"حد يموت قبل اليوم ده يا إمام؟ حد يموت قبل ما يشوف العيال دي يا إمام؟ تعالي غنّيلهم هلّي يا شمس البشاير، تعالي غنّيلهم بهيّة يا إمام" قالها يوم 11 فبراير 2011 بعد انتهاء بيان تنحّي حسني مبارك عن الحكم بعد 18 يوم من الثورة الشعبية في 25 يناير، ثم بكي العم "نجم" وهو من لم يعتد البكاء سواء بين جدران السجن أو في الحوش ولا في أحلك أوقات الفقر والتعب اللذان كانا ضريبة رأيه و"فاجوميّته" وهجومه الدائم علي السلطة. في الحقيقة فإن حكايات أحمد فؤاد نجم وقصصه مع السلطة والمعتقل ومنافقي الحكّام وشعره المقاوم، هي قصص معروفة للجميع ولا تحتاج للسرد، بل إن حصره في هذا الإطار إعلامياً كان جزء من مسلسل الظلم الذي تعرض له هذا الرجل طيلة حياته. فالعم "نجم"، والذي اعتدنا علي مناداته ب"أبو النجوم"، يمكنه أن يحدّثك في أمورٍ عدّة، يمكنه أن يحدّثك في الحب، في الغَزَل، في الجمال، في الفلسفة، في التاريخ، في المجتمع، عن المرأة، عن الأسرة، عن التربية، عن الحياة، وعن الموت. و"نجم" الوطني الثوري سليط اللسان هذا، وبقدر قسوته علي الحكّام، يمتلك بنفس القدر حب للجنس البشري وللحياة، وبقدر كتاباته المقاومة هناك كتاباته الرقيقة التي قد لا يعلم عنها الكثيرون. فمن كتب "إنشالله يخربها مداين عبد الجبّار" بعد نكسة 67 ملقياً باللوم علي جمال عبد الناصر، هو من كتب "عمل حاجات معجزة، وحاجات كتير خابت" في رثاء نفس الرجل، ومن كتب "هات وشّك خدلك تفّه" هو من كتب "إن كان أمل العشّاق القرب، أنا أملي في حبّك هو الحب". ويبدو أن الرجل كان دائماً في حالة حيرة وصراع بين طاقة حب هائلة، وطاقة رفض ونفور من السلطة وأتباعها، وقد تجلّت هذه الحالة حينما فاض به الكيل وقت القبض عليه من بيته أمام زوجته في يومهم الأول للزواج وكتب قصيدته "بلدي وحبيبتي"، القصيدة التي سارت علي خطّين متوازيين أحدهما سياسي والآخر عاطفي، لتبدأ ب"الغرام في الدم سارح، والهوي طارح معزّة"، مروراً ب "النهاردة يا ملاكي جُم زاروني جوز تنابلة ونص دستة من التيران"، نهاية ب "أصله شاف صورتين جُمال في العيون الطيّبين، مصر في العين الشمال وانتي في العين اليمين". القصيدة التي تحمل من طاقة الحب ما جعلها بداية لقصة حب حين ألقيتها أمام تلك الجميلة التي قابلتها صدفة وأحببتها صدفة علي كلمات هذا الرجل، ومن المؤكد أنها ليست القصة الوحيدة التي بدأت بهذه الطريقة علي هذه الكلمات، فما بيني وبين هذا الرجل ليس فقط صداقة أو تلمذة، فما لا يعرفه هو أنني مدينٌ له بقصة حب رائعة. قابلت "نجم" للمرّة الأولي قبل قيام الثورة، قابلته في محراب الثقافة والفن الذي أصبح فيما بعد بيت الثورة المصرية، دار "ميريت" للنشر وفي حضرة الأب الروحي لمثقّفي وفنّاني جيلي "محمد هاشم"، تحدثنا عن كل شيء، عن الموسيقي والسياسة والوطن، عن ثورة قادمة، وعن وطن مسروق، عن حلم قرر نجم أن يحيا ليراه، وعن شباب لا يطيق صبراً ليري لحياته معني. ودار بيننا حديث جانبيّ عن المرأة، عن مواطن جمالها، عن لمستها التي تضيف دائماً الجديد والجميل للأشياء. حدّثني نجم عن المرأة الشرقية التي أسماها "مريم"، قال إن كل مرأة في الشرق تحمل بداخلها "مريم" تلك الفتاة التي فوجئت في عز شبابها بأنها تحمل علي يديها طفلاُ مطارداً من الجميع، فحمته بمنتهي القوّة، وحضنته بمنتهي الحب، وتوجّهت به إلي مصر بمنتهي الذكاء. قال نجم فيما قال أنه يكاد يري في عين كل امرأة فلسطينية لمعة "مريم" التي تدرك أن الحل في مصر، والأمان في مصر، والخلاص في قلب ابنها يبدأ من مصر. الكلمات السابقة ربّما هي أكثر كلمات حفظتها وأتذكرها جيداً بنبرة الصوت نفسه ولا أعتقد أنها قابلة للنسيان، ولم يسمعها غيري يومها. وبعد قيام الثورة ونجاح موجتها الأولي في إزاحة نظام مبارك والحزب الوطني، كتب نجم عدة مقالات وتحدث فيها عن جيل من الشعراء قد تسلّم الراية ومضي نحو الحلم ليستكمل تحقيقه، وقد جاء ذكري في مقالين منهم في إعلان منه عن منحه الحلم لجيل جديد ربما رأي فيه ما يمكّنه من استكمال المسيرة، وكانت هذه جائزتي التي تذكّرتها قبل أن أكتب شهادتي. في قصيدته بعنوان "الليل ملّاح" يمكنك أن تري نجم الذي لا تعرفه، بعيداً عن الشغب والصخب والسياسة والمقاومة والشد والجذب، يمكنك فيها أن تعلم الكثير عن ما بداخله من ألم وصراع وبهجة وحزن وخوف وتعاطف من خلال مشاهد يعلن من خلالها خلاصة رؤيته لحياته الحافلة حين يقول : هتقوللي بتشكي أومّال من إيه؟ ولا من أوجاع ولا شوق لمتاع ده انا عمري ان ضاع مش هبكي عليه أبداً يا طبيب" هذا هو نجم لمن لا يعرفه، هذا هو "أبو النجوم" الشقي الحالم المشاغب سليط اللسان، وهذا هو ما يفكّر فيه قبل أن يخلد إلي النوم ليصفّي حساباته مع الأيام ومع نفسه.