ما هي الحرية؟ سؤال سألته الجارديان البريطانية لعدد من المثقفين والناشطين السياسيين في مناسبة مرور 80 عاما علي تأسيس حملة "ليبرتي" من أجل حقوق الإنسان . هذا الجدل مهم للغاية لدينا هنا في مصر. فتعريفات الحرية تبدو متضاربة ومتناقضة بين الفرق السياسية المتصارعة. ومثلما تبدو التعريفات متضاربة هنا في مصر، فهكذا كانت ردود من شملهم الاستطلاع. ربما يكون هذا هو جوهر الحرية، الارتباك والتناقض في المفاهيم، أو بحسب ما عبر عنه الروائي البريطاني إيان ماكيوان في الاستطلاع بقوله إن "حرية التعبير هي أم الحريات". فتحت الجارديان باب الجدل حول مفهوم الحرية، ومنه نتلصص علي التعريفات المختلفة لهذا المفهوم الفاتن والأكثر إلهاماً في الأدب والفنون علي إطلاقها. إدوارد سنودون عميل المخابرات السابق وصاحب التسريب الشهير لبرنامج التجسس إلي الصحافة، هرب إلي هونج كونج بعد توجيه اليه تهمة التجسس وسرقة ممتلكات حكومية، ويعيش الآن بمكان غير معلوم في روسيا. يقول سنودون: لا يمكن للشخص العادي اليوم التقاط سماعة الهاتف، أو إرسال رسالة اليكترونية لصديق، أو طلب شراء كتاب دون الاستيلاء علي سجلات شاملة لجميع نشاطاته، سجلات يجري إنشاؤها وحفظها وتحليلها ممن في يدهم سلطة الزج بك في السجن أو ما هو أسوأ. أعرف ذلك عن يقين، فقد جلست علي نفس ذلك المكتب ودونت الأسماء. حين ندرك أننا مراقبون، نفرض قيوداً علي سلوكنا، بما في ذلك الأفعال البريئة بشكل واضح، كما لو أن أمرا صدر بفعل ذلك، أنظمة المراقبة الجماعية حاليا تقوم أوتوماتيكياً، وعلي نحو استباقي، بالاستيلاء عشوائيا علي سجلاتنا الخاصة، مما يشكل نوعا من المراقبة الشبيهة بآلة الزمن، والتي لايمكن لها العمل دون انتهاك حريتنا علي أوسع نطاق، فهي تسمح للحكومة بالعودة بالزمن إلي الوراء للتدقيق في كل قرار اتخذته، وكل صديق تحدثت إليه، مما يثير الشك حول حياة الأبرياء، حتي أن أي خطأ ارتكبته بحسن نية قد يقلب حياتك رأسا علي عقب. في سبيل الحفاظ علي المجتمعات حرة، علينا الدفاع عن أنفسنا ليس فقط ضد الأعداء البعيدين، بل أيضا ضد سياسات خطيرة داخل الوطن، إذا سمحنا للموارد القليلة التي تهدر علي برامج المراقبة التي تنتهك الحقوق، فنحن لانحمي حريتنا علي الإطلاق، بل ندفع ثمن خسارتنا لها. جوليان بارنز المثاليون يحبون ادعاء أن الحرية لاتتجزأ، أما البراجماتيون فعلي العكس من ذلك، يدركون أنها تقبل القسمة بسهولة إلي آلاف الأجزاء، وكل منها ينبغي الحرب من أجلها، حمايتها، والحرب من أجلها مرة أخري. من يرغبون في حرماننا من الحريات نادراً ما يفعلون ذلك دفعة واحدة، وهم بارعون في التأكيد لنا أن فقدان الحرية شيء آخر، شيء ضروري ومفيد، مثل الأمان الكامل. وطالما يقول لك السياسي إن المواطن اللطيف الملتزم بالقانون ليس لديه ما يخشاه علي جميع المقاييس، كن علي يقين أن أحدهم، في مكان ما، يفقد جزءاً صغيراً أو كبيراً من حريته، لذا فنحن بحاجة إلي دفاع مقنع، ثابت، ملتزم عن حرياتنا، أو بمعني آخر فإن التحرر يحتاج منظمة "ليبرتي". أيان مكيوان فكرة التحرر تحتوي بشكل رائع علي الكثير من أنواع الحرية. وجميعها، قبل ظهور الحداثة، كان لها تعريف بسيط يدور في فلك تطلعات الإنسان. نحن نستنتج ونتوصل لمفاهيم لم يكن لها وجود الآن: الحريات، الحقوق أو الامتيازات التي أصبحت عالمية، السفر والترحال داخل البلدان وفيما بينها، التجمع، تكوين الجمعيات، العبادة، الخصوصية، المساواة بين الجنسين، التمييز، الإجراءات القانونية، عدم التعرض للتعذيب - قائمة ممتدة يثريها تكاثر مفهوم حقوق السجناء، المرضي، الأطفال، الحيوانات، الحق في المياة النظيفة، الطعام، والحياة الأسرية. في جميع أنحاء العالم، يظل بعض أو جميع هذه الحقوق متنازعاً عليه. إلا أن حرية واحدة تدعم القائمة بأكملها، بدونها، فإن التطلعات المستظلة بمظلة الحرية لا تصل لحيز الوجود. علي أية حرية نمتلكها، أو نناضل من أجل امتلاكها، أن تمر بالتفكير والحديث والكتابة داخل هذا الوجود، ويقودنا هذا إلي أن الصخرة التي تستند عليها الحرية تلك هي حرية التعبير، والديمقراطية دون ذلك مجرد خدعة. تاريخيا، بُذلت جهود كثيرة، من أجل ولادة فكرة أن حقوق الإنسان عالمية وغير قابلة للتصرف أو التجزئة. منح وتلقي المعلومات، المضاربة، النقد، الخيال، التبادل عبر مجموعة كاملة من قدراتنا الفكرية، هذه هي الحرية التي تجذب الآخرين إلي حيز الوجود. لأن الحرية تميل إلي التطور وإلي التكاثر إذا تم السماح بها. تدرك الدول القمعية ذلك بطريقة غريزية، وهو ما يجعلها تجد في الصحفيين من أصحاب الفكر الحر، المفكرين، والفنانين، مصدراً مهدداً بشدة لها. في أجزاء كبيرة من العالم لا يطيق أحد منظمة مثل ليبرتي، وكونها مضطرة لأن تناضل لمدة ثمانين عاماً هو نوع من عيد الميلاد الحزين، لكن ذلك الناتج الشجاع يمثل جوهر ما تتيحه حرية التعبير، وهو ازدهار جميع ما يمكن تصوره من حريات. روزي بويكوت في خريف 1982 سلمت إلي ناشري " شاتو آند ويندس" النسخة المبدئية لروايتي "فتاة لطيفة مثلي". كانت سيرة ذاتية مبكرة، وكنت حينها في الحادية والثلاثين من عمري، لكنني بررت لنفسي رغبتي في الكتابة عن تجربتي في معاقرة الخمر، كان الشراب مسيطرا علي حياتي بأكثر الطرق إيلاما منذ كنت في الخامسة والعشرين من عمري. كان علي الاستهزاء بجميع الأعذار علي قائمتي إلي أن تبقي واحد منها فقط: فقدان وظيفتي بسبب الخمر. لكن في صيف 1980 انهار ذلك أيضاً، ولجأت إلي العلاج وبرنامج إعادة التأهيل، وبدأت رحلة باتجاه الرصانة ورجاحة العقل مكتشفة أن في استطاعتي العيش بلا الزجاجة، والتي كانت مصدر السعادة والبهجة لي، وأردت نقل بعض من ذلك إلي نساء أخريات كن تماما مثلي، يحدقن نحو الكحول ويتجرعنه بنهم برغم معرفتهن أنه يمثل كل ما يجلب الكراهية. حين كنت أشرب عشت في سجن، سجن الإدمان، حين أشعر بفرح صاخب، أضطر لاحتساء كأس آخر، انسحاب الكحول من الجسم شيء ثقيل، يدفعني لاستدعاء تاكسي في منتصف الليل مستغيثة لتوصيل زجاجة بيرة في كيس ورق، متسللة نحو الدور السفلي بمنزل والدي للسطو علي خزانة الخمور، أخفي زجاجة صغيرة بين طيات ملابسي أو في حقيبتي، أتجرعها بسرعة في الحمام قبل رش فمي بالمعطر في محاولة لإخفاء الرائحة، خسرت أياما في الإفراط بشرب الكحول، وليالي في البحث عمن يزودني به، رغم معرفتي أنني أعيش حياة ما هي إلا ضرب من الجنون " إن كان أحد تعريفاته، فعل نفس الشيء مرارا وتكراراً، وتوقع نتيجة مختلفة" إلا أنني استمررت. لفترة طويلة بدا لي شراً لابد منه، بالرغم من أنه دخيل من الخارج، إلا أنه جنون من صنع يدي. أقلعت في نهاية المطاف، بعد بشاعة بؤس الانسحاب. كان الارتياح الذي اجتاحني كبيرا، وبمضي الأسابيع بدأت حياتي في الاعتدال والاستقرار، وحلت الراحة محل الجنون، والاطمئنان أنني لا أحتاج اليوم لالتقاط شراب. بدأ عالمي يتسع، بعد أن كان مع الخمر ينكمش إلي مساحة صغيرة كرأس الدبوس، كانت حياتي محدودة ومقصورة علي الوصول إلي الخمر، فانفتح العالم بكل مافيه مثل سماء مونتانا الرحبة! لكنني كنت هنا منذ عامين ونصف أرتجف من القلق علي رصيف دار بلومزبري سكوير، متسائلة، عما اقترفته علي ظهر البسيطة، راوية جميع تلك القصص للغرباء. لم أحصل قط علي وظيفة. فكرت أنني قد أفقد جميع أصدقائي، لكنني، كما اكتشفت، قدمت لنفسي خدمة ذلك العام، بأن أتخلص من الإدمان، حررت نفسي من الأسرار. جوليان بارنز المثاليون يحبون ادعاء أن الحرية لاتتجزأ، أما البراجماتيون فعلي العكس من ذلك، يدركون أنها تقبل القسمة بسهولة إلي آلاف الأجزاء، وكل منها ينبغي الحرب من أجلها، حمايتها، والحرب من أجلها مرة أخري. من يرغبون في حرماننا من الحريات نادراً ما يفعلون ذلك دفعة واحدة، وهم بارعون في التأكيد لنا أن فقدان الحرية شيء آخر، شيء ضروري ومفيد، مثل الأمان الكامل. وطالما يقول لك السياسي إن المواطن اللطيف الملتزم بالقانون ليس لديه ما يخشاه علي جميع المقاييس، كن علي يقين أن أحدهم، في مكان ما، يفقد جزءاً صغيراً أو كبيراً من حريته، لذا فنحن بحاجة إلي دفاع مقنع، ثابت، ملتزم عن حرياتنا، أو بمعني آخر فإن التحرر يحتاج منظمة "ليبرتي". لايمكن لأي شخص النبش في حياتي الماضية التي لم يكن لها وجود حقيقي. حين تدمن الشراب أو تتعاطي المخدرات، تعيش محاطاً بالسرية والأكاذيب، بما يقل من شأنك/ الإنكار، المراوغة، بالإضافة للضرر الجسدي. الأكاذيب تدمر روحك، الإقلاع عن الزجاجة و قول الصدق هما أعظم حرية علي الإطلاق. توم ستوبارد كل فعل تنظيمي للسلطة هو بمثابة تآكل للحرية، مما يخبرنا ما هي الحرية؟ بالرغم من استطاعتك الحصول علي الكثير جدا من الأشياء الجيدة، إلا أن الحرية القصوي هي الفوضي، والقانون الصارم ديكتاتورية. ملايين الكلمات كرست للبحث عن التوازن، ويبقي السؤال مطروحاً. الانجراف الجماعي نحو مزيد من القوانين المنظمة في النموذج الديمقراطي الليبرالي الغربي تحركه النوايا الحسنة وجنون حلم الإنصاف الكامل، والتقدير الفردي والمسئولية الفردية في جوهرها تخريبية. الأطفال الرضع والمجانين اعتادوا أن يكونوا استثناء تقليدي بالنسبة للمفهوم العام والذي مفاده أن الناس يجب أن يكونوا مصدر ثقة لتسوية الخلافات فيما بينهم، وتلك السلطة غير موجودة لتنفيذ ما نفكر به من أجل أنفسنا، الآن نحن جميعا في منتصف طريق المعاملة مثل الأطفال والمجانين. ومثل التقدم الحضاري في التعقيد، فإن الحريات تفسح المجال، فليكن، لكن أيضا من أجل تسمية تراجع الحرية بما هو عليه، ولا نسميها بشيء آخر، قبل أن يصبح التراجع هزيمة. أهداف سويف لثلاث سنوات من النضال المرير، في ثورتنا المصرية، أفهم أكثر من أي وقت مضي أن لا شيء ممكن بدون حرية، وأفهم أيضاً كيف لا يمكن تجزئة الحرية. والأولتراس المصري لكرة القدم لديه نشيد يلهب الحماس، كنا ننشده خلال احتجاجاتنا: قالوا الشغب في دمنا، وازاي بنطلب حقنا يا نظام غبي افهم بقي مطلبي حرية، حرية مايكل مور بورجو، روائي ونحن نقترب من مرور مائة عام علي الحرب العالمية الأولي، سوف نفكر مليا، دون شك، في الأسباب التي سمحت بنشوب تلك الحرب المروعة، في التوابع التي نتحملها الآن لتلك الحرب، كيف غيرت عالمنا؟ سوف نتأمل حياة هؤلاء الذين قاتلوا، والذين لقوا حتفهم، ونسأل أنفسنا لماذا ذهبوا؟ هل كانت الوطنية؟ هل لأن الآخرين ذهبوا، وأنك شعرت أن عليك الذهاب. هل كان للمغامرة؟ أم كان لمحاربة الطغيان؟ أم كان من أجل الحرية، حريتهم، حرية من يحبونهم، هؤلاء الذين جاءوا بعدهم، أكان ذلك بسبب كثير من هذا؟ هل كان من أجلنا؟ وإن كان الأمر كذلك، فهل كان يستحق كل هذا العناء؟ هل نقدر الحرية التي تركوها لنا؟ أم أننا اعتبرناها مجرد أمر مفروغ منه؟ هل تم النضال من أجل الحرية الشاملة؟ أم أن ذلك كان مجرد ستار سياسي من الدخان لتغطية لما كان بالأساس صراعا بين القوي الأوروبية العظيمة؟ سوف يتجادل المؤرخون ويدور بيننا نقاش. لكن مهما كانت الحقيقة وراء كل ذلك، مهما كان دافع من ذهبوا، نعرف بوجودهم هناك، وكانوا كثيرين، علي كلا الجانبين، ممن ماتوا فداء ضمان الحرية وبقاء الآخرين علي قيد الحياة. كان من بينهم إديث كافيل، ممرضة لجنود كلا الطرفين، وأعدمت في بروكسيل سنة 1915 بسبب دورها في مساعدة مائتي جندي من الحلفاء. ضحت في سبيل حرية آخرين، قالت الليلة الأخيرة قبل إعدامها: "الوطنية وحدها لاتكفي، يجب أن لا يكون في قلبي كراهية أو مرارة تجاه أي شخص" حين نتذكر الملايين ممن ماتوا في الحرب العالمية الأولي، خلال أربع سنوات مقبلة، يجب وضع كلماتها في الإعتبار. ماجي أوفاريل الحرية لا يتم استحضارها ككلمة بل كصورة لامرأة، عيناها محدقتان ، وتعبير وجهها كئيب. رسم ديلاكروا الحرية كامرأة محاربة، داكنة الشعر، حافية القدمين، عارية الصدر، تحمل بندقية في يد، بينما في يدها الأخري الموفورة العضلات راية ثورية، تشيح بوجهها، بينما السماء خلفها ملبدة بالغيوم، نحو الرفاق المثخنين بالجراح، و الجثث مكدسة تحت قدميها. إذا تعلمنا شيئا من لوحة الحرية فهو أن الحرية كمفهوم وتجسيد: معقدة، غامضة، يصعب تحقيقها، فقبل الوصول إليها، تسفك دماء، وتنشب معارك، وتتجمع غيوم عاصفة. تضع قبعة مخروطية مميزة علي رأسها الجميل، من طراز "فريجيان"، قبعة كان يستخدمها الرومان خلال الإمبراطورية للدلالة علي الحرية والسعي من أجل الحصول عليها، واستخدمها الثوار الفرنسيون باللون الأحمر كرمز للثورة الفرنسية، وكان يضعها الراديكاليون الإنجليز خلال القرن التاسع عشر لإظهار دعمهم للقضايا الثورية، وفي فرنسا ظل استخدامها كغطاء للرأس لفترة طويلة جريمة يعاقب عليها القانون. قد تعتبر الصور واللوحات المرجعية الأسهل عند التفكير في الحرية، حين تصبح الكلمات أكثر صعوبة في الفهم. لا أدري كيف أبدأ رص كلمات مثل:" تعذيب وسجن بلا محاكمة"، أو "اغتصاب جماعي من ميليشيا"، أو "مات في معسكر اعتقال"، في النهاية ما زالت تلك الكلمات موجودة، كل يوم، في التقارير الإخبارية، يجب أن ُتقرأ، وأن ُتفهم، وأن يتم تذكرها، وحكيها، لكن كيف أشرح مثل تلك الأمور لأطفالي؟ بينما أفهم بالكاد تلك الفظائع، كيف أقطع لهم بالقول إننا نعيش في عالم حيث تلك الفظائع ممكنة؟ مثل تلك الأمور يجب الاعتراف بوجودها ومحاربتها، ليبرتي ديلاكروا لم تستسلم، حاربت للنهاية، حتي استطاعت الوقوف علي قدميها، برايتها وقبعتها، مستنزفة ولكن منتصرة. علينا أيضا محاربة غير المقبول والظالم، بالطرق البسيطة والرادعة، إلي أن يأتي وقت نحيا فيه بلا خوف، في حالة حرية. هاري كنزرو التحرر هو الحرية الجسدية في التحرك، النمو والتطور. كما تتخذ شكلاً باطنياً كمساحة من الصمت والظلام حيث يمكن للأفكار أن تنمو دون مراقبة. تحت تأثير التكنولوجيا الهائلة والضغط الإقتصادي، نصبح في حالة تحويل لأنفسنا من الداخل للخارج. لماذا تحتفظ بشيء بينما يمكنك مشاركته؟ لماذا تحتفظ بشيء لنفسك إلا إذا كان لديك ما تخفيه؟ لقد أصبحنا أكثر وضوحا لبعضنا البعض، سواء أردنا ذلك أو لم نرد، لذا نتخذ خطوات تجعل باطننا العام الشائع متفقا مع المعايير الاجتماعية، بحيث يظهر صحياً وقانونياً، وعاقلاً، وغير مهدد من الداخل. أفكارنا وكل ما يشغلنا يترك آثارا تهدد دائما بأن تؤخذ كأدلة، لماذا كنت تحدق نحو ذلك؟ لماذا تطيل النظر إلي تلك الصفحة؟ وتضع خطاً تحت تلك الجملة؟ سوف يجد المؤرخون في المستقبل صعوبة في شرح كيف تقبلنا نهاية الخصوصية بخنوع. لقد استسلمنا دون كثير من القتال، نحن نعيش في عالم يمكن فيه سماع كل اتصال، لا يهم إن كان هناك شخص يتنصت بالفعل. الشك هناك يحوم فوق لوحة المفاتيح، يطن في خلفية المكالمة، يبدو أنه لن يتركنا أبدا. هذا الوعي الذاتي بديل تكنولوجي لكل ما يراه الله. ربما كانت مغازلتنا التاريخية المختصرة لفكرة الاستقلال مخيفة للغاية. كان شيئاً غاية في الصعوبة أن نتحمل مسئولية أنفسنا. منتهي القلق أن تشعر أن لا أحد يحاسبنا، نصبح في غمرة إحساسنا بالوحدة غير مرئيين، الأفضل حاليا عودة الأب مرة أخري ليخبرنا كيف ينبغي أن نكون. سوف نتكيف مع الوضع بلا شك، ونصنع ثقافة التلميحات والفروق الدقيقة، سنتعلم التحدث بطريقة ملتوية، لنستطيع قراءة أنواع مختلفة من الصمت، كما كان الحال مع شمولية القرن العشرين. إنها تجدي في بعض أجزاء من العالم اليوم، نظرتنا العامة الشمولية ستعلمنا تلك الحيل، في المستقبل ستتمكن من تخمين أفكاري ومعتقداتي عبر ما لم أقله. سأحلم ببناء أبراج وهدمها، وأحاول مجاراة رغباتي، وأن أتخيل بلا حذر، لكنني لست متأكداً من نجاحي في هذا. هذا الأمر لا يتعلق بأسلوب الحياة الذي أريده، بل ما أتوقعه، إلا لو اكتشفنا تعريف الحرية التي نريد، الشيء الذي يستحق القتال لأجله. دييبورا ليفي الحرية تعني ألا تحتاج أبداً للنظر في عيون إنسان بلا حقوق. لن تنسي أبداً كيف جعلك هذا تشعر. أتذكر طفولتي تحت نظام الأبارتهايد بجنوب أفريقيا. هاهي بعض الأسئلة التي سألتها حين كنت في السابعة من عمري: إذا كان الكبار البيض يطلقون كلابهم علي طفل أسود، أو ضربوا أباه بالعصي والسياط، فهل يكون من الآمن الجلوس بجانبه في حافلة، أو الإشارة له بالتحية من فوق السياج؟ هل هو مجنون أم طبيعي؟ إذا كان الجيران والشرطة والقضاة والمعلمون يقولون: "بالطبع سلوكه طبيعي، ولا غبار عليه من وجهة نظرنا"، هل تستحق الحياة أن نعيشها، وماذا عمن يعتقدون أنه غير طبيعي- هل هناك ما يكفي منهم في العالم؟ مازلت أعتقد أننا حين ندير ظهورنا لحقوق الإنسان، نفقد الإحساس تجاه الأجزاء المسئولة عن المعرفة في عقولنا، ونخلق مساحة لشيء فظيع يحدث لإنسان آخر. نحن لنا علاقة بالقسوة المتبادلة بين بعضنا البعض، واللطف بين بعضنا البعض. نيلسون مانديلا كان يعرف ذلك ، وإذا استلهمنا شجاعة رسالته المتسامحة، فعلينا ألا ننسي أنه كان هناك ذات مرة إنسان لا يتمتع بحقوق الإنسان.