تعرفت إلي نجيب محفوظ في السينما قبل أن تتيح لي الظروف أن أتعرف إليه شخصياً. شاهدت في سينما مصر بالزقازيق - حيث كنت أقيم - وبالقاهرة، عندما أنزل ضيفة علي جدي في بيته بالقلعة، أو وقت ما بين المحاضرات في كلية دار العلوم. لعل الصورة التي قدمها حسن الإمام عن نجيب محفوظ تختلف عن الصورة التي قدمها مخرجون آخرون، بدا لي في أفلام الإمام واحداً من المترددين علي محال بيع الآلات الموسيقية بشارع محمد علي المفضي إلي بيت أعمامي بسكة المناصرة، وربما رأيته في قهوة التجارة يجالس رواده من المبدعين. ميزت من بينهم أستاذنا يحيي حقي ومحرم فؤاد وشفيق جلال ومحمود شكوكو ومحمد رشدي وحسن أتلة وغيرهم. بين القصرين وقصر الشوق من إخراج الإمام يختلفان - علي سبيل المثال - عن بداية ونهاية من إخراج صلاح أبو سيف والسراب من إخراج أنور الشناوي. في أفلام الإمام رقصات فردية وجماعية تملأ الشاشة بالأغنيات والموسيقي، يتخللها أداء تمثيلي لا يقل سخونة عنها. أما الأفلام الأخري فقد حاولت أن تنقل إلي المتلقي جوانب من عالم محفوظ. أعتقد أن النجاح الذي حققته علي مستوي النقد والإقبال الجماهيري كان هو الدافع لأن تنتج السينما المكسيكية فيلمي بداية ونهاية وزقاق المدق، وهو الفيلم الذي قدمه الإمام بفنية مغايرة. سبقت مشاهدتي الأفلام المأخوذة عن أعمال محفوظ قراءتي لهذه الأعمال. وظلت أمنيتي أن ألتقي الفنان الذي تهب رواياته وقصصه قدرة علي التخيل تفوق ما تملكه السينما من إبداع جماعة الفنانين والفنيين. أعجبت بأداء شادية لدور حميدة في زقاق المدق، لكن حميدة التي قرأتها في الزقاق، تختلف تماماً عن حميدة الفيلم. شادية، معبودة الجماهير التي أضاف الماكيير إلي حسنها الخلاب، تختلف تماماً عن حميدة بشعرها الأكرت وصوتها الرجالي والقبقاب في قدميها وقذارتها وتعبيراتها النابية. الأمر نفسه بالنسبة لياسين الذي يصعب تخيله في أداء عبد المنعم إبراهيم للشخصية. أشفقت علي نفيسة - في بداية ونهاية - من النهاية المؤلمة. بكيت - بحرقة - عندما ألقت بنفسها في مياه النيل, في الوقت ذاته أحببت سناء جميل, وتأكد هذا الحب بعد دورها في فيلم الزوجة الثانية. تمنيت أن ألتقي نجيب محفوظ. تصورت أن اشتغالي بالنقد سيتيح لي هذه الفرصة التي اعتبرتها في مقدمة أمنياتي. ولم يكن ذلك سهلاً - عقب فوز محفوظ بجائزة نوبل - إلا من خلال جماعة. صار أستاذنا - كما صرح في أكثر من مناسبة - موظفاً عند نوبل. واستكنت إلي مشاعر الحرج، فلا أضيف إلي الصخب الذي جعل بيته شوارع، والتعبير له في حوار صحفي. ثم التقيت محفوظ في ظرف لم أتوقعه، ولا كان في بالي. كلفني ناشره سعيد السحار أن أعد كتاباً عن الأدباء الذين تعاملت معهم مكتبة مصر. واستأذن زوجي - بحكم توثق العلاقة بين محفوظ وبينه - أن ألتقي سيد الرواية العربية. زرته في بيته، ولابد أن فرحتي بالمناسبة الغالية قد انعكست في ارتباك كلماتي وتصرفاتي، بما انعكس إشفاقاً علي السيدة الفاضلة زوجته. قدمت لي كوب عصير جوافة، وطلبت أن أفاضل بين حبات البونبوني في الوعاء الفضي. أخذنا الكلام. أسأل، وأسجل ردود نجيب محفوظ علي مسجلي الصغير. أذكر من أسئلتي ما يتصل بعملية تحويل أعماله إلي أفلام: لماذا لقيت الأفلام التي كتب لها السيناريو عن أعمال أدباء آخرين، إعجاباً والتفاتاً نقدياً، بينما لم يصادف النجاح نفسه ما قدمته السينما من أفلام مأخوذة عن أعمال محفوظ؟ قال لي نجيب محفوظ: في الأفلام المأخوذة عن أعمال مبدعين زملاء، اقتصر دوري علي كتابة السيناريو. حاولت أن أطبق حرفية كتابة السيناريو كما تعلمتها، وبقدر ما أسعفتني الموهبة. أما الأفلام المأخوذة عن أعمالي، فقد كتب لها السيناريو أساتذة في فنهم. كان عنوان موافقتي علي السيناريوهات التي قاموا بإعدادها، أني مسئول عن كتاباتي الروائية والقصصية، وهم مسئولون عن السيناريوهات التي قدمتها السينما. وسألته عن الفيلم الذي يعتبر أنه نجح في نقل عالمه الروائي؟ قال: أصارحك أني أفضل أن أقرأ المسرحيات بدلاً من أن أشاهدها علي المسرح. أثق أن خيال المتلقي أشد خصوبة وقدرة علي التخيل من تجسيد الأعمال بأخيلة الآخرين. وأنا أتهيأ للانصراف، فاجأتني السيدة عطية الله بالقول: لم تستعملي عدستك. وأشارت إلي الكاميرا التي تكورت راحتي عليها. قلت: أعددت نفسي لصورة مع الأستاذ نجيب. قالت ببساطة: أجيد التصوير. وأخذت الكاميرا، والتقطت صوراً تؤكد تحقق حلم حياتي. وسلمت، وانصرفت.