حقق اتحاد الناشرين المصريين سبقاً جديداً بوصفه أولبالرغم من دورها كمؤسسة أهلية تسعي لفتوي دينية، مؤسسة عملها نشر الفكر والإبداع الذي يتعرض دومًا للمطاردة باسم الدين. نري تغلغل الدين في حياة المصريين إلي حد الهوس. تتصل سيدة وبعد السلام والتحية والكثير من عبارات "والله نحبك في الله كلنا يا شيخ" توجه سؤالاً حول حكم الشرع في حكم ارتداء الأحذية أثناء الجماع حيث أن زوجها يطلب منها ذلك، يرد الشيخ بعبارات عامة ويطلب منها أن تترك رقمها في الكنترول. مشهد عادي يتكرر علي القنوات الفضائية، فالهوس الديني أصاب غالبية الناس، وأصبح الجميع يسأل عن حكم الشرع في كل تفصيلة تتعرض له في الحياة. لكن أن يدخل اتحاد الناشرين إلي هذا المربع فهذا هو الخطر! نشرنا في العدد السابق طلب اتحاد الناشرين لفتوي رسمية من دار الإفتاء المصرية حول حكم طباعة ونشر وتوزيع كتاب لمؤلف أو دار نشر تمتلك حق طبع ونشر هذا الكتاب بأي صورة من الصور المقروءة والمرئية والإلكترونية. صدرت الفتوي بتحريم أي نوع من الاعتداء علي الملكية الفكرية بل اعتبرت الفتوي الملكية الفكرية وحقوق التأليف والنشر ملكا لأصحابها يجري فيها ما يجري في "الملك" الذي هو حق خالص يختص به صاحبه. أثارت الفتوي اعتراضات واسعة علي المبدأ نفسه، كما أثارت تخوفًا بين العاملين في مجال تدعيم الملكية الفكرية. حيث استغرب عماد مبارك -المدير التنفيذي لمؤسسة حرية الفكر والتعبير- تدخل الأزهر أو الكنيسة في عملية النشر، فهذه مؤسسات نشأت لأغراض محددة ليس من ضمنها التدخل في عملية النشر أو قضايا الملكية الفكرية. ومن الغريب أن يلجأ اتحاد الناشرين لإصدار هذه الفتوي في ظل وجود قانون يحمي الملكية الفكرية. وهو ما يمكن اعتباره تجاوزاً لنظام الدولة المدنية والتي يفترض أن تسير مؤسساتها وفق قوانين يجري النقاش والاتفاق عليها وتخضع للتعديل وفق الإجماع والنظام الديمقراطي. اعتراض عماد مبارك علي فتوي دار الإفتاء ينبع أيضاً من أن تلك الفتوي ترسخ لهيمنة بعض الأفكار المغلوطة عن حقوق الملكية الفكرية تؤثر علي حق القاريء في المعرفة وحرية المشاعية الفكرية، كما أنها تعوق عمل الكثير من منظمات المجتمع المدني المعنية بحرية الرأي وحقوق الملكية الفكرية التي تسعي إلي تغيير بعض المواد في القانون المصري لحقوق الملكية الفكرية. فالقانون الحالي في رأي مبارك يعوق حق الأفراد في تداول المعلومات. فمثلاً يمنح القانون وزارة الثقافة مسئولية توثيق وحفظ الفلكلور المصري بكل أشكاله، وبالتالي فالفلكلور والتراث المصري الذي يفترض أنه ملك جميع المصريين يصبح مسئولية وزارة الثقافة ولابد من مراجعتها في حالة القيام بأي مشروع يختص بتوثيق التراث الثقافي المصري. واحده من مشاكل القانون الحالي في رأي مبارك هي الفترة الزمنية التي حددها القانون لملكية المؤلف وورثته وهي في القانون المصري خمسون عاماً بعد الوفاة "بمعني أنني لو كاتب أو مؤلف ما ونشرت كتاباً وأنا عمري عشرين عاماً ومت في سن السبعين فملكية الكتاب تظل مع أسرتي لمدة خمسين عاماً، أي أن الكتاب الواحد يظل مائة عام بعيداً عن التداول، مثل هذه المواد ليس الغرض منها حماية حقوق المؤلف، بل تعزز لاحتكار الشركات ودور النشر الكبري" جانب آخر من المشكلة يظهر في حالة بعض الكتاب الذين يرفض ورثتهم نشر أو إعادة طباعة أعمالهم بعض وفاتهم لأسباب مختلفة، والنتيجة نلمسها بوضوح في غياب مؤلفات لويس عوض، عبد الفتاح الجمل، وحتي بعض الكتاب الشباب كحالة محمد ربيع. لهذا يدعو عماد مبارك إلي تعديل قوانين الملكية الفكرية في مصر بحيث تصبح أكثر تيسيراً لمساعدة الباحثين "لا يمكن أن نطلب من شعب يجد لقمة العيش بصعوبة، أن يمر بكل هذه التعقيدات القانونية والإدارية ليجد كتاباً واحداً" أما أحمد غربية المدون والخبير التقني فقد استغرب بشدة موقف دار الافتاء الذي يعتبر حقوق الملكية الفكرية بمثابة حق الملكية الخاصة، وهو ما يرسخ للاحتكار أحدي الظواهر المرفوضة في الإسلام، وحتي إذا اعتبرنا الملكية الفكرية تساوي الملكية الخاصة فهذا لا يحميها لأن الملكية الخاصة يمكن أن تنزع أو تؤمم في بعض الحالات للمنفعة العامة. "لا أحد يعارض قوانين الملكية الفكرية العادلة، لكننا ضد أن تحتكرها دور النشر الكبري والشركات الكبري أطول من عمر المؤلف والورثة، ففي حالة موت مؤلف أي كتاب لا يصح أن تظل كتبه رهينه لاحتكار دار نشر معينة، فهذا أمر لا يعود بالنفع علي الكتاب ولا ينتج عنه أي حماية لحقوقه بل هو ترسيخ للاحتكار ولجمع أكبر قدر من الأرباح بغض النظر عن استفادة عموم الناس." يقول غربية الذي يري أيضاً أن الخطر الأكبر الذي تمثله بعض مواد قوانين الملكية الفكرية، هو سعي الشركات الكبري للضغط علي الحكومات من أجل مد فترة حقوق المؤلف، في أمريكا مثلاً هناك ما يعرف بقانون ميكي ماوس حيث رفعت الحكومة سن حماية حقوق المؤلف إلي 75 عاماً لتحتفظ ديزني لاند بحقوق شخصية ميكي ماوس لأطول فترة زمنية. والأخطر هو ما تقوم به شركات الأدوية التي تصر علي الاحتفاظ بتركيبات الكثير من الأدوية متذرعة بقوانين الملكية الفكرية وهكذا وصلنا لواقع يموت فيه الملايين بسبب طمع شركات أدوية تسعي لجمع أكبر قدر من الأرباح. لذلك فرغم أن دولاً مثل الهند أو البرازيل موقعة علي اتفاقيات التجارة العالمية إلا أنها كثيراً ما تقوم بتأميم بعض أفكار وتركيبات الأدوية للمنفعة العامة كوسيلة للتغلب علي جشع هذه الشركات. رغم الآراء السابقة فجمال عيد مدير الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان يري أن قانون الملكية الفكرية المصرية لا يعوق الحق في تبادل المعلومات، فهو في نفس الوقت يعطي الحق للمبدعين في استخدام رخصة المشاع الإبداعي وهي الرخصة التي تعطي الحق باستخدام المنتج الفني أو الأدبي أيا كان نوعه ونسخة وتداوله مع الإشارة للمصدر بشرط ألا يتم استخدامها في أغراض تجارية دون الرجوع للمؤلف. ورغم تفهم عيد لموقف اتحاد الناشرين ولجوئه للمؤسسة الدينية من أجل الحفاظ علي حقوق الناشرين وذلك في ظل مناخ إجتماعي يلجأ فيه الجميع للدين إلا أنه لا يستسيغ استدعاء الدين في مناقشة الشئون القانونية المدنية، لأن قوانين الملكية لن يتم تفعيلها باستدعاء أراء المنظمات الدينية. يظل هناك جزء غائب في القضية وهي أن ظاهرة قرصنة الكتب ونشرها الانترنت ظهرت في الوطن العربي نتيجة لعدة أسبابها منها الرقابة التي تفرضها العديد من الدول العربية علي الكتب العربية، إلي جانب الجمارك الباهظة وغيرها من العوامل التي تعوق حركة الكتاب العربي، بالتالي تظل "القرصنة الإلكترونية" للكتب هي الباب الوحيد أمام المواطن العربي لتجاوز كل عوائق الرقابة للوصول إلي الكتب الجديدة. لذلك ربما كان من الأولي قبل أن تصدر دار الإفتاء فتوي بتحريم نسخ الكتب ونشرها إلكترونياً أن تصدر فتوي آخري بتحريم مصادر الكتب وحرقها ومنعها من الانتقال، لا أن تغلق جميع أبواب المعرفة علي المواطن العربي وتتركه فريسة وحيدة بين أنظمة استبدادية تعامل الكتاب بصفته خطراً علي الأمن القومي، وشركات ودور نشر لا تولي أي اهتمام لحقوق المؤلف وفي نفس الوقت تسعي لاحتكار سوق المعرفة.