ألف دستويفسكي ما يزيد علي الثلاثين عملا، ظهرت بطرسبورج في عشرين منها. أحيانا نجدها في خلفية الأحداث، وفي أغلب الأحيان نجدها باعتبارها شخصية فاعلة، ودائما يمكننا أن نجد سواء نظرنا من قرب أو بعد- أماكن شديدة الصلة ببطرسبورج في كل رواية من رواياته. بطرسبورج هي الصورة التوضيحية الأفضل لرواياته. عن تلك المدينة الفارقة صدر مؤخرا كتاب "الروائي ومدينته..بطرسبورج دستويفسكي" ألفه مجموعة من الباحثين وترجمه د.أنور إبراهيم، الكتاب يتتبع أثر المدينة في كل أعمال دستويفسكي وتأثيراتها علي حياته هو نفسه. ويبدو أن حضور المدينة في أعمال بوشكين وجوجول ودستويفسكي وأندريه بيلي والكسندربلوك أمرا طبيعيا وعاديا، فالادب الذي كتبوه مشبع بروح هذه المدينة، بجمالها الآخاذ وفتنتها وجاذبيتها، بحيث يصعب الا تنساب في إبداع من عرفها، سواء كان رساما أم كاتبا أم شاعرا. إنها ليست مدينة ملهمة فحسب، وإنما كما يصفها الكتاب كيان حي ينفرد كل من يعرفه بعلاقة خاصة به، علاقة فريدة لا تتكرر. والمدن كالبشر، لكل مدينة "وجه" لكن وجه بطرسبورج متنوع للغاية، قابل للتغير. أحيانا يبدو قريبا منك، مألوفا لديك، وأحيانا غريب وعجيب، وبالنسبة لدستويفسكي فبطرسبورج هي "أكثر المدن في العالم تعمدا وتجريدا" ويصف علاقته بها علي لسان أبطاله قائلا:"إنه لبؤس مضاعف أن تعيش في بطرسبورج، إنها مدينة أشباه المجانين..من النادر أن يصادف المرء كل هذه التأثيرات الكئيبة والحادة والغريبة علي روح الإنسان مثلما يصادفها في بطرسبورج". ومع هذا فقد أحب دستويفسكي بطرسبورج حبا شديدا. فهي المدينة التي شهدت سنوات فتوته، وهي المدينة التي شهدت لحظة ميلاده كاتبا، كما أنها في الوقت نفسه مدينة آلامه المضنية وعذابات اللوعة والفقد التي عاناها، إنها المدينة الضرورية لإبداعه، وكثيرا ما كانت مصدر إلهامه. كلما غادرها سعي للعودة إليها، وكلما عاد إليها تعذب بها، فيها يلازمه الإحساس بالنفور والملل والضيق، وفيها لم يمتلك بيتا علي الاطلاق، ولم تطل إقامته في ركن من أركانها..لطالما انتقل من شقه إلي أخري، آملا في كل مرة أن يجد شيئا ما جديدا. الأعوام الستة عشر الأولي من حياته قضاها دستويفسكي في موسكو، وفي عام 1837 غادرها إلي بطرسبورج ومنذ هذه اللحظة الفارقة ترتبط حياته كلها بهذه المدينة الواقعة علي نهر النيفا، وبها يقضي ثماني وعشرين عاما في متاعب لا تنتهي فهو يضطر لمغادرتها مرتين لسنوات طويلة، ففي ليلة عيد الميلاد من عام 1849 يتم ترحيله ونفيه منها إلي سيبيريا بصحبة رفاقه من جماعة بتراشيفسكي (أربع سنوات في المعتقل في مدينة أومسك ثم الخدمة العسكرية في مدينة سيميبالا تينسك) يعود مع نهاية عام 1859 إلي بطرسبورج، ثم يغادرها للمرة الثانية مرغما بصحبة زوجته أنا سنيتكينا. لم يكن أمامه وقد ساءت أحواله المالية وحاصره الدائنون من كل جانب إلا أن يغادرها..وفي هذه المرة تطول غيبته أربع سنوات تقريبا، قضاها في ألمانيا وسويسرا وإيطاليا. وقد عذبته الغربة عذابا مضنيا فاندفع عائدا إلي روسيا، إلي بطرسبورج التي يقول عنها في أحد خطاباته :" بطرسبورج شديدة الكآبة والملل ولكن كل ما فيها علي أي حال يعيش لهدف". خلال حياته في بطرسبورج تنقل دستويفسكي من بيت إلي آخر عشرين مرة. وطوال هذه الفترة لم يستقر في بيت واحد أكثر من ثلاث سنوات، وكانت غالبية البيوت تقع علي ناصية الشارع، كان دستويفسكي يهوي التقاطعات ومشاهدة الأفق، وغالبا ما كانت هذه البيوت تقع أمام كنيسة أو كاتدرائية. إن إحساس دستويفسكي ببطرسبورج إحساس متعدد ومتناقض وقد يكون هذا الاحساس ذاته مغروسا في المدينة نفسها وقد انصهرت وذابت في الضباب، ونادرا ما نجده يتعرض بالوصف للأماكن المعتادة في بطرسبورج والمعروفة بجمالها وبحسب تفسير الكتاب فإن ذلك كان راجعا إلي مفهوم دستويفسكي عن المدينة حيث يضمن الواقعي والخيالي، فالأول يعني هذه المدينة بعناوينها الحقيقية التي كانت موجوده بالفعل، أما الثاني فيعني المدينة المتخيلة فنيا المسكونة بأبطال ظهروا في بداية وعي دستويفسكي وتجسدوا في إبداعه، وبحسب وصف الكتاب فهي مدينة "دستويفسكية" أكثر منها مدينة محددة ملموسة.