كانت الراقصة اللهلوبة، تتلوي ببراعة مشهورة ومحسوبة، علي أنغام الموسيقي الإيقاعية الصاخبة، وكان الطبال المحترف (جدا) يوشك أن يرقص بيديه وأصابعه علي الطبلة، من فرط انسجامه من ناحية، وانضباط حركات الراقصة، من ناحية أخري، بالملهي، علي نقره البارع، المحتوي علي قدر لابأس به من الرقاعة والتهتك.. اللذين أصبحا من فرط التكرار علي ما يبدو، طبيعة ثانية له، لايبدو أنه يقصدها أو يشعر بها حتي.. كما يشعر بها المشاهد الغريب الذي يري للمشهد كله لأول.. وربما لآخر - مرة! الراقصة أجنبية، روسية في الغالب، من هاتيك الفتيات الرائعات الجمال، بشعرهن الأشقر وبياضهن اللافت، وأجسادهن الممشوقة المضبوطة، وطولهن الفارع، اللواتي انتشرت انتشاراً هائلا في منطقة الشرق الأوسط كلها، بعد الانهيار المدوي للاتحاد السوفيتي السابق، ولاتدري كيف وصلن- أو نسبة كبيرة منهن - إلي اختيار الرقص الشرقي مهنة لهن، وكيف برعن فيها كل هذه البراعة اللافتة في الحقيقة، برغم شعورك أن هذه البراعة الفائقة والمضبوطة جدا، والمنسجمة تماما مع نقرات الطبال وإيقاعات الموسيقي، بل واندماج المشاهدين وتمايلهم وتصفيقهم المنتشي للراقصة والطبال.. ولكنك تشعر أن هذه الراقصة الأجنبية البارعة.. ينقصها شيء هام لاتدري ما هو بالضبط!.. الحركات مدروسة جيدا، والتقنيات علي أعلي مستوي، وحركة الجسد شديدة البراعة والإغراء، والبنت نفسها غاية في الجمال، ولكن لعل ما ينقص الموضوع كله، هو هذا الجزء الخفي دائما الذي يخص "الشرقية".. يخص جوهر الروح المصري، يخص.. هذه الطبيعية الكاملة في أنوثة وأداء الراقصة الشرقية المصرية، ويغيب عن الراقصة الشرقية الروسية، رغم براعتها اللافتة، ورغم انها قد تكون أجمل وأكثر طولا (فرعة) كما نقول، وجسدها أكثر جمالا في تناسقه وتناسبه بلا شحوم زائدة، أو مناطق مترهلة.. الخ، هي ليست أصيلة - في العمق - في رقصها الشرقي المصري.. وإنما (تايواني) أو (روسي) بمعني افتقارها لأصالة الراقصة المصرية (الطبيعية) بما انها النسخة المقلدة، التي قد لاتخطيء في القواعد والأساليب والتقنيات، وقد تبرع في كل ذلك - كما قلت - ولكنها تفتقد إلي ضبط الخلطة بشروية ملح وفلفل، لاتضبطهما تماما إلا الراقصة الشرقية المصرية، حتي لو لم تلتزم بالقواعد، وحتي لو كان في جسدها بعض العيوب، وحتي لو لم تكن بمثل هذا الجمال الفائق والشعر الأصفر والبياض الشاهق!
كان مضيفي، العالم المصري الكبير، والذي دعاني لحفل زفاف ابنته، مندمجا غاية الاندماج مع الراقصة.. يعابثها ويضاحكها، هو الذي اشتهر بيننا دائما بالمرح وخفة الدم.. كان بادي السعادة، كأي أب فرح بابنته في ليلة عمرها.. لايكف عن الترحيب بضيوفه جميعا، والاحتفاء المخصوص بكبار القوم منهم، فهو عالم مصري مرموق، وكان دائما في مواقع قريبة من مراكز صنع القرار بحكم عمله وتخصصه الدقيق، وهو رجل له معادلات علمية شهيرة في علوم دقيقة وحساسة تعرف باسمه في الأوساط العلمية والعسكرية العالمية، وهو قد أحيل إلي الاستيداع مبكرا لأسباب حساسة جدا، لانستطيع الاقتراب منها الآن لاعتبارات لاتخفي! واضطر - بذلك الخروج المبكر من ذروة الفاعلية والتأثير - إلي معاودة التدريس في الجامعات المدنية المختلفة، في القاهرة وغيرها، وإلي عقد بعض الصلات مع القطاع الخاص، فيما هو - هذا القطاع- ينشيء القري السياحية علي شواطيء البحار المصرية غربا وشرقا وشمالا وربما جنوبا.. فيقيم لهم عالمنا الكبير محطات تحلية مياه البحر لقراهم السياحية تلك.. هذا غير تأليفه للكتب العلمية المبسطة للناشئة والشباب، وتقديمه للعديد من البرامج الإذاعية وفي قنوات التليفزيون المختلفة، تعريفا بالعلم، وتبسيطا له، وحثا للشباب علي الاستزادة منه والتعرف عليه، والأهم، انه يعرف بالجوانب الاقتصادية الواعدة لما كان يقدمه من مشاريع علمية تشجيعا للشباب وحثا لهم علي التفكير في ميادين غير تقليدية للكسب والاستثمار، وان هذه الميادين لازالت بكراً في بلادنا وتنتظر الاقتحام الجريء لها من قبل الدولة أو الأفراد، أو الشباب خصوصا، الذين كان يشجعهم علي ذلك.. هذا غير ما كان يقدمه باستمرار من بحوث علمية جديدة في المجلات العلمية العالمية المحكمة المتخصصة، ويحضره من مؤتمرات تحاول الاستفادة من خبراته وعلمه الواسع حينما قام بجولته المضيافة المرحبة بضيوفه، والاطمئنان علي احتلالهم لطاولاتهم ومقاعدهم، عاد إلي طاولتي التي اتخذها مستقرا له ومقاما، فالصداقة بيننا طويلة، والحواجز جميعها مرفوعة بيننا.. قلت له مداعبا: - شكلك.. ح تاكل من الرقاصة حته يادكتور! - بذمتك.. انت مش عايز تاكل انت راخر؟ نضحك معا ضحكة العواجيز الذين لم يعد لهم لا في التور ولا في الطحين ومن ثم يتشدقون بالكلام.. محض الكلام الذي ليس عليه جمرك. - جبتها منين دي يادكتور؟ - ياسيدي.. دي مع الفندق.. دي راقصة القاعة اللي حجزناها.. أنا لاجبت ولا وديت! - وكم كلفتك هذه الراقصة اللهلوبة؟ - يكفي أن أقول لك انها تقاضت - في هذه الساعة - هي وفرقتها.. ما يوازي دخلي من التدريس والقطاع الخاص - وأنا من أنا - في عدة سنوات كاملة!! - ولماذا - في رأيك يا دكتور - وأنت من أنت.. العالم الكبير.. الخ ميزان الأمور في بلادنا مختل بهذا الشكل.. بين الراقصة والعالم؟! فرد بسرعة مداعبا ومعرضا بلطف: - وبين الراقصة والشاعر يا أستاذ.. أو الكاتب.. كم تتقاضي أنت عن كل مقال تقدح فيه زناد عقلك، وتكدح فيه حصاد فكرك.. وتعود - لتكتبه جيدا - إلي مراجع ومصادر وكتب ومؤلفات؟ فقاطعته: - لا أختلف معك كثيرا، ولكن لعل الأمم فيما هي تسعي للنهوض، لاتحتاج إلي الشعر حاجتها إلي العلم والتقدم التكنولوجي، والتفوق التقني.. الخ - اسمح لي، فأنا لا أظن أن بلادنا - حتي الآن - مهتمة بهذا اللحاق (حقا) بالأمم المتقدمة، وبالأخذ بأسباب العلم والتقدم والنهوض.. إلخ - عودة إلي السؤال.. لماذا؟ - لماذا هناك أسباب كثيرة.. ليس هذا مجال طرحها، أو الخوض فيها حتي خصوصا في هذه الليلة التي لا أريد أن أفسدها بهذا الحديث الذي دائما ما تجرنا إليه، أيها الشاعر الذي لايكف عن التحليل والبحث عن تحليل.. .. عن اذنك شوية.. وانفلت مرحبا بضيوف مهمين دخلوا القاعة في هذه اللحظة، واصطحبهم بلطف ودماثة حتي أجلسهم، واطمأن علي راحتهم، وهو، لايفتأ يلقي علي مسامعهم بكلمات الترحيب وعبارات الاقبال وحسن الاستقبال، وبعد قيامه بجولة ترحيبية عامة.. عاد إلي قاعدته المحببة علي مائدتي المتواضعة.. وعاجلته بسؤالي: - ولكنك لم تجبني يادكتور.. عن السبب في ارتفاع أجر الراقصة - مثلا هذا الارتفاع الكبير جدا بالقياس إلي مستوي المعيشة السائد وإلي مستوي دخول الناس.. عموم الناس.. في المتوسط.. وانخفاض أجر العالم أو الكاتب مثلي.. أو غير ذلك من المهن الجادة.. مقارنة بها.. بمعني أن الراقصة والممثل ولاعب الكرة والمطرب - مثلا- ترتفع أجورهم وعوائدهم ارتفاعا كبيرا بالنسبة للعالم والباحث والأستاذ الجامعي والمهندس والكاتب والصحفي والمدرس.. إلي آخره؟! فسرح ببصره ناحية الكوشة، التي كانت تجلس فيها ابنته، سعيدة ومتألقة وفرحة مع عريسها، ولكنه لم يكن يركز بصره علي الكوشة في هذه اللحظة.. إنما هو اتخذها تكئة للسرحان والتأمل فيما يوشك علي قوله إجابة لسؤالي: - أظن ياصديقي.. أن السبب واضح وضوح الشمس (من وجهة نظري علي الأقل). - وما هو - في ظنك - السبب يا عالمنا الجليل؟ - السبب - في رأيي - وتأمل معي بهدوء.. أن الأمم فيما هي أبعد عن التقدم والعمل والانتاج، وأقرب إلي الكسل واللهو والعبث والمتعة وإرجاء الوقت (لا السباق مع الزمن).. كلما علت فيها - بنفس الدرجة - أقدار ومراتب ومقامات مهن (المتعة).. علت فيها - بنفس الدرجة - أقدار ومراتب ومقامات مهن (المتعة).. مهن (التسلية) و (اللهو) و (التمتع) بشكل عام.. وطبعا علي حساب - كما قلت - مهن العمل والكدح والاختراع والتجديد والتقدم والتعمير والبناء.. بناء الفرد، أو بناء الأمة، بناء الحاضر، أو بناء المستقبل، ولذلك تأمل معي من هذا المنظور أصحاب الدخول المرتفعة جدا في هذا الوطن، وأصحاب الصدارة (الاجتماعية) فهي.. الذين تزين صورهم - في العادة - الجرائد والمجلات، وتمتليء بأخبارهم الصحف، ويملأون دائما شاشات التليفزيون وتتابع وسائل الإعلام حركاتهم وسكناتهم، ستجد أنهم أصحاب مهن (المتعة) و (التسلية) و (اللهو) و (اللعب).. من الراقصة.. للممثل.. للمطرب.. للاعب الكرة.. كلها مهن مسلية.. ممتعة لاهية، أما أصحاب الكد والكدح والبناء والتعمير والتفكير والتخطيط والتقدم والبحث العلمي، وبناء الأفراد والأجيال في المدارس والجامعات.. مهن العمل والعرق والجد للنهوض واللحاق بالأمم.. فهي الأدني درجة (الآن).. وهي المهن التي تبقي في الظل.. وتتدني تقديراتها المادية تبعا لذلك، وما تحصل عليه من مقابل متدهور، يكافيء نظرة المجتمع لأصحاب هذه المهن.. التي تبني ولاتسلي.. تعرق ولاتدغدغ.. تكد ولاتمتع.. وتشقي ولاتعبث! ولذلك، من وجهة نظري.. (والله أعلم في كل الأحوال) فأنا أحكم بهذا المقياس علي تقدم الأمم والشعوب.. حينما أسافر لحضور المؤتمرات في بلدان العالم المتقدم المختلفة.. وألحظ، كيف يضعون العالم والمفكر والكاتب في مرتبة عليا، إن لم تزد - أحيانا - فلا تقل عن مكانة الممثل ولاعب الكرة والراقصة والمغني.. بل انه من الممكن أن تجد في هذه المجتمعات المتقدمة، نجوما من العلماء والكتاب والمفكرين. أعرف - فورا- أن هذا مجتمع متقدم.. ويتقدم باستمرار.. وبالعكس، كلما لاحظت تدني قيمة العالم والكاتب والشاعر المفكر والأديب في مجتمعنا بالقياس إلي الراقصة والطبال.. أدركت بما لايدع مجالا لأي شك اننا مجتمع متخلف.. مانزال! سكت قليلا ثم واصل بلهجة حاول جاهدا أن تكون مرحة: - ولذلك.. يحق لهذه الراقصة الأجنبية اللهلوبة، أن تتقاضي مني أنا العالم في ساعة من ليلة أريد أن أفرح فيها بزواج ابنتي.. أجرا يوازي عملي وكدحي العلمي في أكثر من جهة.. ليل نهار.. ولمدة عدة سنوات كاملة.. ولعلمك أنا أحسن من غيري من علماء أفاضل كتير جدا! ونظرت إليه طويلا، حينما أنهي حديثه بنظرة شاردة متأملة ناحية الكوشة.. أما أنا.. فسكت لم أنبس بكلمة!!