بالتزامن مع الانتخابات النيابية.. «حماة الوطن» يدشن برنامجًا لإدارة الحملات الانتخابية    طلاب الصفين الأول والثاني الثانوي بالمنيا يؤدون امتحانات الفصل الدراسي الثاني    راتب 28 ألف جنيه شهريًا.. بدء اختبارات المُتقدمين لوظيفة عمال زراعة بالأردن    "التميز في النشر العلمي الدولي" ورش عمل بجامعة حلوان    «التضامن» تقر قيد 6 جمعيات فى 4 محافظات    أسعار الأسماك والمأكولات البحرية بسوق العبور اليوم الخميس (جملة)    بعد الزيادة الكبيرة في عيار 21.. سعر الذهب اليوم الخميس 22 مايو 2025 بمنتصف التعاملات    السيسي يستقبل الرئيس التنفيذي لشركة «شل» العالمية    الجريدة الرسمية تنشر 9 قرارات جديدة لرئيس الوزراء في عدد اليوم الخميس 22 مايو 2025    رئيس اتحاد الغرف البلغارية: يوجد فرص استثمارية بين مصر وبلغاريا في الزراعة والطاقة والمواصلات    الحكومة تستعرض تفاصيل مشروع القطار الكهربائي السريع.. 2000 كم و60 محطة لنقلة حضارية في النقل الأخضر    الجامعة العربية: فقدان التنوع البيولوجى تهديد مباشر لرفاهية الإنسان وأمن المجتمعات    بعد حادث واشنطن.. صحيفة عبرية توجه اتهامات ل «الموساد» (ما القصة؟)    مؤيد لفلسطين وتبرع لحملة بايدن.. من هو مطلق النار على موظفي سفارة إسرائيل ب واشنطن؟    حيش الاحتلال ينذر سكان 14 حيا في شمال غزة بالإخلاء تمهيدا لتوسيع عملياته العسكرية    عاجل- وزير الخارجية الإيطالي: إسرائيل تنتهك القانون الإنساني وندعم المقترح المصري لإعمار غزة دون تهجير    وزير الخارجية يلتقي مع المفوض الأوروبي للصحة    وزير الأوقاف يُدين استهداف وفد دبلوماسى دولى بنيران قوات الاحتلال فى جنين    معاريف: إطلاق النار بواشنطن ثاني فشل ل الموساد خلال عام    إمام عاشور يغادر المستشفى.. وفحص طبي جديد في مران الأهلي    564 ألفا و592 طالبا يؤدون امتحانات النقل بالفيوم.. صور    البدء في تصحيح أوراق امتحانات الشهادتين الابتدائية والإعدادية الأزهرية بمطروح    محافظ القاهرة يُسلّم تأشيرات ل179 حاجًا (تفاصيل)    القبض على 19 متهمًا بحوزتهم مخدر «الآيس» في بورسعيد    عامل ينهي حياة زوجته ب«عصا خشبية» بسبب خلافات أسرية بسوهاج    تعدى على الملكية الفكرية.. سقوط مدير مطبعة غير مرخصة في السلام    ارتكبوا 4 جرائم مشابهة.. القبض على لصوص المساكن في الحي الراقي    تعرف على حالة الطقس اليوم الخميس 22-5-2025 فى الإسماعيلية.. فيديو    الكشف اسم وألقاب صاحب مقبرة Kampp23 بمنطقة العساسيف بالبر الغربي بالأقصر    الأحد.. وزير الثقافة يدشن تطبيق "ذاكرة المدينة" الخاص بجهاز التنسيق الحضاري    الليلة.. قصور الثقافة تقيم معرض تجربة شخصية بالعريش ضمن مشروع المعارض الطوافة    الأوقاف تشارك في ورش عمل لتصحيح السلوكيات والممارسات الصحية خلال عيد الأضحى    وزير الصحة يُهنئ رئيس هيئة «الاعتماد والرقابة» لحصوله على جائزة الطبيب العربي ل2025    المستشفيات الجامعية تنظم الاحتفالية السنوية لنظافة الأيدي احتفالا باليوم العالمي    عاصي الحلاني يختتم مهرجان القبيات الفني في لبنان أغسطس المقبل    الزمالك في مواجهة نارية ضد الترجي بنصف نهائي كأس الكؤوس الإفريقية لليد    جدول ترتيب الدوري السعودي قبل مباريات اليوم    تشكيل أهلي جدة المتوقع أمام الاتفاق في الدوري السعودي    بطولة أحمد داش.. الفيلم الأقل جماهيرية في شباك تذاكر السينما    نصف نهائي بطولة أفريقيا لليد.. الموعد والقناة الناقلة لمباراة الزمالك والترجي    سعر الدولار اليوم الخميس 22 مايو 2025 في البنك المركزي    تقرير رسمى: تحصين أكثر من 4.5 مليون طائر منذ بداية العام وحتى الآن    دوري أبطال إفريقيا.. بيراميدز يشارك في حفل "كاف" للكشف عن الشكل الجديد لكأس الأبطال    الحكومة تعلن تعديل قانون التعليم في مصر| 12 سنة إلزامية    «فولكانو ديسكفري»: نشاط زلزالي محتمل في الإسكندرية أو القرب منها    هبة مجدي بعد تكريمها من السيدة انتصار السيسي: فرحت من قلبي    حكم من يحج وتارك للصلاة.. دار الإفتاء توضح    لماذا زادت الكوارث والزلازل خلال الفترة الحالية؟.. أمين الفتوى يوضح    مجلس الشيوخ الأمريكي يعتزم التحقيق في هوية الشخص الذي أدار البلاد بدلا من بايدن    الفيلم الوثائقي الأردني "أسفلت" يفوز بجائزة في مهرجان كان السينمائي 2025    المستشار عبد الرزاق شعيب يفتتح صرحا جديدا لقضايا الدولة بمدينة بورسعيد    سامر المصري: غياب الدراما التاريخية أثَّر على أفكار الأجيال الجديدة    الزمالك يُكثف استعداداته لمواجهة بتروجت في دوري نايل    امتدح بوستيكوجلو دون ذكر اسمه.. صلاح يهنئ توتنهام بعد التتويج بالدوري الأوروبي    محافظ الغربية يُشيد بابنة المحافظة «حبيبة» ويهنئها لمشاركتها في احتفالية «أسرتي.. قوتي».. صور    الاسم زوج..والفعل «مستعار»    خالد الجندي: الصلاة في المساجد التي تضم أضرحة «جائزة» بشروط شرعية    الجمعة 6 يونيو أول أيام العيد فلكيًا.. والإجازة تمتد حتى الاثنين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصة قصيرة .. صمت الأستاذ طنبولي
نشر في أخبار الأدب يوم 18 - 05 - 2013

لست أدري كيف تمكنت تلك الكراسة الصغيرة من تحدي الزمن والبقاء علي قيد الحياة لما يقرب من ستين عاما دون أن تمسّ أو تبلي. كنت في العاشرة تقريبا حين عثرت عليها في فناء المدرسة. عندما أخرج الأستاذ طنبولي يده من جيبه سقطت منه دون أن يدري،ولم تكن تفصل بيننا سوي خطوات قليلة. كان بإمكاني ،بل كان من الطبيعي أن أعيدها اليه ،علي الأقل من باب التودد والوقاية من خيرزانته التي لاتفارق يده. لكن شيئا ما بداخلي ،ربما رغبة مجردة في الانتقام الصبياني من أي شيء ،جعلتني أنتظر حتي ينصرف وأحتفظ بها لنفسي لمجرد حرمانه منها من جهة ،ومن باب الفضول لمعرفة محتواها من جهة أخري.
في البيت سارعت بفتح الكراسة وحاولت فهم ماكتبه بها قدر استطاعتي ولكني لم أستوعبه ،فوضعتها بين صفحات كراس كبير ذي غلاف كرتوني مميز كنت أتابع فيه نفسي يوما بيوم،فأعطي لنفسي درجة من عشرة علي قدر ما حصلت من معرفة وما أديت من واجبات مدرسية. في بعض الأيام كنت أحصل علي الدرجة النهائية ،وفي أيام أخري كنت أحصل علي صفر من عشرة حين يبلغ التقصير مداه بتفضيلي اللعب علي المذاكرة. في نهاية كل أسبوع أجمع درجات الأسبوع بأكمله وأقسمها علي سبعة لأعرف متوسط تقديري العام ،وبناء عليه أكافيء نفسي أو أعاقبها بوسائلي الخاصة. كان هدفي من هذا الكراس هو التدريب علي محاسبة النفس ومراقبتها دون الاعتماد علي أحد،وكذلك حتي أعتاد الصدق مع النفس دون رقيب أو حسيب.

» انطح رأسك في الحائط. أصرخ. امش علي قدميك. اجر في الشارع عاريا..مهما فعلت فلن يغير ذلك من الحقيقة في شيء. هذا ملكه وهو حر في ادارته كيف يشاء ،أما أنت فلا تزيد عن مجرد ذرة ضئيلة في هذا الكون الرهيب«..

من المؤكد أن الاستاذ طنبولي النوبي الأصل قد توفاه الله منذ زمن بعيد،فقد كان في حوالي الخمسين حين كنت في العاشرة. بينما كنت أبحث اليوم في مكتبتي عن كتاب مفقود ،وقع في يدي بالمصادفة كراسي الكبير مختفيا بين ملفات كثيرة،وعثرت بين صفحاته علي مذكرات الاستاذ طنبولي،فرحت أقرأها بفضول شديد.

إني لفي غاية من الدهشة لهذا الشيخ العجوز الذي يروي مغامراته الحقيرة الحاضرة لا الماضية- مع النساء ،بغض النظر عن مدي صدق رواياته. يحكيها في سعادة بالغة وقد سقطت أسنانه وشاب ما تبقي من شعر علي صلعته المدببة. يصيبني بالتقزز فأهرب من مجالسته الاضطرارية مع شلة المقهي من المدرسين . ان أكثر ما يؤرقني في علاقتي به أن الله جعله ثريا وجعلني فقيرا،رغم أن كفتي ترجح علي كفته بكل المقاييس والمكاييل والموازين..

كان من المستحيل معرفة عمن يتحدث الاستاذ طنبولي،سواء وأنا في العاشرة أو اليوم وقد تجاوزت الستين. كل الأساتذة يحترمونه ويحسبون لجديته ألف حساب،فما بالك بالطلبة!. صوته يجلجل في الفناء وفي طرقات المدرسة فهو ضابطها ،الي جانب كونه مدرسا للتربية الرياضية. كان رجلا طيبا بحق. مشكلته الوحيدة أنه حسب اعتقادي القديم لم يكن يعترف أنه مجرد مدرس بمدرسة الأنفوشي الابتدائية للبنين ،وإنما كان علي يقين من أنه ملك.تأكدت من ذلك لابحكم تعاظمه وكبريائه الواثق دون أن يجرح أحدا ،ولكن عندما لاحظت أنه يتسلل بصفة شبه يومية الي سطح المدرسة المطل علي البحر مباشرة ،فتسللت من خلفه يوما دون أن يلحظني واختبأت في ركن قصي خلف بعض المقاعد المكسرة المخزونة بالمكان. في ذلك اليوم كان البحر هائجا وكانت أفواج هائلة من طيور النورس تصيح في سعادة وهي تغوص بين الأمواج لتلتقط الأسماك ثم تعود لتطوف حول الجزيرة الصخرية الشهيرة بالجزيرة الصغيرة وقد تصاعد صياحها أكثر.
مئات قليلة من الأمتار تفصل بين المدرسة وبين قصر الملك فاروق. هو لاينظر الي القصر أبدا، وإنما يعطيه ظهره شاخصا ببصره الي الماء والسماء والصخور والطيور محدثا نفسه بصوت يصعب تحديد كلماته لبعد المسافة بيننا. لكني أزعم أنني التقطت يوما تلك العبارة حين نطقها في غضب شديد وكأنه يوجهها الي شخص بعينه:
صحيح أنني فقير..لكني ملك!!

الزحام هنا أمر طبيعي ،فعدد المستفيدين من التأمين الصحي في هذا المبني لايتناسب اطلاقا مع عدد العاملين علي خدمتهم والذين لايتجاوز عددهم عدد أصابع اليدين. تسلحت بالصبر وضغطت علي أعصابي وجلست وسط مئات المرضي منتظرا دوري في الكشف.
فوجئت بممرضة تنادي اسمي ثلاثيا:
طنبولي عبد الواحد القط!!
أهكذا أنادي بدون لقب الأستاذ أو السيد أو..أو..؟!!..أصابتني الصدمة بصمت ذاهل ،فلم أرد عليها ،وإذا بها تكرر النداء ولكن بنبرة مرحة قائلة:
- يا قط !!
أنا قط يا بنت ال....؟؟؟
كان ذلك اليوم هو أول عهدي بالتأمين الصحي وآخره أيضا ،فقد ألقيت بدفتر التأمين في القمامة بعد أن شهدت اشتباكا بين مريض وطبيب وآخر بين مريض وموظفة الاستقبال تبادلوا فيه جميعا أحط ألفاظ السباب،وأخيرا معركة بالأيدي والأرجل بين عمال النظافة وبعض المنتفعين.. التعامل مع هؤلاء الناس والتعايش مع هذا المجتمع يتطلبان قدرا كبيرا من التواضع الذي يصل غالبا الي درجة من التنازل والخنوع ،وهذا ليس من طبعي فأنا أعرف قدر نفسي تماما. لم تفدني قراءة مئات الكتب شيئا أغير به من طبعي. أعرف أيضا أنه من الظلم أن يتساوي الجميع،فجمهور المستفيدين من المشروع الناصري هو خليط من طبقات مختلفة بمستوياتها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية. مشروع التأمين مشروع اشتراكي بحت،فالبطاقة واحدة لجميع المناصب لاتفرق بين كبير وصغير، فيما عدا بطاقات أصحاب المعاشات فمغلفة بغلاف أخضر. كلفني موقفي هذا أكثر من نصف راتبي مقابل العلاج الخاص مابين كشف الطبيب الجشع وثمن الأدوية الباهظ.. رغم ذلك فأنا لست نادما علي مافعلت.

تصفحت أوراق الاستاذ طنبولي باهتمام وقد كتبها في تواريخ متباعدة علي مدي عدة أعوام. حاولت أن أستكشف من مضامينها خطا عاما لأفكاره واهتماماته.

قبلت العديد من دعوات أصدقائي الأثرياء . دخلت بيوتهم الواسعة وفللهم الفاخرة.تناولت طعامهم وشرابهم ولهوت في منتجعاتهم الصيفية والشتوية ونمت علي فرشهم الوثيرة بغرف الضيافة..لكني لم أفكر يوما في امتلاك مثلما يمتلكون. كان استمتاعي بالأماكن والمقتنيات والصحبة استمتاعا مجردا،لافرق أستشعره بين كونهم يمتلكون تلك الأدوات أو أمتلكها أنا. مسألة الملكية أراها ثانوية لاتثير في أكثر من لحظات قليلة للتأمل، أشعر فيها أن الله أكرمني بأن أتاح لي مشاركتهم السعادة والسرور بما يملكون ،مشاركة مجانية لا أدفع فيها أبيض ولا أسود، تماما كما لو كنت أنا مالكها الحقيقي ،فالعبرة بلحظات السعادة المقتنصة من الحياة ولا شيء غير ذلك.. ولقد كنت دائما علي قناعة شديدة بأن الباب الذي تدفعه ريح المقارنة لاينفتح الا علي جحيم..

الحق أنني لم أكن علي ثقة تامة من صدق الأستاذ طنبولي فيما قاله حول زهده في الملكية ،ورفضه مقارنة حاله بحال القادرين. خبرتي بالناس والحياة تقول بغير ذلك. خبرتي بنفسي أيضا تؤكد علي أنني كثيرا ما أغبط الأثرياء الذين أعرفهم علي العز الذي ينعمون به،فمن مصادفات القدر أن معظم أصدقائي أثرياء ،وهم يبادلونني المحبة والصداقة ،لكني متأكد أنني لو كنت فقيرا لكنت عانيت من مشاعر المقارنة البغيضة بدرجة أو بأخري. ان قناعتي بقدرتي الاقتصادية المتوسطة ورضاي بها تجعلاني قادرا بحمد الله علي أن أصون نفسي من الهبوط الي مستنقع المقارنة والألم والاعتراض علي مشيئة الله في توزيعه الأرزاق علي الخلق..ولكن هل كان هذا الوازع متوفرا عند الأستاذ طنبولي؟.. ظللت أبحث في مذكراته عما يجيبني عن هذا التساؤل.

بينما أنا سائر في أمان الله،أنعم بشعور وقتي بالطمأنينة والرضا، فوجئت بحميدو العملاق يعترض طريقي بعد نزوله من عربة فاخرة كان يقودها في مواجهتي. شعره حليق حتي الزيرو. رأسه ضخمة كرأس خرتيت. في طفولتي كانت أمي تسميه الولد الصايع الفاشل ،لأنه لم يكمل تعليمه دونا عن معظم أبناء الزقاق،وانما انخرط في مهن بسيطة ينظر اليها الناس بدونية. لطالما ضربتني ووبختني كلما شاهدتني بصحبته أو علمت أنني كنت أجالسه في أي مكان. لم تدرك أنني أحبه حبا شديدا وأنني معجب بشجاعته وشهامته وجرأته ومساندته لأصدقائه بقوته الجسمانية الجبارة وقلبه الطيب الكبير. كنت أتمني أن اكون مثله في بعض تلك الصفات أو احداها علي الأقل،لكن أمي علمتني الحرص والجبن فانعدمت لدي القدرة علي الاقدام والمبادرة واقتحام الحياة كما يفعل حميدو،خاصة فيما يتعلق بقدرته الفائقة علي اجتذاب الفتيات وتهافتهن من حوله. علاقتي الحميمية بالمرأة لم تتجاوز أمي وزوجتي وابنتي ،وفيما عدا ذلك فقد كانت مجرد سحب عابرة.
بالأحضان التقينا بعد فراق دام سنين طويلة بفعل الزمن وطبائع الدنيا وأسباب الرزق. مازلت أحبه حتي يومنا هذا. حرارة اللقاء سحقت الزمن الذي باعد بيننا ،وعدنا علي الفور طفلين. دفعني بقوة الي عربته حين لاحظ ترددي في قبول دعوته. قال لي آمرا بمحبة فائقة:
أنت اليوم ملك لي رغم انفك
اصطحبني الي أحد مطاعم السمك الفاخرة حيث تناولنا الغداء،ثم الي مسكنه الخاص المكون من دور واحد يطل علي البحر في موقع من أجمل مواقع المدينة. قال لي :
- لن أتكلم معك كلمة واحدة قبل أن تخلع ملابسك
ثم قدم لي جلبابا أنيقا وقال لي بنغمة هادئة رتيبة رصينة :
نم وشخر وأنت في غاية من الطمأنينة ،وقم وقتما يطلب جسمك القيام لنشرب القهوة ونتحدث.
عندما استيقظت فاجأني:
عندي بيرة وويسكي
أشرب قهوة كما اتفقنا
ما رأيك في سهرة حمراء مع امرأتين جميلتين؟
لاياعم. اعفني أرجوك
ما حكايتك يارجل؟؟..لاشراب ولا نساء ولاشيء!!..لهذا وجهك مصفر وسحنتك كئيبة..متي تعيش؟
التزمت الصمت لأني لم أجد الرد المناسب. بذل ما بوسعه لإسعادي بكل السبل التي لم أعترض عليها،كما لو كنت ابنه المدلل.
قضيت معه يوما لاينسي من أيام العمر الجميلة النادرة وعدت الي بيتي. كان من المستحيل ألا اعقد مقارنة بين حالي وحاله بعد مضي هذا العمر. لم أتمكن من الانفلات من عذاب المقارنة الا عندما سلمت كما فعلت كثيرا مع غيره من قبل بحقيقة أن الرزق مكتوب في السماء وأنه الحق مثلما اننا ننطق ،وأن أحدا علي وجه الأرض لايستطيع أن يغير من هذه الحقيقة شيئا.
حتي أستعيد طمأنينتي كاملة سارعت الي شريط الكاسيت الأزرق لأداوي روحي بتقاسيم السنباطي والقصبجي والأطرش وعبد الوهاب. مجموعة تسجيلات متنوعة لعزف منفرد علي العود احتفظت بها علي شريط واحد ألجأ اليه دوما في مواجهة صدمات الحياة بأحزانها وأفراحها وأسميته شريط الفرح والدموع. حين أستمع اليه بمقاماته المتداخلة التي تضفر الحزن في الفرح وتصهر البهجة في الشجن ،أري الدنيا أمامي بحلوها ومرها فتلمع عيناي بدمع جميل ،وأغيب في عالم غامض من النشوة وأذكر الله ،هائما في عالم روحاني لاحدود لبهائه،أفيق من سكره علي حالة نادرة من الرضا والسعادة. الغريب في الأمر أن دموعي كانت عزيزة هذه المرة،مما جعلني أتيقن من قدرتي علي الوثوق بالله والتسليم بأحكامه دون جزع..

لاحظت أن الاستاذ طنبولي لم يشر الي أسرته من قريب أو بعيد حتي الصفحة التي بيدي. قلبت بقية صفحات الكراسة بشغف شديد بحثا عن مذكرات تشير الي عالمه العائلي والي علاقته بزوجته بصفة خاصة ،وبينما أبحث عن هذا السر كنت أتساءل عن السبب الذي يدفع البعض الي كتابة مذكراتهم أو سيرتهم الحياتية علي ورق لايعرفون كيف والي أين يكون مصيره بعد وفاتهم،خاصة اذا كانوا أفرادا عاديين لم يحدثوا أثرا يذكر في الانسانية،بل وربما لم يعرفهم من الكرة الأرضية مايزيد علي مائة شخص علي الأكثر من الأهل والأقارب والجيران وزملاء الدراسة والعمل. لابد أن هناك متعة خاصة يستشعرها كاتب المذكرات حين يتصور انسانا غريبا عنه لا ولن يعرفه وهو يقرأ ذكرياته بعد موته ،فهو لابد ميت ،وقاريء المذكرات لابد ميت،وأنا أيضا لابد ميت..ما هذا؟..كلنا سنموت؟!!..شيء غريب والله!!. قدتكون المتعة في نقل التجربة سواء لمجرد التسجيل أو للانتفاع بها بتجنب الحماقات التي ارتكبها صاحبها في حياته،وفي النهاية يموت الجميع وتموت معهم القضية.
أحببت هذه المذكرات المتناثرة وتأثرت بها وبصاحبها كثيرا،حتي أن حضور الأستاذ طنبولي كان طاغيا ،وكأنني أراه واقفا أمامي بقوامه الرشيق وطربوشه المائل وخيرزانته الطويلة التي لم يكن يستخدمها في أغلب الأحيان الا للتهويش أو الترهيب .

سألني فارس بدهشة بريئة:
- لماذا لم تشتر عربة مثل زملائك المدرسين؟!
حين لمح صمتي المرتبك واصل تساؤله:
- راتبك لايقل عن رواتبهم فما الذي منعك؟
كان من السهل أن أقول له أنهم يتقاضون آلاف الجنيهات من الدروس الخصوصية ،لكني فضلت الصمت متحملا ضغطه علي أعصابي. تمادي ابني في إرهاقي دون أن يدري:
اني أشعر بأني أقل من أبنائهم لحظة مغادرتنا المدرسة
واصلت الصمت..لم يختلف الأمر في شيء عندما سألتني شقيقته:
لماذا لانستطيع أن نقضي الصيف في شاليه أو شقة أو كابينة نمتلكها في أي شاطيء؟
لم أستطع أن أرد عليها هي الأخري لأنني لا أستطيع التدخل في شئون مملكة صاحب الملك.
انفردت بنفسي مع شريط الدموع ولم أبك.تمنيت أن تعلمهما الأيام أنني لست موزع الأرزاق والحظوظ علي الناس فذلك ليس من اختصاصي ولا أقدر عليه.. وحتي أدفع عن نفسي تهمة التقصير في تربية أولادي ،تشجعت فقلت لهما بحضور أمهما:
ياحبايبي..أنا لاأمتلك الاجابة عن أسباب تعاسة بعض الناس وسعادة بعضهم دون منطق مفهوم..

توقفت عند هذا الحد من المذكرات بعد أن فهمت كيف تعذر علي الاستاذ طنبولي أن يجيب علي الأسئلة المطروحة،فقرر بحكم كبريائه الملكي أن يطرحها علي مجهولين لايعرفهم ولايعرفونه من خلال هذه الكراسة. ثم اني انتهزت الفرصة لتصفح كراستي الكبيرة لأستحث نفسي علي الاعجاب بقدرتي علي رقابة نفسي وتنظيم حياتي منذ الصغر، رغم أني لم أجن ثمار هذه المقدرة بما يكفي لإرضاء أبنائي.. ومع ذلك فمازلت راضيا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.