"ملح كثير.. أرض أقل" هو عنوان المجموعة القصصية الجديدة للقاص الفلسطيني راجي بطحيش. بعد مجموعته السابقة "غرفة في تل أبيب"، يعود راجي لتناول واقع الحياة "الفلسطينية العربية" داخل عاصمة العدو. المجموعة الجديدة، كما يشي بذلك اسمها، تبحث عن "الأرض الأقل"، أو "فلسطين"، داخل واقع جغرافي لم يعد يعترف بها، مع رهان صعب، يتجنب بطحيش الشعارات السياسية الزاعقة، ويسخر منها أحياناً. هذا ما قد يجعله غير محبوب من الطرفين، المناضل الفلسطيني التقليدي، والعدو الإسرائيلي التقليدي! أسأله عن السياسة في المجموعة، بأي مفهوم هي مجموعة سياسية؟ يجيب بأن المعاني السياسية ومفهوم الأرض يحضران في كل من التفاصيل اليومية الصغيرة والمتناهية الصغر في الحياة اليومية وفي تحركات الأبطال في الكتاب: "الأرض لدينا مقسمة بشكل سياسي، حتي الحديقة الشخصية لأي فرد. كل مبني جديد خاضع لمعان سياسية وكل تحرك داخل الأرض الضيقة والقليلة يحمل تداعيات سياسية، تواجدك في مكان ما يفرض عليك بعداً وموقفاً سياسياً، ففي رام الله أنت تختلف عن كونك في تل أبيب، وعن تواجدك في الناصرة، وعن تجولك في طبريا أو جنين. كما تخضع مساحة المكان، تصغيرها أو تكبيرها _ دائما وبدون استثناء - إلي اعتبارات ودوافع سياسية تخص الصراع. في الأردن مثلا إذا أردت ان توسع مساحة مدينة عمان إلي ما نهاية نحو حدود الشرق أو الغرب فلا مشكلة، فالصحراء واسعة، أما في فلسطين فلا. ومن هنا تأتي علاقة الشخصيات العضوية بالمكان أو حدوده. ينتظر من الكاتب الفلسطيني التعبير عن مقومات الهوية: الأرض - النكبة - الاحتلال. ولكن راجي يقدم رواية من نوع آخر. في قصة "نكبة لايت" مثلا هناك مجموعة من الشباب الفلسطينيين يريدون الاحتفال بقصة النكبة فيحاولون انتقاء الرواية "الأكثر إثارة" عن طرد العرب في 1948 مع نبذ الروايات "الأقل إثارة واكتمالاً". كيف تعامل راجي مع إشكالية تخييب الآمال العربية المعقودة علي كاتب فلسطيني؟ هو ببساطة لا يعتقد أنه يسخر من مكونات الهوية الفلسطينية، بل تفكيك المسلمات وإعادة تكوينها في ذهنه (علي الأقل): "أحاول أن أفهم كيف هزمنا بهذه الطريقة المريعة؟ كيف فرغت مدن كاملة بهذه السرعة؟ كيف بني عدونا دولته ومؤسساته وجامعاته وديمقراطيته بصمت منذ بداية القرن العشرين بينما انشغلنا نحن بإنشاء مؤسسات إقطاعية/ رعوية/ طائفية تداعت بسرعة عام 1948 وما قبله. وكيف يمكننا ان نلعب دور الضحية بهذا التفاني المذهل والإخلاص البشع. هنالك أطراف لا حصر لها تعتاش علي "رواية" النكبة دون أن تحاول تفكيكها أو حتي تحويرها شعورياً كحد أدني كما جاء في قصة "نكبة لايت" ، وهنا تأتي الفقرة الأخيرة لتوضح فداحة الخسارة من وجهة نظري علي الأقل، آسف لأنني اخيب امال التيارات العربية المركزية ولكنني اعتقد أن هذا دور الكاتب ...تخييب الآمال الرومانسية وتكسير المسلّمات." في قصة أخري داخل المجموعة بعنوان "خمسون شاقلاً" يسافر الفلسطيني المثلي إلي تل أبيب ليقوم ببعض المهام "ذات الطابع المثلي جنسياً" تجاه اليهود في المدينة، بعد أن يخفي علي الجميع ببلدته غرضه من الزيارة بالطبع، ولكنه يلتقي بعمه داخل ناد للمثليين بتل أبيب. القصة تبدو وكأنها تضرب عنصرين هامين: العنصر الجنسي "ذكر/ أنثي"، والعنصر القومي: "عربي/ يهودي". راجي نفسه يري القصة مكثفة جدا وهي تحوي عوالم كاملة تتجاوز مسألة التقسيم الجنسي أو الهوية القومية: "إنه ذلك الخليط "السلطة" التي وجدت علي الأرض بعد ستين عاماً وأكثر، وأدت إلي النتيجة النهائية كما هي في القصة: أن يتضاجع (أو يكاد) شاب وعمه في حمام للمثليين في وسط تل أبيب. لقد تعاملت في هذه القصة مع محصلة السنوات، سنوات التحايل والكذب علي الذات والمحيط وحرب البقاء.. تلك التي تجعلنا _في كل مكان وليس فقط في فلسطين- في مكاشفة دائمة مع هوياتنا." ألم تراودك فكرة كتابة الحوارات (علي الأقل) بالعامية الفلسطينية؟ ألم تشعر أنها كانت لتضيف صدقية أكثر إلي النص؟ هل هناك أصلا محاولة كتلك في النصوص الفلسطينية المعاصرة، محاولة إدراج العامية في النص الفصيح؟ هنالك في الكتاب بعض الجمل بالعامية الفلسطينية وهي تأتي من باب الطرافة في النص، ولكنني ومن ناحية فنية استرحت اكثر لكتابة الحوارات بالفصحي وذلك يكمن لتعدد منابع الشخصيات ولهجاتها واختلاف تلك اللهجات بين منطقة وأخري من فلسطين، ففي الكتاب هنالك "الجليلي" والمقدسي والنابلسي والنصراوي والحيفاوي واليافاوي وثنائي اللغة والعميل، ولكلٍ لغة مختلفة ولهجة مغايرة، وفي الحقيقة فإن كتابة الحوارات بالعامية لا زالت في مهدها في فلسطين والشام عامة بالمقارنة بمصر. هنالك تخوف من العامية، وهنالك جماليات في اللهجات المحلية لم يسبر غورها كاتب "شامي" حتي الآن. وضع الأدباء العرب داخل فلسطين 1948 هو وضع معقد للغاية، وغامض للغاية أيضاً، أسأله عن هذا، عن إشكالية الكتابة بالعربية في داخل مجتمع يعيش بالعبرية. يقول: أولا: يوجد كاتب أو كاتبين يكتبون باللغة العبرية والغالبية تكتب باللغة العربية وأحيانا يتم ترجمتها، وهذا إنجاز حضاري كبير به تصريح واضح بتفاصيل الهوية والتمسك بلغة الأم خاصة كون اللغة العبرية و"الثقافة" الإسرائيلية هي لغة وثقافة أقلية غير طبيعية وغير سائدة بالمنطقة إذا ما قارناها بحالة فرنسا والجزائر مثلاً. إذا ما قارنا وضع الأدباء الشباب في مناطق 48 بأمثالهم في دولة جارة وفاعلة كمصر، فسيظهر أن الوضع محزن. نحن نعمل في ظروف صعبة جداً، فإضافة الي مشاق التواصل مع اللغة تنعدم لدينا البوصلة الثقافية أو المركز، ولنقل المؤسسات الصحفية والأجسام الأدبية التي تقف من وراء الكاتب وتشكل بالنسبة له منبراً أو منطلقاً أو حيز عمل. لا توجد لدينا دور نشر بالعربية، بالإضافة الي المناخ الإبداعي الذي ينبع بتقديري من التراكم وصناعة الثقافة. ومع كل هذا هنالك أسماء عدة تعمل علي مشاريع فردية أحيانا تنجح وتستمر وأحيانا (علي الغالب) تختفي بمجرد الإنشغال بأمور حياتية أخري وهكذا لا يمكننا الحديث عن حركة أدبية جارفة ونشطة بقدر ما يمكننا الحديث عن تجارب معينة، وأنا بالحقيقة لا تستهويني سوي بعض الأقلام القليلة جدا. مثل من؟ أحب الكتابة التي تثير مشاعري وتداعب حقيقة مبدعها، ومن هذا القبيل أميل لكتابة علاء حليحل، والذي كتب نصاً أبكاني عند ولادة ابنته البكر، هنالك مروان مخول أيضا حيث أحب روح التمرد والوقاحة الكامنة بلغته البسيطة، هنالك أيضا أسماء عزايزة بلغتها المتينة والشيقة علي الرغم من صغر سنها، وتستهويني كتابة سلمان ناطور من الجيل المخضرم . كما انني أقرأ أحيانا لراجي بطحيش وأستمتع! لغة الحياة اليومية بالنسبة للكاتب الفلسطيني بالداخل هي العبرية (هذا تصوري ولك أن تصوبه) ولكنه يكتب _ في الغالب كما تقول - بالعربية. كيف يتعامل الكاتب الفلسطيني مع هذه الازدواجية؟ الموضوع أعقد من ذلك وهو يتعلق بالمكان والمنطقة التي يعمل بهما الفلسطيني، بالإضافة الي طبيعة العمل وإذا ما كانت الشركة يهودية أم عربية، وإذا ما كان زملائه يهوداً أو عرباً، وإن كان مكان العمل في منطقة عربية أو يهودية (والمناطق غير متداخلة علي الغالب). فالعربي يتعلم في مدارس عربية، كما أنه يتكلم مع العربي بالعربية (المهجنة أحياناً) ويطل علي العالم عبر الفضائيات العربية (نسبة مشاهدة العرب للتلفزة العبرية التجارية لا تتجاوز ٪3) فالإزدواجية ليست حادة الي هذه الدرجة، وهذا الوضع ينعكس علي حال الأدب. ن. ط