1 في كل صباح, كنت أ لمح البنت نور وهي تنتظرني إلي جوار السور الخارجي لحديقة المكتب, كانت تراني حتي تطمئن إلي أنني رأيتها, ثم تستدير علي مهلها لتنصرف, وأنا الذي لم أكن عرفت شيئا عن سليمان, أظل واقفا أتابعها وهي تمشي بين الناس. 2 كل يوم كنا نتوقع خبرا أو آخر عن سليمان, كنا نسأل مدير المكتب إن كانت هناك أخبار وكان يقول أنه آخر ما سمع إنه موجود بمستشفي السكة الحديد في مصر. وفي كل قطار توجد عربة خاصة بالبريد, زملاء يسلمون البوستة الصادرة من المحلة ويستلمون الواردة إليها وكذلك أكياس النقود لصرف المرتبات والحوالات وغيرها, وكل يوم كنا نوصي هؤلاء الزملاء أن يعرفوا شيئا من أخبار سليمان, وهم كانوا يعرفون حكايته مع الذئب فقط ولا يعرفون شيئا آخر. 3 من ناحيتي, لم أستطع أن أنظر الي حكاية سليمان مع الذئب والحمار باعتبارها حكاية عادية ابدا, قبل رحيله كنت أنتهي من دورتي مسرعا لأن هناك ما ينتظرني في المدينة, الآن وقد رحل تبدلت علاقتي بكل شيء. كنت أذهب ليلا الي المقهي حيث يجلس الزملاء ثم توقفت بعد ما لاحظت أن وجودي يسبب نوعا من الحرج علي القعدة. موسي أقصر زملاء المكتب كان الوحيد الذي يتقرب مني ويتفرس في وجهي ولا يقول شيئا. بعد ذلك اكتفيت بالوقت الطويل الذي كنت أقضيه مع دعاء في حجرتي أو حجرة جدتها العجوز شبه الصماء( مع الوقت عرفت أنها ليست حفيدتها لكن حفيدة ابنتها). 4 في الأيام الأخيرة لي بالمدينة. كنت أقود الدراجة متمهلا وأعود إلي المكتب متأخرا. كما كنت ألبي دعوة من يدعوني لشرب الشاي سواء داخل الدور أو فوق المصاطب الطينية الممتدة علي جانبي المداخل المنحدرة. كما وجدتني أكثر ميلا لتأمل كل ما أسرعت بالمرور عليه كل يوم. ليست المسافة طويلة بين قرية وأخري وتلال المقابر غالبا علي مشارفها, لكنك تري الحقول خارج الزمام واحدا وراء الآخر, ممتدة الي ما لا نهاية كأنها رقع في كليم هائل مختلفة الأحجام والألوان بسبب اختلاف نوع الزرع وطوله. زرع طويل وآخر قصير أقل كثافة ورقع محروثة والماء يلمع بين خطوطها الطينية الممتدة, لقد رأيت الساقية والشادوف ورأيت الرجل يرفع الماء بالطنبور وساقية في الماء رأيت النورج وهو يدور في الجرن رأيت أشجار السنط والكافور وأشجار التوت والجميز الكبيرة والتين الشوكي بألواحه العريضة وثماره الناتئة في حواف هذه الأ لواح بشوكها المنثور, صرت أعرف الذرة والقطن ما دام مزهرا كما عرفت القمح وتموجات سنابله بشعيراتها الذهبية إذ يأخذها الهواء من هنا لهناك, بالامس غادرنا مصطبة ونزلنا الي التخضيرة المزروعة باحتياجات الدار ورأيت الشجيرات القصيرة المحملة بالفلفل الاخضر الحامي والباذنجان الرومي وشجيرات الطماطم الراقدة في الحوض الذي سيجته أشجار النارنج والليمون التي تفوح رائحتها كلما ابتعدت عن المكان. لقد قطف مضيفي حبة الباذنجان الرومية بلونها العسلي من بين أوراقها العريضة الغضة, كانت شهية بقشرتها المشدودة اللامعة و لحمها الابيض وحبوبها الحلوة الطازجة. 5 كانوا اتفقوا ان يقيموا في الغد حفلا صغيرا لوداعي, وقد غادرت المكتب نهاية اليوم وتناولت غذائي بالمطعم الصغير وجلست أفكر, كان علي أن ألملم أشيائي وأربطها لكي يتم حملها الي عربة البضائع في القطار, وفكرت في الجدة فريدة والبنت دعاء وماذا سوف أقول, كانت جاوزت الثامنة عشرة بالكاد ولا ينفع أن أتزوج, فكرت في البنت نور التي تأتي كل يوم وتنتظرني عند السور الخارجي لحديقة المكتب لكي أخبرها شيئا عن سليمان وكيف أنها لن تجدني بعد الآن. لم أعد الي البيت ظللت علي رصيف المقهي أقرأ وأشرب الشاي والمحطة أمامي عبر الجسر. فكرت أن أنتظر حتي يقترب القطار وأتجه الي هناك كمن يتمشي, أترك كل شئ وأعود الي مصر. 6 ما إن صعدت سلم العربة واستدرت حتي تحرك القطار بضجيجه المألوف. وانتبهت إلي أن موسي يقف هناك بقامته القصيرة. كنت أراه عند انحرافة الرصيف وهو يميل, ويلوح بيد ه مودعا. وللكلام, غالبا, بقية [email protected] المزيد من مقالات إبراهيم اصلان