إن النظرة الاستقصائية النقدية لعالمنا المعاصر الذي يحظي برخاء غير مسبوق تكشف عن استمرار سيادة الكثير من المظاهر الدالة علي العوز والضنك ورتابة الحياة اليومية.بل يصل الوضع في شتي مناطق الجنوب إلي درجة الفاقة والانحطاط،تبدو معها الشرائح المقهورة وكأنها تحولت إلي مجرد نفاية بشرية في عالم أصبح مختلاً سياسياً واجتماعياً واقتصادياً.هذا ما خطه يراع د.محمد العودي في مفتتحه لكتابه المهم (فقراء زمن العولمة) والذي صدر مؤخراً عن دار (رؤية) للنشر والتوزيع. يري د.العودي أن الفقر الذي يشكل إحدي السمات المشينة لهذا العالم الشغوف بثقافة الديمقراطية وقيم حقوق الإنسان،أضحي بمثابة الظاهرة الأكثر إثارة للجدل.خاصة وقد تكثف التعتيم علي أبسط المفاهيم،حتي بات من البديهي التحدث عن الحرمان الاجتماعي المنظم للتعبير في ظروف حربائية عن واقع الاستغلال الطبقي الصريح.ثم يتساءل د.العودي:كيف يمكن القيام بتحليل نقدي لواقع الفقر في ظل الإيقاع الجارف للعولمة،مع كل ما يفترضه ذلك من دقة علمية؟..ويجيب بأنه في خضم النظام العالمي الجديد وما ترتب عليه من شيوع الفاقة وتدويل الإفقار،لم تعد المشكلة العاجلة في الجنوب الذي يعاني من صعوبات اجتماعية واقتصادية خانقة،ووطأة الديون المرهقة،هو العمل علي الرفع من وتيرة النمو.وإنما تركز كل الاهتمام علي تجنب الأسوأ والبحث باستعجال عن وسائل مُسكِّنة،احترازاً من تفاقم الوضع وانفجاره.والواقع - كما يري د. العودي ذ أن آفة الفقر بالعالم الثالث تنم عن قلق معنوي وعجز بشري امتدت آثاره لتنفذ إلي أعماق الوعي الإنساني. ثم يعود د.العودي ليتساءل مرة أخري فيقول:كيف يمكن تجاهل ضراوة النظام العالمي الجديد، وأبعاده الثقافية التي تسعي إلي تدمير الإطار العقلاني الذي يُطرح داخله العديد من القضايا الجوهرية كالظلم الاجتماعي والتخلف والتبعية والعوز المادي والفقر الثقافي؟..ويُقر بان ثمة تعتيما علي المشكلات الاجتماعية الجديدة بالدول الصناعية والتغطية في نفس الوقت علي الأوضاع الطبقية وواقع البؤس والبطالة في بقية العالم.هنا في هذا الكتاب يسعي د.العودي إلي إيجاد الحلول الممكنة للحد من التفقير الاقتصادي المقترن بالتخلف الاجتماعي والسياسي والفكري، وذلك بتفاعل خلاق مع تطلعات المجتمع وعلوم ومعرفة حضارة العصر.بعد ذلك يري د.العودي أن استمرار حالة الفقر والجوع في العالم جعلت الفكر النقدي الموسوم بعقيدة الرفض المبدئي للظلم الاجتماعي ومختلف أشكال القهر،يعبر من خلال رواده عن امتعاضه من المخلفات المنحرفة التي أصبحت تبلورها مجالياً العولمة علي مستوي العلاقات الدولية.هذا ويضيف أن الفقر قد أضحي في حقل البحث الغربي الحديث كممارسة اجتماعية،بحيث إن الفقراء لم يعودوا يحشرون ضمن طبقة اجتماعية واعية تنطيمياً بضرورة انتزاع حقوقها والدفاع عن مصالحها.وإنما يتم إرجاع تبعاته للمجتمع الذي أصبح مسئولاً عن فقرائه وهو الذي من واجبه التكفل بوضعهم.وعن العلاقة بين الفقر والتخلف يقول د.العودي إذا كان الفقر ظاهرة قديمة قِدَم الاستعباد والاستغلال الطبقي الذي عرفته مختلف المجتمعات الإنسانية،يشكل ظاهرة حديثة العهد.خاصة أن مفهوم التخلف يعكس واقعاً مادياً وفكرياً وسياسياً أكثر تعقيداً ومقيداً زمنياً بحكم الظروف التاريخية التي أنتجته. هذا ومما يراه أيضاً د.العودي أن القضاء علي الفقر يقتضي من منظور النزعة التطورية بناء المجتمع العصري الذي تتحدد طبيعته بشكل حصري في المنظومة الرأسمالية في بعض البلدان التي تعاني من الفقر.هذا ومما هو معروف أن الفقر الذي تعاني منه شرائح واسعة من المجتمع هو أيضاً نتيجة موضوعية للمنهج الاستبدادي الذي تم اتباعه كمرجعية مركزية في الحياة السياسية.كذلك يشير إلي أن مظاهر الأزمة تتجلي اليوم في الاستقلال اللاعقلاني والجنوني لثروات الأرض فحسب،وإنما أيضاً في سوء توزيع هذه الثروات.بحيث إن جزءاً مهماً من ساكنة الأرض يعيش في ظروف صعبة أو يعاني صراحة من الفقر والبؤس.بل إن مناطق واسعة من إفريقيا أصبحت مهددة بشكل مطرد بالمجاعة نتيجة الصراعات المفتعلة والحروب الأهلية والتطاحن السياسي والفساد الإداري.هذا إضافة إلي قساوة الظروف الطبيعية،خاصة كارثة الجفاف التي تطرح معها مشكل الماء.كما يذكر أن التقارير الأممية تشير إلي وفاة ما لا يقل عن عشرة ملايين طفل سنوياً بسبب أمراض من الممكن تفاديها لولا الفقر بحيث إنه يتسبب في موت 1200 طفل كل ساعة. أيضاً تبين المعطيات الإحصائية الدولية أن ما يزيد عن مليار ونصف نسمة من سكان العالم لا تصلها شبكة الماء الصالح للشرب يقطن معظمهم الأرياف.وفي نهاية كتابه يوضح د.محمد العودي أنه لا وجود في الواقع حالياً لمنظومة متكاملة تستطيع ادعاء حل مشكلة الفقر حلاً نهائياً. غير أن هناك أفكارا ونظريات تسهم من خلال تفكيرها لواقع العصر في الجدل الدائر حول معضلة الفقر في العالم. كذلك ثمة طروحات تسعي إلي تقديم وسائل إنمائية كفيلة علي الأقل بالحد من انتشار الآفة. ويورد رأي بيتير أولريش أستاذ الأخلاق الاقتصادية بجامعة سانت جالين بسويسرا والذي مفاده أنه إذا كان لابد من النظام الرأسمالي فليكن علي الأقل هذا النظام للجميع.