة عن قصر قديم فيه كنز لكن من لا يعرف سر فضه يدخل ولا يظهر له أثر. مثل هذه العجائب لا تثير فضولي ولا تدفعني إلي الاقدام، اعتدت ذلك وكثيرا ما حلمت بعبوري البوابة الخالية من مصاريعها تماما مثل حارة الميضأة والحواتية ودرب العطوف، كان بكل بوابة من القاهرة وسائر المدن مصراعان من الخشب، ماتزال حارة الكبابجي - بيت القاضي الآن - تحتفظ بهما من جهة المعز، كان شيخ الحارة يتولي إغلاقهما ويحتفظ بالمفتاح معه، بعد ثورة القاهرة الاولي والثانية امر نابليون صاري عسكر الفرنسيس بخلع الابواب كلها حتي لا يتحصن الثوار بالدروب والازقة، تعقبت ما تبقي فوجدت أنه لا يتجاوز السبعة، لكن في بعض الاحيان أجد الاطار الحجري، مثل حارة المبيضأة والدرب الاصفر وحارة الكبابجي، بعد تقاعدي وتمهل خطوي واتئاد امري فوجئت بدافع قوي من عندي إلي اجتياز بوابة النصر ليلا إلي الخلاء، ودخول عطفة الحمام، جري ذلك بعد الغروب، علي امتداد البصر لم ار شيئا. غير أنني عند المنحني بدأت اسمع اصواتا، في البداية لم أقدر علي تحديد مصادرها، هل أتية من وراء تلك الجدران، أو من خلف أبواب المبني المحيط بالساحة التي فوجئت بمساحتها، ضيق مدخل العطفة لا يوحي بوجودها، لم يدركني خوف ولا وهن، عطفة الحمام هي بوابة النصر والاخري جزء من العطفة، لماذا كنت أهابهما اذن، تعجبت لحالي، ولمدركاتي. كلما أوغلت كلما ارتفعت الاصوات ورغم تدقيقي وطول اصغائي إلا أنني لم أتوقف ولم أميز لكنني وصلت، مرددا: ياه.. أي عطفة هذه. أي خلاء هذا؟