1 في أيامي الأخيرة, كنت بدأت أحبها بعدما عرفت المزيد من شوارعها ودروبها المعتمة وعمال المقاهي الصغيرة وعشاق الليل فيها, وهو الأمر الذي لاحظت أنه أدهش زملاء المكتب الذين أرجعوا ذلك الي كوني مصراوي. وأزال الكثير من تحفظهم القديم في علاقتهم بي, وبعد ما جري لسليمان أخبرتني دعاء أنه كان بذل جهدا عند جدتها فريدة حتي يرضوا بي ساكنا, لأن أحدا في المدينة لم يكن يقبل سكني العزاب إلا نادرا, كما علمت أن هذه الجدة لم تكن صماء تماما ولكن أحدا لم يكن بوسعه أن يعلم مدي صممها, وعندما أسهر عندها ليلا مع دعاء التي صارت صديقتي, كانت تسمع أشياء ولا تسمع أخري, لم يكن بوسعك أبدا أن تعرف حقيقة ما سمعت حتي لو تطلعت في عينيها, الأمر الذي كان يضفي علي السهرة جوا من الريبة والمرح. 2 كان موسي أقصر الزملاء قامة, وهو كان يتحرك بسرعة من هنا الي هناك, لم يكن يستقر أبدا في مكان, أنت تراه مقبلا ناحيتك ليعبرك بسرعة متجها الي الناحية الأخري, أو تراه وقد أتي من هذه الناحية الأخري ليمر بجوارك ذاهبا الي هناك, وفي أي وقت تراه لابد أن تكون في احدي يديه مجموعة من الرسائل أو قائمة مطوية, وفي اليد الأخري قلم مبري, وعندما كنا نلتم ثلاثة أو خمسة نتحدث ونحن واقفين في أي مكان, كان يتقدم بسرعة وينضم إلينا, يقف بيننا ويرفع وجهه يتابع الكلام بعينيه المنتبهتين ثم لايلبث أن يندفع فورا الي هذه الجهة أو تلك, وكان عبدالغفار يعبث بعلبة دخانه وهو يرمقه مبتسما بجانب عينه ويهمس: ما تشغلش بالك, هو كده. وكان موسي هذا هو الذي رأيته ينتظرني في حديقة المكتب, ظل حتي ركنت الدراجة واعترضني, وقف أمامي بعينيه شبه الملونتين, وقال: سليمان مارجعش. وأنا ابتسمت في وجهه ولم أفهم. قال: هو ما رجعش. وأشار بيده الي الحمار الواقف: لكن الحمار رجع. وتركني وأسرع يدخل المكتب. 3 لم يكن أحد يعرف لماذا عاد الحمار وسليمان لم يعد. البعض كان مشغولا بعمله والبعض لم يعر الأمر اهتماما وأنا لم أعرف إن كان هذا شيئا عاديا أم أنه يدعو الي القلق, عندما رأوني قالوا بمرح صاحبك فين؟ وانشغلنا جميعا, كنا اقتربنا من آخر النهار وعبدالغفار عرض علي أن آخذ عجلتي ويأتي هو بعجلة أخري ونذهب حتي آخر القري التي تنتهي عندها دورته ونسأل عنه, قال إنه يعرف الطريق, بعدما رحبت بذلك طلب من وديع أن يعد لنا كوبين من الشاي ولف سيجارة قدمها لي, وبينما ندخن ونشرب الشاي دخل الأستاذ فؤاد وهبة مدير المكتب واتجه الي مقعده وهو يقول إن سليمان في المستشفي القريب: المصيبة ان شنطة المصلحة مش معاه, اسألوه عنها. وأسرعنا الي هناك. 4 كان نائما وظهره مستندا الي الوسائد المرفوعة عند رأس السرير, في البداية لم أنتبه الي أنه سليمان بشعره المنكوش والجلباب الكستور بخطوطه البنية العريضة الذي يلبسه, بدا أنه رآنا ولم يعرفنا, وعبدالغفار تقدمنا ومد يده يصافحه ويقول: سلامتك ياشاعر. ولكن سليمان تطلع فقط بعينين مليئتين بالذهول, ولم يبد فيهما أي تعبير آخر, نظروا اليه حائرين ثم دفعوني نحوه ولكن عينيه مرتا دون أن يستوقفه وجهي, ولا أي وجه آخر, ولم يكن يتكلم. الممرضة قالت إنه هكذا منذ جاء, اتجهنا الي الطبيب وعبدالغفار قال: إيه الحكاية يادكتور؟ هو غالبا تعرض لصدمة أو مفاجأة غير متوقعة, بكرة يكون كويس. وعندما كنا في طريقنا الي العنبر مرة أخري, قال الطبيب: هو الأول كان كويس؟ يعني بيتكلم عادي؟ قلنا: طبعا. قال: طيب حاولوا تعرفوا منه إيه اللي حصل. وللكلام, غالبا, بقية