"يعني إنت عايز تقول إيه يا هاني؟!".... لا أعرف كم مرة رددت هذه العبارة علي مسامع هاني درويش أو في سرّي بعد الانتهاء من قراءة أحد مقالاته أو في خضم أحد جدالاتنا التي لم تخف حدتها أبداً. كانت لغة مقالاته السياسية -والتي شغلت حيزاً معتبراً من كتابته منذ اندلاع الثورة في يناير 2011- عصية عليّ إلي حد كبير. كان المعني يراوغني دائماً وتبدو الأفكار علي درجة من الغموض أعجز عن تقبلها. كنت أعتقد أن هاني يبحث عن فكرة ما تراوغه بدورها وأن مقالاته الأشبه بالمتاهة والتي يغيب عنها الشكل الخطي التقليدي من مقدمة ومركز وخاتمة هي عَرَض علي هذا التشوش. إلا أنني في الشهور الأخيرة، وبعد أن خابت كل رهاناتنا السياسية والحزبية التي انحزنا لها منذ رحيل مبارك، بدأت أقرأ هاني بعين مختلفة وأكتشف شيئاً طليعياً في كتابته. كوّنت فكرة كنت أنوي أن أقترحها عليه قبل أن يداهمه الوقت بهذا الشكل... هاني لم يترك باحثاً أو مراقباً أو كاتب مقال معاصر إلا وشاكسه بشكل أو بآخر. فبخلاف القائمة المألوفة من الكتاب والمعلقين الإسلاميين وخبراء النظام السابق من الليبراليين الجدد والقدامي ونقاده الرسميين من اليسار القومي، اتسعت "دائرة الاشتباه" لتشمل رفاقه القدامي في منظمة الاشتراكيين الثوريين وانشقاقاتهم المختلفة، وعلي رأسها "تيار التجديد الاشتراكي". ثم في مرحلة لاحقة بدأ هاني نقد الرفاق الأقرب فكرياً وإنسانياً من المنتمين إلي ما يعرف بتيار اليسار الديمقراطي ذ وهي المشاكسات التي طالني من رذاذها الكثير. كذلك طالت قائمة القضايا التي تعرض لها، فمن نقد علمانية تحالف الكتلة المصرية الانتخابي في 2011 إلي نقد نقدها اليساري في تحالف "الثورة مستمرة"، ومن نقد "الإصدار الثاني" للكتلة المصرية متمثلاً في جبهة الانقاذ إلي نقد لاذع لمحاولات تجاوزها في صيغة "جبهة استمرار الثورة"، والتي رأي فيها باباً دواراً يسمح بتسويق الإخوان مرة أخري للقوي الديمقراطية ومن نقد التجارب الحزبية الجديدة لليسار إلي نقد حاد لانشقاقاتها، هذا بخلاف معركته الكبري حول انحياز بعض من رموز القوي الديمقراطية لخيار التصويت لعبد المنعم أبو الفتوح في انتخابات الرئاسة، علي الرغم من عدم اعجابه بالبرادعي المفتقر للحسم أو العسكر أو حمدين ذو النبرة القومية والمهادنة نوعاً ما لحكم المجلس العسكري خلال تلك الفترة. وفي كل مطارحة تعلو النبرة وتحتد اللغة وتنسل العبارات من العبارات لتغزل متاهات هاني ومُطوّلاته تاركة محاوريه في حيرة دائمة والسؤال الواحد يتردد: "يعني انت عايز تقول إيه يا هاني؟!". مشكلة هاني، كما بدأت أفهمها بوضوح، لم تكن مع فكرة بعينها أو تحليل محدد بقدر ما كانت مع "برودة" هذه التحليلات كلها و "عقلانيتها" ومع الصوت "الرشيد" و "الخبير" الذي تتحدث به حتي ولو كانت تدعو الناس لأقصي درجات التخريب مثلاً فهي كانت تدعوهم لذلك باعتبار هذا التخريب "موقفاً صحيحاً" من نوع ما. كانت مشكلة هاني هي تحديداً مع هذا "الموقف الصحيح". أو بالأحري، هي كانت مشكلة مع البنية التحتية للغة الكتابة السياسية الحديثة بشكل عام، أي تحول الكتابة لفعل رديف مشتق من استدلال عقلي ما أو تحويل الكتابة لمجرد وسيط لهذا الاستدلال في حين يتم دفع كل ما هو دون هذا الاستدلال من حدس ومشاعر باطنية أو حسية مختلفة إلي دائرة الشعر أو الأدب. الكتابة السياسية الحديثة والحال كذلك هي فعل يحدث عبر الزمن بكل ما يستدعيه ذلك من طلاق مع الاستجابة الحسية أو الحدسية الأولي والمباشرة. يبدو أن هاني كان يري في هذا التحول بداية تفريغ للكتابة السياسية من أي مضمون تحرري أو ثوري حتي لو رطنت هذه الكتابة بأعلي الرطانات ثوريةً. بمعني أن الكتابة السياسية تتحول في صيغتها الحداثية من فعل يسعي لفتح زاوية رؤية جديدة أو خبرة جديدة أو إحساس جديد بحدث جاري إلي مجرد منشورات مختلفة الأشكال تلتقي كلها علي اختيار منظور واحد وغلق الأفق أمام أي مناظير أخري. فكانت حرب هاني باختصار علي افتقار هذه الكتابة للحرارة. ومن ثم اختار خصومه بعناية ذأو ربما بشكل لا واع- فكان كلهم خبراء من نوع ما: مؤرخون أو أساتذة علوم سياسية... خبراء في الإسلام السياسي أو اقتصاديين كبار وهكذا... الخيط الناظم لكل مطارحاته مع هؤلاء الخبراء كان تحديداً هجومه المفرط علي عقلانية أطروحاتهم وليس علي لا عقلانيتها أو مفارقتها للواقع. فكان نقده نقداً معكوساً، أي محاكمة دائمة لرغبة الخبراء في قول شيء ما عاقل وليس محاكمة هذه "الأطروحات العاقلة" من باب مدي صلاحيتها للتنفيذ من عدمه. هاني كان رجل طوباوي إذن؟ بالقطع لا... الطوباوية نفسها هي التجلي الأمثل لنمط الهندسة الذهنية، والذي يحتل بالنسبة لهاني مقام الشيطان الأعظم. هاني كان رجلاً حسيّاً إلي أبعد مدي، لا يسعي لتجاوز الواقع بحثاً عن أي خلاص. والانغماس في هذا العالم الحسي كان مميزاً لنمط حياته دونما انحطاط أخلاقي (وهذه مسألة أخري قد نتحدث فيها لاحقاً). هل كان هاني شعبوياً إذن؟ الإجابة كذلك هي بالنفي. فعلي الرغم من أن هذا الانطباع قد ينتقل للقارئ، إلا أن هاني لم يكن يحيل لأي Common Sense شعبي طبيعي لا ينتظر إلا تلقفه وتفعيله من قبل الكاتب. بالعكس، دائماً ما كان ينفر من هذه الفكرة وربما كان هذا النفور هو السبب في حساسيته المفرطة تجاه كتاب اليسار القومي. هل كان هاني تفكيكياً إذن؟ بمعني هل كان هاني يسعي للحفر في المفاهيم السياسية بحثاً عن تناقضاتها المؤسسة واستحالة حلها؟ إجابتي هي أيضاً بالنفي. فعلي الرغم من النزوع الجينيالوجي الذي استحضره هاني لمقالاته السياسية من مجال النقد الأدبي، إلا أنه كان دائماً نافذ الصبر لا يطيق العمل الدؤوب الذي يقتضيه البحث الجينيالوجي المعمق ويبدو كما لو كان مهتماً بالقبض علي رد الفعل الحسي الأول تجاه حدث ما حتي ولو أتي ذلك علي حساب بحثه الجينيالوجي. محاولة هاني في النهاية، وببساطة، كانت لنقل هذه الحسيّة المفرطة إلي عالم الكتابة السياسية لتثير فيها الاضطراب علي النحو الذي يبرز "سخافتها" الكامنة. كان هاني يبحث كيف يكتب "الشخرة" عند مواجهة مفارقات انتهازيي الثورة التي لا تنتهي، أو "الأحّه" عند مواجهة هزيمة جديدة لما ظننا أنها لحظة ثورية فارقة، أو "الزفرة" في مواجهة ملل لغة السياسيين المعتادة و "صرخة التأوه" الي قد تنطلق عند رؤية وجه مراهق منفجر من رصاصة الخرطوش... وغيرها الكثير. حاول هاني أن يجد مكاناً لكل ذلك في المقال الصحفي لتتحول الكتابة السياسية لكرنفال للحواس، مثلها مثل الثورة بالمناسبة، بدلاً من أن تتحول لنسق قمعي للحواس. وما أراد هاني قوله أن هذا النسق القمعي -والذي يجب فضاء الرؤية الواسع كما سبق الذكر - مآله دائماً إلي الفشل خصوصاً في زمن هذا الكرنفال الثوري/الحسي، عندما يجب أن تكون الفكرة مشتقة من الحدس والحس -لا من الاستدلال العقلي- حتي تدرك الأفق الذي يفتحه الحدث الثوري. هاني سعي أن يكون محامياً "للدم الحامي" إذن وأن يؤسس لكتابة "وحشية" إن جاز التعبير. ولهذا عدت إليه عندما فشلت كل رهاناتنا التي بنيناها عبر استدلالاتنا العقلية، بدءاً من رهاننا علي أبو الفتوح وحتي تجربتنا الحزبية اليسارية.. هاني بهذا المعني كان طليعياً بغض النظر عن حظه من النجاح أو الفشل في محاولته الطليعية تلك (ماذا يعني النجاح والفشل علي أي حال عند تقييم محاولة كهذه؟!). وشخصياً أعتقد أن محاولة الانتصار للحسية تلك قد أنهكته كثيراً. سرعة الاستجابة بالكتابة لكل طارئ حسيّ دونما انتظار للوقت الكافي لاشتغال الاستدلال العقلي ليست مسألة سهلة. وبالتالي، كيف يمكن أن يكون الوقت كريماً مع من لا يحترمه بهذا الشكل؟!... علي الأرجح توقف قلب هاني وهو يجهده بحثاً عن كلمة جديدة لا تعرفها العربية تصف لنا ضيق حرّ يوليو القاهري المقرون بإحباطات "المشهد السياسي الراهن". موت هاني والحال كذلك لا يبعث في نفسي الحزن بقدر ما يبعث الغضب. يموت هاني ولا يبقي علي وجه هذه الأرض إلا "شرّ الدواب" وفقاً للتعبير القرآني... "اللي بيخافوا علي صحتهم"... "الباردين"... "أصحاب الجلد السميك"... باختصار كل من يتحلي بالسماجة الكافية التي تجعله ضيفاً دائماً علي برامج التوك شو. أشعر أنهم قد قتلوك يا هاني... قتلوك بمجرد وجودهم علي قيد الحياة! أعذرني يا صديقي... ليس لدي الشجاعة أو الحرارة الكافية لمواصلة مشروع "كتابتك الوحشية". ولكني أعدك، علي المستوي الشخصي علي الأقل، أن أنتقم لك ممن قتلوك بإغراقي في الحسية منذ اليوم... إغراقاً في الحسية يليق بالزمن الثوري الذي نحياه ويكيد أعدائك يا صديقي... إغراقاً في الحسية علي النحو الذي يُعجّل بلقائنا!