مع سعيد الكفراوى ومحيى اللاذقانى هذه رسائل منسية. كتبها إبراهيم أصلان إلي صديقه كاتب القصة محمد حافظ رجب صاحب الصرخة الشهيرة لجيل الستينيات " نحن جيل بلا أساتذة". ليست الرسائل هنا اعترافات " خارجة عن الحياء" وإنما " وثيقة أدبية" تضيء عالم الإبداع لدي المبدعين. هي ليست " أوراقاً شخصية" لا يجوز هتك حرمتها ، بل " كتابة حميمية" بلا أقنعة، تسرب بعض الضوء عن طبيعة الثقافة في حقبة أدبية أو فنية معينة. كل الرسائل قادمة من القاهرة .. إلي الإسكندرية، من "إمبابة" حيث يقيم أصلان إلي " ورديان " حيث يقيم حافظ رجب صاحب " الكرة ورأس الرجل". " الصدفة" وحدها قادتني إلي الحصول علي هذه الرسائل. كنت في زيارة إلي منزل محمد حافظ رجب في الإسكندرية، قضينا يوماً كاملاً نتحدث في شجون الأدب والإبداع، ... وفي نهاية الزيارة ناولني ملفا كاملا يتضمن رسائل بعض أصدقائه، ورسائل كتبها هو لآخرين. وكان من ضمنها هذه الرسائل الأربع من صاحب " خلوة الغلبان". عندما أخبرت أصلان بأمرها قال بلهجته المميزة: يا راجل بجد؟!. وعندما قرأنا الرسائل سويا قال بلهجته الساخرة ضاحكاً: " مكنتش أتصور إني أكتب كلاما بهذه الرصانة". ثلاث من الرسائل الأربع كتبها أصلان في 1966 أي قبل خمس سنوات من صدور مجموعته الأولي " بحيرة المساء" ..وقبل هزيمة 67 التي كان لها التأثير الأكبر في حسم اختيارات هذه الجيل، وبعد عام واحد من حسم أصلان اختياره بكتابة القصة القصيرة بعد أن ظل يكتب في المسرح ونشر عددا من المسرحيات في مجلة "الثقافة" وقتها. واحدة فقط من هذه الرسائل كتبها عام 1969 ، بعد أن تم تدشينه ككاتب، وتخصيص عدد من مجلة " جاليري 68" الشهيرة لنشر قصصه وعدد من الدراسات حولها. كان أصلان قد التقي حافظ رجب في بداية الستينيات، بصحبة كاتب القصة ضياء الشرقاوي .. عندما التقيا قال لهما رجب: " أنتم لسه بتكتبوا القصص الواقعية بتاعتكم دي؟". ابتسم الشرقاوي وقال:" نعم". فبادره رجب قائلاً: " دا احنا عملنا مدرسة جديدة في القصة..ودلوقتي قاعدين فوق وعمالين نطرطر عليكم وأنتم قاعدين تحت". انصرف ضياء الشرقاوي وظل حافظ مع أصلان ..ومن يومها لم يفترقا كصديقين. رغم رؤية كل منهما المختلفة للكتابة تصادقا لأن أصلان ينسج علاقتها ليس علي علاقات التشابه أو الاختلاف في عملية الكتابة: " تقوم علاقتي بالناس علي أساس إنساني"، ويعلي أصلان " رهافة الإحساس " قبل أي شيء في علاقاته ..ورجب كان " رهيف الاحساس..وموهوب موهبة حقيقية". منذ اللقاء الأول بينهما اكتشف أصلان أن رجب " يتسم بقدر هائل من البراءة، مثل الأطفال، ويعتمد شأن كل موهبة حقيقية علي حدسة الداخلي في التعامل مع الدنيا والناس وصاحب هذه السمات يكون مؤهلا لأن تكون ردود أفعاله تجاه أذي الناس والمجتمع أكثر عنفا، ويمكن أن تزلزل هذه الأفعال كيانه بشدة". ربما، كما يري أصلان، لا يشعر أبناء مدينة مثل القاهرة بمثل هذا الأذي، الذي قد لا يكون متعمداً ، وإنما يبدو وكأنه ممارسات عادية تماما. القاهرة مختلفة عن الإسكندريةالمدينة التي جاء منها رجب، كما أن حساسية رجب وبراءته لم تحمه من عنف المدينة. يحكي أصلان: " عندما ترسل قميصك للمكوجي، وتنتظر أن ينتهي منه لأنك لا تمتلك سواه لتذهب به إلي العمل ، بينما يلقي المكوجي بالقميص جانباً لانشغالات أخري لديه، أو ينساه ..فهذا موقف عادي بسيط ,ولكن بالنسبة لشخصية مثل رجب يكون له مردود متعب جدا أو مؤذ. الأذي يتأتي من كونك ترتب تصورات علي تصرف المكوجي ..فما بالك لمن يتعرض إلي ما هو أكبر من حكاية القمصان؟!". عندما جاء حافظ إلي القاهرة كانت لديه تصورات بأن المدينة في انتظاره، ولعب اليسار دوراً كبيراً في التمهيد لمجيئه، كثير من الجرائد كانت تكتب عن " بائع اللب الذي يكتب قصصاً باهرة" .. استدعاه يوسف السباعي أكبر سلطة ثقافية في ذلك الوقت ليعمل في المجلس الأعلي للثقافة والفنون ، ولكن تصورات حافظ كانت أكبر مما قدمته المدينة :" تصور ، لم يتجاوز مرتبه 12 جنيهاً، وكان يسكن علي سطح عمارة قديمة بحي العجوزة، كان أصحاب العمارات قد خصصوا لكل شقة حجرة للغسيل ، إلا أن هؤلاء السكان قاموا بتأجيرها وسكن هو واحدة منها، لم تتجاوز مساحة الحجرة متراً واحداً في مترين، وهي نفس مساحة السرير المعدني الذي وضعه بداخلها..". أسأل أصلان: هل لهذه الأسباب عاد حافظ إلي الإسكندرية؟ يصمت قليلا قبل أن يجيب:" أظن أننا _ كمبدعين- عصابيون علي نحو أو آخر، والعصاب ليس مرضاً نفسياً ولكن ثمة خلل ينشأ بينك وبين المجتمع الذي تعيش فيه ..وهذا أحد دوافع الكتابة..أن تخلق عالماً بديلاً للعالم الذي لا تستطيع أن تتواءم معه ..ولهذا كان حافظ يعود إلي الإسكندرية مرات كثيرة، ولكنه يقرر العودة مرة أخري إلي القاهرة ..وهكذا حتي استقر نهائيا في الإسكندرية". يصمت أصلان: "ما أعاننا علي الاستمرار أننا كنا أقل طيبة من حافظ ، وأكثر قسوة". يعشق أصلان القصص الواقعية التي بدأ بها حافظ مشروعه الأدبي، وربما كل هذه الظروف التي أحاطت به هي التي جعلت أعماله تأخذ هذا المنحي السريالي .." ولكن أصلان لا يجد أسبابا تفسر توقف حافظ عن الكتابة :" هناك كتاب ينمون في الغرفة ، وآخرون يعتمدون علي مصادر تجربتهم الحياتية ويظلون حريصين عليها ..هذه التجربة تنمو وتتطور والكاتب ينمو ويتطور معها ..هذا أمر مهم جداً، أن تكون يقظاً لمصادر تجربتك ولا تنفصل عنها لسبب أو آخر". أصلان لا يتصور أن رجب قد حافظ علي مصادر تجربته وفضل العزلة إلي حد ما ..". ربما لا تكون هذه الرسائل هي كل ما أرسل أصلان إلي صديقه، وإنما " فقط ما احتفظ به رجب" ولكن رغم قلة الرسائل إلا أنها تكشف الجو الأدبي السائد في ذلك الوقت، أيضاً ذلك التكوين المدهش لأحد كتاب الستينيات. فيها تبدو ملامح أسلوب أصلان واضحة ... هذه الكثافة التي تنتهي بسخرية حادة .. يكتب أصلان شارحا لحافظ كيف يمكنه أن يرسل أحد أصدقائه ليتلقي بدلاً منه مكافأة نشر قصة :" ويجب عليك (إذا ما أردت أن تحصل عليها "المكافأة" أن تفعل الآتي: كتابة توكيل، ويتوجّه حامل التوكيل إلي المجلة حيث يقوم يحيي حقي باعتماده، وعلي هذا يمكنه تسّلم الشيك ثم يقوم بتظهير الشيك. أي كتابة اسمك علي ظهره (باعتبار أنك الذي ظهرتّه يعني)، والتوجه به إلي بنك القاهرة ويتسلم المكافأة. ثم يقوم هو بتبديدها.). وعندما يتحدث عن نشر إحدي قصص أحد أصدقائه الكتاب:" أما قصة أحمد هاشم الشريف فقد قال لي هو أن عبد المعطي حجازي هو الذي قام بنشرها وقال لي صبري حافظ إنه نجيب محفوظ، وقال آخرون إنه لويس عوض، ولا أستبعد أن نسمع في الأيام القادمة أن الذي قام بذلك هو "هوش منه" الفيتناميّ الشهير". هذه السخرية سمة أساسية في كتابة أصلان القصصية لم يتخل عنها منذ أن بدأ الكتابة وإن كان فقط قام بالعمل علي تطويرها. الأمر الأكثر أهمية في هذه الرسائل أن أصلان يحدد موقف منذ البداية من الكتابة ، قبل أن يُصدر حتي أي من أعماله، كان يري أن هناك كتابة " طليعية" وأخري " رديئة" ..لا وسط، إما ان يكون هناك فن أولا فن وبالتالي تصبح كتابة جيله يحيي الطاهر عبد الله، ومحمد البساطي« ، وحافظ رجب نفسه - هي الكتابات الطليعية ، أما كتابات عبد الحليم عبد الله أو فاروق منيب وآخرين ..هي الكتابة الرديئة. لا تهاون في هذا الموقف .إذن لم يستجب أصلان للإغراءات التي يمكن أن تقدمها الكتابة السهلة ، الواسعة الانتشار، لم يسع إلي الشهرة ولا المال، ولا بحث عن كتابة تدغدغ المشاعر ..استجاب فقط لحدسه ..وأظن أنه كسب الرهان. الأمر الأهم الذي تسلط هذه الرسائل الضوء عليه هو كيف أخذ أصلان نفسه بشدة من أجل الكتابة ..كيف أستطاع أن يكوّن نفسه بنفسه؟ يقرأ 12 ساعة يومياً، في مجالات مختلفة، تتكرر أسماء رواية مثل دونكيخوته لثيرفانتس، أو " العالم 1984 لجورج أورويل ، وكتب عن الحرب العالمية الثانية مثل " الانهيار التام" للكاتب الإيطالي كورزيو مالابارته؛ وهو الكتاب الذي قام بترجمته فريد كامل. كما تكشف هذه الرسائل معاناة هذا الجيل مع النشر في المجلات المختلفة التي كانت تريد أن تقف ضد الاتجاهات الطليعية في الأدب .. ولكن اليأس لم يتسرب إلي أبناء الجيل ، بل _ كما يقول أصلان- " لنستعرض سوياً المجلات التي يمكن أن نغزوها". في الرسائل ثمة إشارات إلي بعض الحكايات التي لا يتذّكرها أصلان الآن.. نكتشف أن غالي شكري كان يكتب كثيراً باسمه الحركي أحمد رشدي حسين ، وأنه كتب مقالاً بعنوان "الطاحونة" تسبب في رحيل الناقد أنور المعداوي أو قتله .. لا يتذكر أصلان أي شيء يتعلق بتلك القصة ..ويعتقد أنها ربما كانت "فرية" أو " شائعة " .. لأن المعداوي كان يعاني من الكثير من الأمراض. كما أن ناقداً مثل رجاء النقاش ارتبط بصداقة طويلة وقوية مع المعداوي لا يذكر مثل هذه القصة في كتابه " بين المعداوي وفدوي طوقان: صفحات مجهولة في الأدب العربي". في الرسائل يشير أصلان إلي رسالة بعثها إليه الكاتب ضياء الشرقاوي (1938 1977)، والشرقاوي هو أحد كتاب الستينيات وصاحب المجموعات القصصية " بيت في الريح""سقوط رجل جاد": "رحلة في قطار" و"كل يوم قصة" ورواية بعنوان "الحديقة". يتذكر أصلان أن الرسالة كانت تتضمن طلباً غريباً من الشرقاوي ( أنا أقدرك جداً، ولكن لا أريد أن أراك مرة أخري ). كان الشرقاوي قد أعار أصلان نسخة من أعمال شكسبير، التي ترجمتها الإدارة الثقافية لجامعة الدول العربية بإشراف الدكتور طه حسين ، ثم عاد وطلب استردادها ثم أرسل الخطاب مع صديق مشترك. لم يكن الأمر مفسرا وقتها، ولكن يفسر أصلان الأمر بأن الشرقاوي كان دائما ما يتهمه بأنه "شكلاني وجمالي وغير ناضج سياسياً" ويدعوه دائماً إلي التركيز علي السياسة في كتاباته وهو ما رفضه أصلان..ولكن بعد فترة كانت الأمور قد بدأت تتضح ..إذ حدثت القسمة بين اتجاهين " إما أن تكون مع يوسف السباعي جنرال الثقافة أو ضده.. " اختار ضياء الشرقاوي أن ينضم إلي " الجنرال" في حربه ضد المثقفين...وظهرت القسمة قوية مع تأسيس اتحاد الكتاب إذا رفض أصلان وعدد كبير من المثقفين " فكرة الانتخاب بالتوكيل" وكانت المفاجأة موافقة ضياء علي الانتخابات بالتوكيل... يعلق أصلان علي القصة: " ربما من هنا كان ضياء لا يريد أحدا يذكّره بماضيه الثوري .."! الرسائل تكشف الكثير .. وتقول الكثير! لا.. إنها ليست مجرد رسائل. إنها " أحزان " مالك الحزين .... " أحزان مضحكة ولكنها أعمق من أن تشفيها أيه إجابات عابرة.