رن جرس التليفون فجأة قاطعا صمت الحجرة المخيم على كل شىء . ثم عاد مرة آخرى .. ظل يرن ويرن ولكنه لم يرفع السماعة ليرد على الطالب .. عاد التليفون الى رنينة من جديد بعد ان صمت قليلا .. ولكن هذه المرة كانت بشكل اقوى وكأنة مصر على عدم التوقف حتى يرد .. وتساءل .. ماذا حدث هذه الليلة .. التليفون لايتوقف عن الرنين ... وتذكرها فجأة .. ابتسم مالذى اتى بها الى ذاكرتى ؟! وفى هذه اللحظة بالذات .. نظر الى التليفون طويلا . وتساءل .. احقا هى .. اذن ماعلاقة هذا التليفون بعودتها اليه .. ولماذا هذا التليفون بالذات تأتى هى فى ذاكرته. لكنها لاتفارقة لحظة .. انها دائما معه .. حتى عندما يوهم نفسة بانه ماعاد يذكرها وانه قد نسيها ويجب الايدعها تحتل جزءا من كيانه .. يجب ان يبعدها عن فكرة وخياله .. يجب ان ينسى معها شيئا اسمه الوطن .. هذا وطنه .. وما عداه لابد ان ينسى .. ولكن كيف .. وهى تسكن فى اعماق اعماقة ؟! كيف وهى لاتترك فكرة للحظة ولاتبتعد عن خياله وان ذكرها ذكر الوطن وصال وجال فى ارجائه بدون ملل .. اذن كيف ينسى ؟ تنهد بصوت مسموع .. ثم قام واتجه الى الشباك .. حاول بصره ان يخترق الستارة ليرى اضواء المدينة المتلالئة ولكنه فشل كفشلة فى ابعاد صورتها عن خيالة.. اخيرا رفع الستارة فامتد بصره واحتضن المدينة الغارقه فى بحر من الاضواء اللامعة .. اختلط الاحمر منها والابيض بالاصفر . .. تأمل المدينة الغارقة فى صخب الحياة وضجيجها حتى ليلها كالنهار يستويان ... وتساءل .. ترى ماذا تفعل فى هذه اللحظه ؟ اتراها تذكرنى ؟! تتخيل وجهى ؟! اتراها تكتب عنى ؟! اتراها تلامس الصفحات الناعمة وتحدثنى ؟ ام تراها نسيتنى ؟ لكنها قالت بانها لن تنسانى .. لست ادرى . لما تربطنى بالوطن .. تقول دائما بان الرجل وطن .. والوطن رجل .. وان خسرت الرجل ستخسر الوطن .. فلسفتها لن تغيب عن بالى بينما كان من الاجدر نسيانها .. فهى لن تسمح لى ان استمر هنا .. لتحقيق احلامى .. انها لن تدعنى وشأنى ... ابتعد عن الشباك واتجه الى الاريكة المجاورة للمدفأة التى تلتهب النيران بداخلها كما تلتهب باعماقه وهو يذكرها ... تساقط جسده النحيف على الاريكة فارتاح وهويمد ساقيه عليها ... اخيرا توقف جرس التليفون عن الرنين .. مابالة الليلة .. لكننى لن ارد عليه مهما حدث .. . تأمل الكؤوس وزجاجات الكحول التى على البوفيه امامه .. سحب كأس منها وتناول زجاجة سوداء وسكب منها فى كأسه ثم اعادها حيث كانت ..... كانت ترفض سفره الى هذه المدينة بقوة .. كانت تقول له ان الوطن الحقيقى للرجل هو الارض التى نمى فيها ... الوطن هو موطن الاجداد والاباء وان تنكرت انت لوطنك . والصقت نفسك بهذا الذى لم تتعلم منه الا الجحود والنكران . لوطنك . ولى.. فلن تربح مدى الحياة .. ستكون انت الخاسر .. صدقنى .. انا وطنك . وهذا وطنك ... تأفف .. ثم احتسى الشراب كله دفعة واحدة .. فاحس به يحرق حلقه بقوة .. اغمض عينيه وهمس محاولا ابعاد صوتها الملتصق بسمعه .. اّّه . شراب لذيذ . مد يده تناول الزجاجة من جديد وملء الكأس مرة اخرى . ولكنه هذه المرة تناول جرعة صغيرة ... تأمل الزجاجة ثم اعادها الى حيث كانت .. وتناول من كأسه جرعة اخرى ... اليوم التقى بصديقى فى هذه المدينة الذى وعدنى بتوفير قسط من حياة كريمة هنا حتى استطيع ان اصنع لنفسى مكان وسط هذا العالم الذى لايعرف هذه العواطف التى كانت تكلمنى عليها هناك اّّه .. مازالت صورتها امام عينى وكلامها يدّوى فى اذنى .. الرجل وطن . والوطن رجل ... اّّه .. لم تفقد سحرها وجمالها .. عيناها .. ابتسامتها التى لاتفارق شفتيها .. وذلك الذهب الذى يحيط وجهها ببريقة اللامع .. مازال طويلا ناعما مسترسلا على كتفيها .. لم يفقد جمالة ولابريقة .. مازلت اعشق هذه الخصلات الثائرة .. وهذه السبائك الذهبية .. تناول جرعة اخرى من كأسة وهو شارد يتأمل وبصره شاخص بعيدا حيث هى ... انسكب الشراب البارد عليه .. احس به يقرص جسده الدافىء .. فاستيقظ من حلمة وعاد من حيث كان ... لم يجد سوى النيران تلتهب فى المدفأة امامه وفى اعماقة .. الى متى ستظل هذه الأشواق .. وهذا الحنين ينغص عليه راحته هنا .. هل حقا انا اريد ان اتخلى عن وطنى .. عنها .. من اجل ماذا . حفنة مال . وظيفة . هروب من جحيم يعيش فيه اهلى . من حصار . من دمار . من عدو يحصد ولايفرق .. اهرب من عيون طفل ينظر وهو يودع الحياة قبل ان تفتح له ابوابها بعدما استقرت فى احشائة رصاصة الاعداء ... خيانة .. نعم خيانة . ان لم تكن هى الخيانة .. فكيف هى ... سحب قدميه ورفع جسدة الممدود على الاريكة ثم وقف .. اعاد الكأس الى رفاقه الكؤوس واتجه الى غرفته ... اّّه .. تبدو باردة رغم حرارة المدفأة .. ترى مالذى يجعلة يشتاق اليها ويتذكر كلماتها هذه الليلة .. اريد ان انساها .. لاادرى . وقف امام المرآة والقى السؤال على صورته المنعكسة عليها وتركها بدون جواب .. غير ملابسة .. ارتدى ملابس اخرى .. اتجه الى المرآه مرة اخرى وتأمل صورته طويلا .. هل تغيرت فجأة وبدون مقدمات .. تأفف وادار ظهره الى المرآة وهو يتساءل مابالى هذه الليلة اذكرها كثيرا .. اما قررت وجوب نسيانها ؟! اذهب لمقابلة صديقى .. لاسمع منه ماذا فعل لى اليوم .. اطفاء انوار الغرفة واتجه الى حيث كان يجلس .. هذه الليلة ابدوا غريب الاطوار .. تاره اشعر اننى مشتاق .. واخرى منزعج من هذا الشوق .. واعود فاهرب . ثم اعود .. جلس على الاريكة وتناول كأسا اخرى .. واخرى .. واخرى .. حتى شعر بان ساقيه لم تعد تحمله رغم جسدة النحيف .. مد ساقيه وتوسد احدى وسائد الكرسى المجاور واغمض عينيه محاولا النوم ... انقشع الظلام فجأه .. ظهر . طيف امرأة كان يعرفها من هى.. انها هى وذات البسمة على شفتيها والبريق الساحر فى عينيها وخصلاتها الذهبية تتطاير على خديها .. اقتربت منه .. وهمست .. اما زلت تذكرنى ؟! فجاء صوتها ناعما يبعث الدفء الى اعماقة الباردة .. تريد ان تتركنا اذن .. انسيت كل شىء .. اهلك .. الارض التى اعطتك حتى اصبحت كما انت .. اتنسى الوطن .. مد يده يريد ان يحتضنها .. يريد ان يبوح لها بما يدور فى اعماقه ... تلاشت تلك الملامح وحل محلها الظلام ... رن جرس التليفون مرة اخرى . فتح عينيه ونظر اليه طويلا.. . وقف ومد يده وسحب معطفه الاسود الطويل من على الشماعة . ولبس حذائه وخرج .. مازال صوتها يدغدغ سمعه واعماقه... سمعها تقول .. ساذكرك كلما دقت طبول الفرح فى اعماقى .. ساذكرك كلما تساقطت امطار الحزن من عينى .. ساذكرك كلما لمست يداى شعرى ... وكلما رن جرس تليفونى ينادينى .. ساذكرك كلما دقت انامل الغيث على نافذتى .. ولكن ارجوك ان تذكرنى .. بقيت كلماتها تغنى فى اذنيه اعذب الالحان ... تأملت عيناه المدينة المتلالئة .. شلالات الاضواء الساطعة المبانى العالية . المتاجر الفخمة . الطرق المزدحمة . . . كل شىء بارد .. فالدفء الحقيقى اراه مرسوما على جدران مدينتى ... انحرف عن الطريق ودخل من باب حديقة عامة ... جلس على كرسى فى ركن مظلم منها .. احتضن بنظره كل شىء فيها تمنى لوكانت بجوارة .. تأملها جيدا . ثم عاد صوتها يملاء مسمعيه .. لماذا الهرب من وطنك ؟ لكننى لااريد الرحيل من هنا .. . اريدك الا تنسانى . اذكرينى . عاد بصره ليتأمل هذين الجسدين المتلاصقين امامة .. تنهد .. آه لو انها قبلت الحضور .. لو انها قبلت العيش هنا .. اخرج علبة سجائره . تناول واحدة واعادها الى معطفه .. اضاء وجهه لهيب النيران المنبعثة من ولاعته ..... تساءل .. ماذا اريد . هل اريد الحياة ؟ ام اريد الوطن ؟! .. اتراها نائمة ام ساهرة . .. ابتسم وهو يتصورها جالسة يحتضنها دفء سريرها واصابعها تحتضن قلمها . كما تعودت ان تفعل فى فصل الشتاء .. القلم يكتب كل مايجول بخاطرها .. علاقة حميمة تربط بينهما وتتجسد على الورق .. تسطر مشاعرها بهدوء ... يريد ان يعرف ماذا تكتب الان ولمن تبعث هذه الكلمات هبت نسمات باردة فاحس بها تلامس وجهه برقة وتتخلل شعرة بهدوء مغرى .. عاد صوتها يداعب سمعه وحنايا قلبه من جديد .. اذكرنى .. ابتسم .. نفث دخان سيجارته بقوة .. وعندما وقف كان قد قرر بينه وبين نفسه الا يعود الى البيت الا فى وقت متأخر .. ظل يمشى من شارع الى اخر . يتأمل كل شىء بصمت ويدخن .. ثم قرر ان يجرى كعادته منذ ان جاء الى هنا . كل يوم عند الفجر .. وكلما جرى اكثر كان يشعر بلفح الهواء لوجهه .... انظر الى انا بجانبك اجرى معك .. ابتسم .. ابتعد صوتها التفت الى يمينه . فوجدها تجرى معه يقول وتسمع .. ويستمع اليها وخصلاتها الذهبية تسابق الهواء خلفها .. تراها حقا ترد على . تسمعنى ؟! ترك الشارع وصعد الى بيته مازال نيران المدفأة تشتعل .. وماتزال نيرا اعماقه تشتعل كالتى فى المدفأة .. اتجه الى سريرة البارد .. مد جسده المتعب .. وغاب فى سبات عميق .. استيقظ فى الصباح متأخرا على غير عادته . اعد قهوته وخرج الى الشرفة . جلس قليلا لكنه مالبث ان دخل .. اتجه الى مكتبه وتناول ورقه كتب عليها .. وهناك امرأة ما . عرفتها هناك فى وطنى .. ماتزال تسكن اعماقى .. ترقص وتصفق وتغنى .. تكتب الاشعار .. ترسم الطبيعة .. وتنحت صورتها بداخلى .. تنهى الخريف من حياتى .. تطلق الفراشات فى سمائى .. يندس صوتها داخل صوتى .. وتبرق عيناها فى عينى .. وينبض قلبها مع نبضات قلبى ... هذه هى انت .. قد قلت ان الرجل وطن . والوطن رجل .. اما انا فاقول إن المرأة وطن والوطن إمرأة .. فان وجدت المرأة وجد الوطن .. وان ضاعت ضاع .. تأكدت انه لاهروب من الوطن مادام يسكن اعماق الرجل .. ولا هروب منك مادمت تسكنين اعماقى .. عائد اليك .. عائد الى الوطن .. طوى الورقة ووضعها فى مظروف .. كتب عليه عنوانها فى الوطن