«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شفق ورجل عجوز وصبي:
العالم نُدبة علي جبين طفل
نشر في أخبار الأدب يوم 20 - 11 - 2011

أربع وثلاثون مقطوعة تشكل الكتاب القصصي "شفق ورجل عجوز وصبي"، ل"سعيد الكفراوي"، والصادر مؤخراً عن دار الشروق. المنتخبات التي ضمها الكتاب من أغلب مجموعات الكفراوي، لم تركن لفكرة المختارات التقليدية، بدليل أن القصص المختارة لم تنشر حسب تواريخ كتابتها أو تتوزع بترتيب صدور مجموعاتها القصصية، بل تفرقت، بحيث يمكن أن نقرأ علي التوالي واحدة من القصص المبكرة مشتبكة بواحدة من أحدث قصصه، وبحيث بدا لي أن أحد الرهانات كان تقديم كتاب قصصي له استقلاليته، ويمكن قراءته تحت ضوء جديد، دون أن يفقد قدرته علي كشف عالم الكفراوي القصصي المتسع في تنوعاته وتراوحاته. غير أن المثير، أن النصوص في ترتيبها الجديد، في "تبعثرها" الدال جاءت لتجعل من الكتاب متتالية سردية، يبدو فيها كل نص خيطاً يتصل في النص الذي يليه، وتكمل فيها النصوص بعضها، علي تباعد زمن إنتاجها، في دورة من الميلاد والموت.
بدا لي الكتاب، وفق بنيته هذه، نصاً واحداً طويلاً، يمكن التعرف علي أبطاله في أركان الحكاية الكبيرة، وتحديد أدوارهم، وتلمس تجليات ظهورهم واختفائهم.. وهم يؤطرون وجود شخصية رئيسية، تتعدد وجوهها، لكنها تظل الشخصية نفسها.. " عبد المولي"، الذي نتلمس خطاه منذ طفولته، نطالع صور صباه، ونصحبه حتي تجاعيد الرجل العجوز الذي يصيره، بينما يتذكر. "عبد المولي"، وهو الاسم الذي يمنحه الكاتب لبطله في عدة نصوص، مؤكداً علي وجوده الذي يتجاوز حدود القصة الواحدة ليصير "شخصية" تتحرك في عالمه، يحضر كذات هي جماع أزمنة، تستشرف وتتذكر في الوقت ذاته، تستبق وتسترجع، فيها من صفات الأولياء، القدرة علي كشف حجب الواقعة العادية، والحياة بعد الموت " أليس عبد المولي، من تحدي القدر المكتوب، وذهب إلي تلة الغجر، حيث أخرجوا قلبه وأعادوا كتابة اسمه قبل أن يردوه للحياة، في قصة تل الغجر؟".. يصير الوجود كله ندبة ولد بها الطفل وصارت تكبر كلما تقدم في سيره.. إنه جرحه المقيم، ألمه الداخلي الذي يستعذبه كمتصوف.
وبينما نتأرجح مع تلونات العمر نتنقل، بسلاسة، مرة بعد أخري، بين ريف ومدينة، حيث خضرة تنفتح علي شوارع إسفلتية، سماء بطيور تحيل إلي سماء تحتلها سحابات دخان، بيوت من طوب لبن تتمدد لتصير بنايات شاهقة من الأسمنت.. أحلام تتحول إلي وقائع وذكريات تتجول بحرية.
القراءة الأشمل للكتاب، قادرة علي إبراز عدد من السمات الجوهرية في سرد الكفراوي، ولعل أبرز ما تبدي لي هو احتشادها بالاشتباكات، بين ما يعتبره البعض "ثنائيات" حققت خصامها سلفاً، بما فيها من حدية. الريف هنا يجادل المدينة، وعي الطفولة يجادل وعي النضج، التذكر يجادل الاستشراف، السرد يمتزج بالشعر، عامية اللسان تجادل مؤسسة الكتابة، والأسطورة تلقي بثقلها علي حركة الواقع. يبدو عالم الكفراوي حريصاً علي الإنصات لهذه التقابلات، في جدليتها الموارة من دون أن يؤكد تحيزه لمنحي دون الآخر.
الفضاء السردي
يتميز عالم سعيد الكفراوي بسرد متدفق، لا تغيب عنه الحكاية، كعمود فقري، ويبدو واضحا فيه اتصاله بنبعه الشفاهي القادم من الوجدان الجمعي.. فلغة السرد معجونة بلغة الكلام، ولغة الحوار بدورها محتشدة بموروث اللسان من أمثلة وصياغات قارة في وعي الجماعة.. لكن الكفراوي، بالرغم من ذلك، لا يركن للسرد الكلاسيكي للحكاية، أو للمنطق التعاقبي السهل في تقصي زمنية القصة، فسرده أيضاً حافل بالتجريب، واللعب مع البنية القصصية، وخلخلة الزمن، منفتح في الوقت ذاته علي طاقة شعرية هائلة، تتبدي في استخدام خاص للغة، واختبار لأكثر من مستوي سردي في لحمة النص الواحد.
تنفتح الحكاية "الكفراوية" علي عالمين كبيرين، الريف، والمدينة. ليسا منفصلين تماماً رغم أنهما ليس متصلين، لكن هناك حالة من الجدل تتحقق بينهما، كنموذجين معرفيين بالأساس وكطريقتين لإنتاج الأفكار، خاصة في القصص التي تجمع بينهما، والتي يغادر فيها السارد الريف للمدينة، أو يعود من المدينة للريف.

يفرض كل من العالمين نفسه علي الوعي بشكل مختلف، فبينما يرتبط الريف بالأفكار الكلية في ذهن الشخوص، الحياة والموت، الزمن، الخصوبة، وحدة الموجودات، ما وراء الوجود الماثل، مع حضور واضح للأسطورة والخرافة، وتداخل حر بين الواقع والخيال.. فإن المدينة تتبدي كلوحة مفتتة من العناصر الصغيرة، البطل فيها هو العالم اليومي والمؤقت للأفكار المجزأة والواقع العملي بغية إشباعات مؤقتة. يتخلق الحوار الرئيسي فيها بين البشر والأشياء، أكثر مما هو بين البشر والبشر. ربما لهذا السبب نلاحظ هيمنة الحوار في القصص التي تدور في الريف، وثراؤه وسيولته.. بينما يختفي أو يكاد في قصص المدينة، حيث الحوار التلغرافي، المتحقق في أقل عدد من الكلمات، والذي يكاد في جوهره يكون مجرد "مونولوجات" متبادلة تكشف عن توحد الأشخاص أكثر مما تعمق اشتباكهم الحقيقي في نسق مشترك. الملحوظة الثانية تخص الغاية من الحوار، فالحوار في نصوص الريف يبدو مقصوداً لذاته، ليس مكرساً لغاية عملية، بل هو الغاية.
ثمة ملحوظة أخري ملفتة، فالعلاقة في عالم الريف تتحقق غالباً بين الطفل الصغير والرجل العجوز المشرف علي النهاية، عالم من الأطفال والعجائز، مبدأ الحياة الغض ومنتهاها العامر بالحكمة.
يلوح جدل لا يتوقف بين وعي السارد بالعالم، كطفل تارة وكرجل عجوز تارة أخري. بين أول العمر وآخره يتحرك قدر غير قليل من النصوص، كاشفاً عن هوة سحيقة بين منحيين في رؤية العالم وتفسيره. من هنا يصير عنوان المختارات "شفق ورجل عجوز وصبي" أبعد من مجرد لافتة، فهو يجمع العنصرين المتباعدين، في ظل "الشفق"، ذلك الوقت المخاتل في أول الفجر، أول الدنيا.
ولعل من اللافت، ذلك الحضور الطاغي للطفل باعتباره محركاً للوجود، وهي الرؤية التي أعتقد أن الكفراوي تفرد في تعميقها. من المدهش أن الطفل يحضر كسارد، ويمثل الغريزة، المطلقة، في توحده بالطبيعة وقدرته علي الإتيان بما يحب، كذلك فإن الطفل يقف دائماً علي تخوم عالم آخر، عالم ما ورائي ميتافيزيقي، يعبر إليه بسلاسة، في خصام عميق لوعي "العجوز"، الخائف بطبيعته من المجهول. في "تل الغجر" مثلا، ينتقل الطفل "عبد المولي" من العالم الواقعي للقرية إلي "تلة الغجر" المرهوبة، في رحلة إسراء جديدة، حيث يتورط، باختياره، في عالم سحري، كأنه العالم الآخر، ويستسلم للرجال الذين ينزعون قلبه. هذا المزج بين الواقع والخيال، هو نوع خاص من "الواقعية السحرية" الحاضرة في كتابة الكفراوي، التي تُضيق المسافة بين الواقع والحلم، بين ما يدركه العقل وما تتصوره المخيلة. لكن هذا المنحي يشتد عندما يتولي الوعي الطفولي السرد. "عبد المولي" نفسه سيظهر من جديد، في قصة أخري هي "زبيدة والوحش"، يخترق صوته السرد كاشفاً عن رؤيته الباطنية لطقس ريفي مألوف هو تخصيب الثور للبقرة.
الطفل يكتشف جانبا من غريزته من خلال المراقبة المباشرة للوجود الحيواني، حتي يصبح الطقس برمته استعارة للشوق الإنساني الكامن والمرجأ. المشهد الواقعي "الحيواني" بالنسبة له لحظة حلم، قائمة بين الواقع والخيال، ومعبأها بعمقها الصوفي، حيث المعني الأعمق للاتصال.
الحلقة المفقودة في الريف، يمثلها الرجل الذي في عمر النضج أو أواسط العمر، لكنها تتجلي بشكل أكبر في عالم المدينة، وهذا ما يجعل من العالمين مكملان لبعضهما في رسم الصورة النهائية للشخصية. رجل المدينة هو ذات بين الطفل والعجوز، لذلك فهي ممزقة بين طفولتها المندثرة وعجزها القادم لا محالة. هذا ارتباك يلائم منطق المدينة، ووعي شخوصها الممزق. الرجل في المدينة إما باحث عن بقايا حب قديم، أو متردد في الإقدام علي علاقة جديدة، مشتت بين واقعه الغريزي وحيرته الفكرية واغترابه عن مجمل السياقات التي يحياها مضطراً: " من سنين عدة والمسرات قليلة في هذه الأنحاء. فذاكرتي المشوشة لم تعد تعي أنني ضحكت من قلبي طوال تلك السنين، فمنذ ارتفع نجم اللوطي، والجزار، ومالك العقار، وراقصة الملهي، وكاتب السيرة، والمؤرخ الكذاب، والبانكير، في سماء الوطن السعيد، تأكدت من تغير الأحوال وقلت في نفسي: انتبه عليك بالبحث عن الشئ المغاير". ( قصاص الأثر).
إنه "عبد المولي" من جديد يفسر لنا طبيعة الرحلة، فهو طفل الريف ورجله العجوز، وبينهما، هو رجل المدينة الذي ارتحل.
...
المرأة في عالم "سعيد الكفراوي" ليست ذلك الكائن المهيض، "مكسور الجناح"، وسواء كانت المرأة في الريف أو المدينة، فهي دائماً محركة، محفزة، قوية.. لذلك فمن اللافت أن المرأة علي الدوام هنا تقف علي الجانب الآخر من "التصور الذكوري" الذي يراها موضوعاً للمتعة، مثلما يري فيها الهامش المقموع، وهو تصور سيطر طويلاً علي السرد المصري.
تحضر المرأة دائما كدال علي الغريزة المنفلتة، وهي بذلك تبدو مناقضة لكل الأعراف. ليست الكائن الراضخ المستسلم، لكن الباحث عن مصيره، سواء كان ذلك في الريف أو المدينة. في "تلة الغجر" تعدل الأم لابنها ما يشاع عن الغجر، مانحة إياه رؤية جديدة تناقض الرؤية الذكورية التي يتبناها الجد ويترجمها في أمر" لا تذهب لتلة الغجر"، وفي "سيدة علي الدرج"، تغوي المرأة الرجل وتستدرجه، وفي "بيت للعابرين" تكون المرأة هي المبادرة بالبحث عن عشقها القديم، والنماذج كثيرة.
أفق المرأة أيضاً مفتوح دائماً علي المستقبل. المرأة هي القادم، هي محرك الزمن.
الأفق الشعري
تلتفت النصوص للشعر، فضاءً ولغةً وآليةً في مقاربة العالم، بشكل جلي.
نهر اللغة السردية السيال والتواصلي، يجادله مستوي ثان من لغة أكثر كثافة، وأشد عتمة، وانفتاحاً علي آفاق رحبة من التأويل، تتسلل بسلاسة لتقيم تقاطعها، كمستوي مفارق من الخطاب اللغوي، يعيد قراءة الحدث، يقاربه من منحي تجريدي، مقدماً معادلاً شعرياً موحياً للعالم التشخيصي، يتجاوز الأفق السردي الحدثي للحكاية. هناك دائماً تصور شعري أشمل يغلف التصور السردي.
لن يخلو نص تقريباً من هذا الالتفات للشعري، كفضاء تترجمه اللغة المفارقة، ولأن آليات إنتاج النص شديدة التنوع، فإن "الشاعر" الملتبس بالسارد في عالم الكفراوي، لا يقف في منطقة بعينها، فهو يتحرك بين أكثر من تقنية لتخليق الشعر. هو شاعر شفاهي، غنائي، منشد أحياناً، ممسك بناصية العديد أحياناً، ومشتبك بالخطاب الشعري الصوفي تارات.
في قصة "صورة ملونة للجدار"، يتوج النص بنهاية شعرية بامتياز، تحضر بين قوسين، وبالآلية نفسها التي أسلفتها: "ورأيتها تقف تحت الصورة كمهرة برية، تعدو في اللون ناحية البراح، وتستعيد أمنياتها. رأيت في عينيها شرارات النار، تبدو في الصورة وقد عادت صبية متوجة بالطرحة وصولجان الورد، وكأنها العروس الخالدة في يوم عرسها الأول. تقف بامتلاء كأنه العشق، فيما يقف بجانبها رجل لا أعرفه".

المنحي نفسه نعثر عليه في نص مثل "صيد الغزلان"، حيث يهيمن صوت الشاعر علي صوت السارد: " غير أنها خرجت مع نور الشفق وبيدها حجابي المكسو بجلد شاة الراعي الطيب، والمخيط بخيط أمعاء فطيسة حيوان الجبل الذي يترصده أبي من قديم، والتي كنت أطاردها وأنا صغير حتي جحور الثعابين، وجعلت تنظر ناحيتي رافعة حجابي للشمس وقالت لي كنت تلبسه حتي أدركت البلوغ".
في نص مثل "قمر معلق فوق الماء" ولنلاحظ أن العنوان نفسه صورة شعرية تحضر شعرية المناجاة، التي تجعل اللغة السردية أقرب للمناجاة الصوفية، بقدر ما تحمل صفات القصيدة الغنائية من ذاتية في إعادة تأويل الوجود، وهي تمسك بالسرد من أوله لنهايته " رويت شجر النخيل، ونظرت ما وراء النهر ولم أكن راغباً في مفارقته.. أحزم وسطي بثوبي المبلل، وأري قدمي ملوثتين بالطين والتراب.. هي أمي النحيلة بثوبها الأسود، واقفة علي سلم الدار تناديني: عبد المولي.. تعالي يا ضنايا.. غسلت قدمي ورششت وجهي بالماء ونظرت شمس الصباح المتوجة بالعصا والصولجان". هنا يتحقق السرد من خلال الفضاء الشعري وليس العكس، بحيث يمكن قراءة القصة كلها كنص شعري.
تحضر تقنيات شعرية أخري، مصدرها الموروث، ك "العديد". هناك عدة نصوص تحاكي بنية العدودة، مستلهمة لغتها وروحها الحزينة والتكرارات الدالة لدوال أو عبارات بأكملها تمثل عصب النص الدلالي ومكمن تأثيره، مثلما يتبدي في نص "كل تلك الفصول"، الذي يقارب واقعة موت بشكل طقسي: "كانت تقرع الكفوف النحاس فيتردد صدي الطرق علي الأبواب: ولدي يموت، وينتزع كبدي، افتحوا الدور..... بدأ أول النهار علي أرض المجاز، الذي يفصل الدار عن سياجها، نعش من خشب أصفر بأربعة أذرع وظل، ومصباح صفيح كتميمة قديمة يستقر في نهشه بجدار الطين. من بطن النعش تفوح رائحة شيح قديم، وعطر رخيص باذخ، وذكري لموتي راحلين".

الشاعر الغنائي، يزاحم السارد أيضاً في مواضع ليست بالقليلة من أنحاء السرد:
" أتبعها خطوة بخطوة، أترصدها كغرائس الصيد، هذا ما قدر لي أن أفعله، تعبر الرصيف، وتسير بجانب سور الحديقة، حيث يتضوع مسكها، ويملأ الشارع بالأريج. تصعد مع النهر فيصعد مني دمي ويهبط إلي أوردتي. توهمت أنها تبتسم لي فابتسمت أنا. ولما خاب ظني قلت: إنها تملك في عينيها فيروزتين. ووسعت من خطاي عند النهر. عدت وهمست لنفسي: هي التي لا أنام إلا وهي في حضني كل مساء. أنظرها الآن تملأ الشارع بحضورها الجليل غير قادرة أن تخفي حيوية الجسد له المجد عن العيون المستنفرة لمشهد تجليها" ( عشب مبتل).
التجريب يبلغ واحدة من ذراه في العبور النوعي من خلال "زبيدة والوحش"، التي لا تقدم كقصة، بل ك "رؤية في نصين"، تتحقق ببنية شعرية، فليس النص الثاني متمماً للأول أو مكملاً له، بل مواز، وبينما تحضر الحكاية في النص الأول، ينخرط السارد في النص الثاني في رؤية حلمية تتناص ولغة متون الأهرام وكتاب الموتي. الأمر نفسه، في تجل مختلف، يحضر في "سدرة المنتهي"، الذي يُوصَّّف ك"ثلاثة مقاطع علي مقام زمان"، ويكاد يكون نصاً شعرياً بالكامل، بتجاوزه الأفق التعاقبي التقليدي للحكاية، مقابل التأمل المستبطن: " تخاف أنت وأخاف أنا من ظلمة السدرة في الليل والنهار، ومن نسل الملكة تحت فروعها الممدودة حتي الماء، وثمرها لأهل السكك الجوعي الفقراء".
ربما يحتاج هذا المنحي في تجربة الكفراوي لمقاربات موسعة، خاصة وأنه ملمح تبرز تجلياته في كل قصة تقريباً، بشكل مختلف. لكن المؤكد في ظني، أنه يصعب قراءة العالم السردي لسعيد الكفراوي بمعزل عن الجذر الشعري القوي الذي يشد الحكايات لأفقه الموحي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.