د. عزة بدر بجواره النائمون علي طاولة الليل، يطوون أذرعتهم تحت رءوسهم كوسائد صغيرة، بجواره الشحاذون الذين لم يبسطوا أيديهم بعد، والبائعون الذين لم يفكوا أكياس بضائعهم ليفترشوا بها الأرصفة، بجواره تنام النخيلات وتصحو.. والتماثيل تترك قواعدها الرخامية وتتمشي في صبر إلي جواره. المآذن عالية ترنو إليه في صمت تترك لصوته الهادر تلك السويعة من الصباح الباكر، الصيادون يرمون صناراتهم وينتظرون بصبر يتلبثون حتي تأكل السمكات طعمتها ويرفعون خساراتهم فارغة ويبتسمون، في هذه السويعة من الصباح أبتسم لأن صاحب الدراجة لن يتبعني علي طول الشاطيء في غدوي ورواحي فلقد بدلت مواعيدي مع البحر، تركت له الليل واخترت هذه السويعة من الصباح.. مضيت إلي الجسر لا أعرف هل بي حاجة إلي أن أعبره؟!.. مقاعد «الكازينو» خالية من روادها، تمد أيديها وأرجلها في ماء البحر، تنشر أشرعتها من قلع المراكب وتحتسي قهوتها في صمت، الشبابيك الزرقاء تغني لملاحين بسواعد سمراء فتية.. ينزلون بسيقانهم القوية ويغرسونها في البحر كالأوتاد. لن يطاردني رجل الدراجة مدمدما بما لا أعرف، لن يأخذ خلفي دورة زمنية كاملة وأنا أدس يدي في فواكه البحر.. وأضع أناملي في فم «أم الخلول» وأمس شفتا «البكلويز» فيخرج لسانه للرمل فأبتسم. لي هذه السويعة من البحر.. يا صاحبي ومالك أمري خرجت إليك من قماقمي، أزلت الرصاص بأظافري حتي ترضي، من أجل هذه الوشوشة خرجت إليك عارية من كل شر، هاربة من كل ضر، حاملة صدفتي أضعها في الليل علي أذني لأسمع صوتك وأهمس لك أخفيتها تحت وسادتي فجذبها زوجي ليسمع ما تقول لي.. قام من فوره إلي المطبخ وأتي بكوب زجاجي قال: ضعيه علي أذنيك ستسمعين أيضا وشوشة البحر.. لاتخرجي إليه!، وقال أخي: لما كل هذه المواعيد مع البحر، يدفن الناس أنفسهم في التوابيت، يغلقون علي أنفسهم بشرائط الرصاص والقصدير حتي يتسني لهم الموت في دعة. تداهمني رائحة الكحول الأحمر علي ظهر أبي، ورائحة الكولونيا التي ينعشون بها الغائبين عن الدنيا، يهمس أبي في غيبوبته. - لا بحر.. لا موج.. لازبد، لا إنس.. لا جن.. لا وجود لشيء لا النوم نوم ولا الموت موت ولا الحياة حياة!.. دروشات أمي ومسابحها الطويلة تمتد علي غلاف القشرة الأرضية تخفف الكون كحبة جوز ترفض دائما أن أكسرها علي جبهتي فينشال عليّ لبنها الصافي الحلو.. تغطيها في الشمس بأوراق الخس وتهمس في وجل: يا عالم.. نحن هنا اليوم.. وغداً أين؟! لاتخرجي إلي البحر.. لاتمشي بجواره الرجل صاحب الدراجة جن من البحر إذا أخذك أمامه علي الدراجة فلن تفلتي أبداً.. سيشق بك البحر، سيمشي بك علي وجه الماء، ستنغرس عجلتا الدراجة في العمق، لن تخرجي أبداً من أسر الآسر ولا من قيد العبد. - ولكني خاتلت الرجل.. اخترت هذه السويعة من الصباح، تركت له الليل، يضع صحبة من الورد الأحمر خلف أذنه اليمني، وعود فل خلف أذنه اليسري.. يصفر ويدمدم، تتناغم عضلات ساقيه مع دوران العجلات، يهمس بما لا أعرف.. لن يدركني الآن.. نائم هو، ونائمة دراجته في أحراش البحر. بجواره النائمون علي طاولة الليل، وسائدهم أذرعتهم، والشحاذون الذين لم يبسطوا أيديهم بعد، وباعة الجرائد الذين يدللون علي سلعة بائرة!، سطور ما بين السطور، عناوين كثيفة كاذبة عن فن الممكن، وفن المستحيل، كذبات مرقشة بيضاء وحمراء وصفراء وبرتقالية، كذبات تمد أيديها لتسرق البحر من بين أيدينا، تعبيء الموج في زجاجات، والهواء في زجاجات تبيع لنا كل شيء حتي الزبد! والشمس معلبة، والقمر في علبة سردين والليل في علبة تونة مستوردة!.. أمد يدي إلي هذا الكوب الزجاجي الذي يضعه زوجي علي أذني لأسمع صوت البحر فأكسره، أمد يدي إلي توابيت الليل فأفتح مغاليقها وأنهض الموتي، أمنح الصيادين ما يطعمهم ويطعم السمكات المرتعشة تحت الماء. - أطعموهن لوجه الله بلا أربة ولا غرض، السمكات حبيبات البحر اتركوهن في سلام يبتسمون ويبسطون أيديهم بالشباك لتخرج خاويات في سلام، أفتدي السمكات وأصعد عارية في الشبك.. يفاجئني وجوده، أرتعد لمرآه.. هو بعينه رجل الدراجة، صحبة الورد الأحمر خلف أذنه اليمني وفرع الفل خلف أذنه اليسري، يدمدم فأنصت إليه.. يهمس: - أنا أحب البحر فأهمس: وأنا أيضا! ينظر في ساعته، يضبط عينيه علي موعدي.. علي تلك السويعة من الصباح، يدوس بعجلات دراجته علي الكذبات الحمراء والخضراء والصفراء المدهونة بالعسل، يفتح علب التونة ويحرر الأقمار، يفتح علب السردين ويخرج الشمس من جديد إلي الأفق.. يتخطر علي دراجته، يمد يده نحوي فأمد يدي ننهض النائمين علي طاولة الليل، والشحاذين الذين لم يبسطوا أيديهم بعد، والغائبين في توابيت الليل والذين يقلبون أيديهم في شقاء: - يا عالم!.. نحن اليوم هنا وغداً أين؟.. ننهض الجميع لنعبر الجسر قبل أن نبلغه.