عبر تسع قصص متفاوتة الأحجام يصوغ رضوان آدم عالم مجموعته القصصية الأولي، وهو في الأغلب عالم واحد، عزبة بعيدة في أعماق الصعيد، ليس لها علاقة بالعالم الخارجي، فهي تبدو أشبه بعزبة أسطورية، لها قوانينها الخاصة، لا يتحكم فيها الأغنياء ولا أصحاب السلطة، ولا حتي البشر العاديون، كما تصور كثير من الأعمال التي تناولت القرية الصعيدية، ولكن مجموعة من الأشخاص الذين تصورهم القصص كما لو أنهم خُلقوا من طينة أخري. كل واحد منهم صنع أسطورته الخاصة بتحديه للزمن، ولقوانين البشر، وكل منهم تحايل علي بقائه، رغم أن الموت يحيط بهم أكثر من غيرهم. "جبل الحلب" أقرب إلي متوالية منه إلي مجموعة قصصية، ويبدو واضحاً منذ الفهرس أن هناك نظاماً خاصاً أراده الكاتب للفت الانتباه إلي ذلك، فكل العناوين مجرد كلمة واحدة، ومنها ثمان بأسماء أبطالها، والتاسعة، الأولي في المجموعة بعنوان "أيام"، هي أيضاً حكاية للمرأة الحلبية القوية "جليلة". عبر القراءة يتكرر ذكر أماكن وتيمات. العزبة وشوارعها وحاراتها دائماً في الخلفية. البشر العاديون، الطبيعيون، يحتلون مركز الكومبارس، والسرد يصفهم دائماً في صيغة الجمع، وهم دائماً رد فعل لتصرفات جليلة وسليمة وسكينة وتغيانة وعبيد وهندي ومنصور وعجيب وعيد. بمرور الوقت وتوالي الصفحات يبدو أننا أيضاً بإزاء رواية، البطل الرئيسي فيها المكان، الذي يشكل كابوساً لا يستطيع أحد الفكاك منه، أو الثورة علي قوانينه. لغة المتوالية شديدة البساطة، غير أنها أحياناً تتلمس طريق الشعر، خصوصاً في المواقع التي تتطلب إقناع القارئ بأسطورية المشهد. "تتلقي نوافذ البيوت أول لطمة فتُعلم بعضها البعض بالعاصفة"، من قصة "عبيد"، و"الهزّات المتكررة في الغيوم لا تعني أنها تتقهقر. تتحرك في جماعات، ولا تترك غيمة صغيرة إلا ودعّمتها بواحدة أكبر. معدل التقاطر الدقيق لا يسمح لسليمة بتصويب طوبها إلي أعلي. لن تتمكن من إلحاق الأذي بالسماء، طالما لم تتفرق الغيوم المُستفزة" من "سليمة". واللغة تسير في مستوي أفقي، بمعني أنه لا توجد مستويات في السرد، والانتقال بين الضمائر والأزمان يبدو سلساً، والمفارقات حاضرة أيضاً، ففي الوقت الذي يتعامل السرد بجدية شديدة مع معركة الشرقيين مع الغرببين، تنفجر الكوميديا، فلا أحد من هؤلاء البؤساء يتعامل مع الأمر بشكل عادي. إنه شرف وتاريخ الشرقيين في مواجهة الغربيين، ولن يتحمل أحد منهم النظر في وجه الآخر لو أنهم انهزموا. إنهم يتتبعون "منصور" قائدهم، الذي يدير المعركة الحربية، ويخططها علي خرائط يرسمها في التراب أمامه، ويحدد المهاجمين والمدافعين والقناصة وحاملي قنابل التراب، كما يتتبع السرد خطوات الهجوم، والتقهقر المفاجئ، بعد أن يشن العدو هجوماً مضاداً، في كادرات سينمائية شديدة الوضوح وذات ألوان ثقيلة، في الأغلب يسيطر عليها الرمادي من فرط تناثر التراب في كل مكان، حتي لتشعر أن قنبلة ترابية يمكنها أن تصيبك فجأة، ثم تأتي المفارقة حينما يقع كل هؤلاء ونكتشف أنهم صغار القرية، حينما يقفون محنيي الرؤوس أمام الكبار. في هذا العالم البائس يتتبع السرد حياة أشخاص يؤمنون بوجود عوالم أخري، غيبية، ولكنه يظل محايداً، ليس معنياً بمسألة التصديق من عدمها. إنهم يخضعون لتلك العوالم أحياناً، كما في قصة "تغيانة الدّاوي"، الخادمة المُخلصة لشجرة الشيخ فخر الدين، الذي كان له قلب يزن أكثر من أربعة كيلو جرامات، الشجرة التي كانت قادرة علي شفاء أطفال القرية المحسودين والمخلوعين. السيدة العجوز المدخنة تمارس سبوبتها، ما المانع؟، وهي تصدق أسطورة دم الشجرة القادر علي منح البركة لمن يرضي عنه الشيخ. ستمتثل الأمهات لكلامها وأوامرها، وهي تختار من بين الأطفال من يستحق الشفاء، والكل يتذكر الحوادث التي مات فيها أشخاص تعدوا علي الشجرة أو سخروا منها. وكما يخضعون لتلك العوالم فإنهم أيضاً يواجهونها، ويدخلون معها في معارك ضارية لحثها علي إنزال الخير. لقد ورثت سليمة عن أمها "وطنية" مهمة معاركة السماء حتي تحصل علي أولاد ذكور. المهمة كانت تبدو شاقة، فكثير من الوقت يبدو الإله الرابض خلف الغيوم متعالياً، أو متجاهلاً للطلبات، وهي عليه تذكيره في كل مرة بمطالبها عبر منجنيق الطوب اليدوي الذي ترسله إلي السماء. لو سقطت الأحجار علي رقبتها وكتفها فهذا نذير شؤم، ولو شج رأسها فتلك هي البشارة بمجيء ذكر، وهي ستترك الدماء التي تنزف منها دلالة علي البشارة أمام زوجها وابنها الساخريْن، وأختها الساخطة، ولكني لم أحب أبداً نهاية القصة التي سيموت فيها ابنها الوحيد. فالمفارقة جعلت الدراما زاعقة كثيراً. تبدو المجموعة أيضاً مهمومة برسم تاريخ للأبطال، وربما يتقدم التاريخ علي الأبطال ذاتهم، ففي قصة "أيام" لا تبدو جليلة هي الأساس بقدر سرد تاريخ الحلب في هذا المكان. كيف يبيعون بضاعتهم، وكيف يُنضجون حكايتهم التي يستطيعون من خلالها تحلية تلك البضائع. كيف يتحايلون علي الموت، وكيف تقود ملكتهم معارك ضارية ضد من يريدون اجتثاثهم من الأرض. كيف يرقصون علي موتاهم، وماذا يأكلون لتقوية أجسادهم وزيادة بأسهم. كيف يصونون أسطورتهم الخاصة ويحافظون عليها من الزوال. الحلب يبدون مهمومين بتثبيت أقدامهم في الأرض في مواجهة ريح عاتية تريد طوال الوقت أن تقتلعهم، وهذا هو ما نجحت القصة في إيصاله. الكومبارس قد يكرهون شخصاً ما رغم أنه أدني منهم، لكنهم لا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً ما للخلاص منه، سيدعون السماء ولكنهم أيضاً ربما يتراجعون عن دعائهم، فالشخص الكريه ربما يكون أقوي من السماء. مثلما هو الحال مع "عبيد" الذي يصارع الموت وحيداً بعد رحيل أمه، وتنتظر العزبة كلها، رجالاً ونساء وأطفالاً، صعود روحه، غير أنها لا تغادر. سيبدو لهم خالداً، يتحدي الموت، وسيظل موجوداً ليجلب لهم الشقاء والتعاسة، ويحكم عليهم بالعذاب الأبدي: "بعد أيام حصد مرض غامض عددًا كبيرًا من بهائم النجع: عشرين جاموسة وخمس عشرة بقرة فخرجت النساء خالعات طرحاتهن إلي الحقول. في طريق عودتهن عرجن ورفعن الأكف تحت بيت عبيد البياض. طلبن منه الرحمة بالأطفال والحوامل. أحد رجال الدين مشي في الناس وطلب منهم أن يذكروا محاسن عبيد. طرق الشيخ كل باب وأوصي بعدم سب عبيد حتي في السر. دعا الشيخ ناس النجع أن تقتصد في الطعام وتكثر من الدعاء وتُخّزن قمحًا فقد يموت الشجر وتقع مجاعة ويدخل النجع في سنين عجاف". ومثلما هو الحال مع عبيد هناك هندي، الأسطورة الأخري، الذي قتل ما يزيد عن عشرين رجلاً، وتلقي جسده عدداً مرعباً من الرصاص ومع هذا قاوم الموت، ليتحول بدوره إلي مخلب للموت، ينتظر الجميع أن ينقض في أي لحظة ليحصدهم ويطير بهم بعيداً منذ ثلاثين عامًا. إنهم نفس الكومبارس الذين يتداولون، في قصة "عجيب" حكاية البطيخة التي تتضخم في أعياد النصاري، وتضيء العزبة، بأنوار حمراء وزرقاء، وهكذا يتجمعون في صفوف علي مداخل العزبة، ولا يدخلونها، خوفًا من البطيخة التي قد تقع فوق رؤوسهم وتحرقهم، ويعودون إلي بيوتهم بحكايات كثيرة عن البطيخة التي ظهرت في هيئة ملاك يرفرف في الجو بخمسة أذرع ثم يضيء صلبانا فضية في سماء العزبة. وهكذا يوارب رضوان آدم باب عالم العزبة و"جبل الحلب" بقصة القزم "عيد" الذي يبحث عن فرصة ليضع قدمه في العالم، متحدياً سخرية الجميع منه، محاولاً أن يتناسي قصة والده الذي مات كمداً لأن زوجته أصرت علي أن تلده. كانت حقيقة قاسية أن هذا الوالد يعرف قوانين الوراثة جيداً، ومن المؤكد أن ابنه سيرث قامته القصيرة وسخرية العالم وهو ما تحقق بالفعل. إنهم أبطال يعيشون علي تخوم العزبة، وكلهم يشكلون نسيجاً لعالم واحد، ما يعني أن تصنيف هذه المجموعة إلي "قصص" لم يكن موفقاً إلي حد بعيد. إنها رواية عن واقع أكثر أسطورة من الأساطير.