يعرف القراء العرب الباحث والمترجم الفرنسي ريشار جاكمون عبر كتابه الذي قام بترجمته بشير السباعي "بين كتبة وكتاب"، والذي يدرس فيه المجال الأدبي لمصر من الناحية السوسيولوجية، وعن طريقه عرف الفرنسيون الكثير من الأدباء العرب والمصريين الذين قام بترجمتهم للفرنسية، مثل صنع الله إبراهيم، محمد برادة، محمود الورداني، لطيفة الزيات وغيرهم. في الحوار الذي أجرته معه مؤخراً جريدة لوموند يشرح جاكمون للقارئ الفرنسي ملابسات اللحظة المصرية بعد 30 يونيو، ويعود لموضوعه الأثير وهو المشهد الثقافي في مصر، كيف يتعامل المثقفون مع اللحظة الراهنة، كيف يستجيبون ولو بالصمت إزاء ما يحدث؟ ماهي انحيازات مثقفي اليسار وكيف تشكلت علي مدار العقود الماضية؟ نقدم هنا الحوار للقارئ المصري بدون تدخل من جانبنا ونؤكد أن حرية الرد مكفولة للجميع كيف تفسر التأييد شبه الجماعي بين الكتاب والمثقفين المصريين ل"الانقلاب" العسكري، ضد الرئيس الإسلامي محمد مرسي برغم أن بعضهم كانوا من أكثر الناس تورطاً في الثورة مثل علاء الأسواني؟ بالنسبة لهم، مثلما بالنسبة للمعارضين للرئيس مرسي، فإن 3 يوليو ليس انقلاباً بل خاتمة لل"ثورة الثانية"، التي بدأت بالمظاهرات الكبيرة المطالبة برحيل مرسي في 30 يونيو، أي في الذكري السنوية لوصوله للسلطة، وعلي مدي الإثني عشر شهرا التي قضاها الإخوان علي رأس السلطة، عزل الإخوان المسلمون نفسهم أكثر وأكثر، لدرجة أنه في 3 يوليو كانت جميع القوي السياسية وغالبية الرأي العام (بما فيه قطاعات من التيار الإسلامي) موافقين علي تدخل الجيش. هذه الأغلبية تبدو أوضح في العاصمة وفي الطبقات المتوسطة والميسورة، وبالتالي، في أوساط المثقفين. لا يجب أن ننسي أنه في الانتخابات الماضية صوتت القاهرة ضد مرسي في المرحلة الثانية من الانتخابات (مرسي لم يحصل سوي علي 44٪ في القاهرة في مقابل 52٪ علي مستوي الجمهورية)، وصوتت بنسبة أكبر ضد الدستور الذي قدمته حكومته، (55٪رفضوا في مقابل 64٪ قالوا نعم علي مستوي الجمهورية). ما هو المأخذ الرئيسي لدي الكتاب والمثقفين ضد الإخوان المسلمين، هل المشكلة لها طابع ديني، أم لها علاقة بحرية التعبير؟ هذه ليست مواجهة بين علمانيين ودينيين. قليلون في مصر ممن يريدون دولة علمانية بالمعني الذي نعرفه في فرنسا، ولكن في المقابل فإن الغالبية العظمي من الفاعلين في المجال الثقافي يطالبون بحرية التعبير، والتي تعني لهم ببساطة حق ممارسة عملهم الفني بدون تدخل خارجي. تحت رئاسة مرسي لم يكن هناك هجوم مباشر ولكن تراكم أحداث بعينها كان يشير إلي رغبة الإخوان في فرض سيطرتهم علي الثقافة والتعليم والإعلام. بالنسبة للفاعلين في مجال الثقافة المصري كان واضحاً أن هذا كان جزءاً من مشروع شبه شمولي لإعادة تشكيل المجتمع. هذا بالطبع لا يبرر موجة الكراهية ضد الإخوان التي رأيناها في الثلاثة أشهر الماضية. صمت "ضمائر الأمة" المصرية أمام القمع الدموي للمظاهرات المؤيدة لمرسي منذ 14 أغسطس هو صمت يخرق الآذان، ويثير الذهول. هذا الرفض للإخوان يصاحبه تأييد مطلق للجيش. كيف تفسر هذا الانبهار؟ كأنما الجيش قد تم النظر له بوصفه تجسيدا للشعب وكأن المثقفين كان لديهم إحساس بالذنب لكونهم ليسوا قريبين بشكل كاف من الشعب؟ لم يكن هناك انبهار ولكن "التقاء مصالح". منذ 25 يناير 2011 ظل الصراع السياسي في مصر يدار بين ثلاثة أطراف، طرفان منهما كانا من ذوي الأوزان الثقيلة والتاريخ الطويل، وهما الجيش والإخوان، أما القادم الجديد فهو "الشارع"، الحشد الشعبي، أي مجموعة القوي السياسية الجديدة والمتشرذمة. منذ 28 يناير إلي 11 فبراير كان الثلاثة متحالفين. بعد إقصاء مبارك اتفق الإخوان والجيش وهنا أيضاً كان الموضوع التقاء مصالح علي حساب الحشد الثوري. بعد انتخاب مرسي اعتقد الإخوان، والذين كانوا ضحايا غطرستهم، أن بإمكانهم حكم مصر بمفردهم. منذ يونيو تحالف الجيش والقوي التي أنتجتها الحركة الثورية من جديد، ولكن هذا التحالف يعد هو أيضاً تحالفاً ظرفياً. النهاية لم تكتب بعد. مصر تتعرض لموجة قومية قوية معادية للغرب. كيف تفسر هذا الرفض للقيم الغربية ومنها الديمقراطية الانتخابية بعد اندلاع ثورة ديمقراطية بسنتين فحسب؟ لا يجب أن ننسي أنه في ظل حكم مبارك كان انحياز النظام للولايات المتحدة مرفوضاً. يوجد إحساس معاد للولايات المتحدة قوي جدا في مصر، وهذا الإحساس يصاحبه ميل لإعطاء أهمية مبالغ فيها لتأثير الولاياتالمتحدة. هذا يتضح من الشائعات ونظريات المؤامرة. الشعور القومي السائد يمكن تفسيره أيضاً بالإحساس القوي لدي الإنتلجنسيا بأن البلد التي تم إنهاكها بعد ثلاث سنوات من عدم الاستقرار السياسي أصبحت معرضة لتدخلات أجنبية وأن الخلاص لا يمكن أن يأتي إلا علي يد سلطة قوية. هذا هو خطاب "الوطن المهدَد". هناك مقارنات كثيرة بين الثورة الفرنسية والثورة المصرية، المقارنة صالحة أيضاً من ناحية هذا الخطاب، الذي لم يكن ليستنكره وزير الداخلية الفرنسي مانوال فالس مثلاً! لا يوجد رفض للقيم الغربية ولا لآليات الديمقراطية، ولكن هناك نخب سياسية شائخة - من جميع الأطياف ذ ليس لديها ثقافة ديمقراطية وتستمر في محاولة السيطرة علي المجتمع بنفس النهج السلطوي الذي كان سائداً قبل 2011، لأن هذه النخب لا تستطيع القيام بدور مختلف، ولأن التغيير سيهدد مصالحها، ولكن من ناحية أخري فهناك مجتمع وبالأخص الشباب لم يتوقف عن رفض هذا النهج السلطوي منذ ثلاثة أعوام. من أين تأتي النوستالجيا لعبد الناصر التي تمكنت من النخب المصرية؟ هل هذا ميراث عميق؟ صنع الله إبراهيم الذي ترجمته قضي خمسة أعوام في السجن في أيام عبد الناصر، والآن يشعر بالحنين للستينيات. هل نسي الدولة البوليسية؟ - بالنسبة لصنع الله إبراهيم، مثله مثل كثير من المثقفين اليساريين من الأجيال الكبيرة، يبقي ناصر التجسيد الأكثر اكتمالاً لمشروع الاستقلال الوطني، والتنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية. بالنسبة لهم فإن الحريات السياسية كانت تعد ثانوية مقارنة بهذه الأهداف، والمفارقة أن صنع الله إبراهيم وكثير من زملائه دفعوا الثمن عبر مكوثهم لسنوات طويلة في السجن، أو تعرضهم لمضايقات أخري في وقت عبد الناصر أو من تلوه. بالنسبة لهم فاليوم أيضاً ليست الأولوية هي بناء ديمقراطية ليبرالية وإنما التنمية والعدالة الاجتماعية وسياسة خارجية مستقلة. ولكن هذه الرؤية عفا عليها الزمن. أما هنا فرؤيتنا أيضاً ناقصة، لأننا نعطي الكلمة بشكل أكبر للشخصيات المعروفة والكبيرة. المناداة بالحرية أقوي لدي الأجيال الصغيرة. هل الكتاب المصريون "مثقفين عضويين" كما كان يقال في الفترة السوفييتية؟ أو باستخدام تعبير أكثر مصرية "كَتَبَة"؟ ما هي علاقتهم بالسلطة؟ منذ تأسيس الدولة الحديثة في عهد محمد علي (1805-1849) هناك تراث من التزاوج بين الدولة والإنتلجنسيا وأصبح هذا أقوي بعد 1952. غالبية الكتاب المصريين هم أيضاً موظفون في الإعلام، التعليم، البيروقراطية الثقافية والدولة تحافظ علي ولائهم لها من خلال مؤسساتها، ومن خلال مؤسساتها أيضاُ تنتهج سياسة العصا والجزرة. وهم طول الوقت وبشكل مستمر في صراع بين وضع "الكتبة" المقرر لهم، وطموحهم لأن يكونوا "كتاباً" بالمعني الحديث، فنانين مستقلين عن القيود الخارجية التي تكبل فنهم، وكل منهم يتعاطي مع هذه الهوية المزدوجة وفق مساره الشخصي. فقط في العشرة أو العشرين عاما الماضية بدأت الأجيال الجديدة في التخلص من هذه السيطرة وبناء مشهد ثقافي مستقل خارج "المؤسسة"، وهي المؤسسة المنهكة كما تشير المشاركة الضعيفة في مؤتمر المثقفين الذي أقامته وزارة الثقافة منذ بضعة أيام. من هم الكتاب الذين تجرأوا علي أن يتخذوا الاتجاه المعاكس للفكر السائد؟ لا يوجد حالياً، تقريبا لا يوجد. من الأصوات النادرة المسموعة التي تتخذ موقف "لا.. ولا" (لا جيش ولا إخوان) أهداف سويف، وهي كاتبة كبيرة تكتب بالإنجليزية ولديها وجود قوي في الإعلام في مصر وانجلترا، وهي ناشطة في جبهة "ثوار"، وهي جبهة أنشئت منذ بضعة أسابيع ضمت حركة 6 أبريل ومجموعات من اليسار الراديكالي والمدافعين عن حقوق الإنسان. يمكننا الإشارة أيضاً إلي بلال فضل وهو صاحب عمود لديه شعبية كبيرة بين الشباب، ولكن انتبه! الصمت لا يعني القبول، دعنا لا ننخدع بهذا الإجماع الظاهري، الصور شديدة الانتشار للسيسي والأغاني الوطنية المكررة حد الغثيان. وخصوصاً أنه مع عودة حكم الطوارئ والدولة البوليسية المباركية (الاعتقالات لا تقتصر علي كوادر الإخوان ولا المتعاطفين معهم)، فإن الخوف الذي كان انتهي في 28 يناير 2011 يعود بقوة. أكرر أن النهاية لم تُكتب بعد