من البديهيات المفروغ منها عند درسنا، أو محاولة اقترابنا من ميدان معرفي معين، من ميادين الفعاليات الإنسانية المختلفة، أن نبدأ أولا بتعريف طبيعة هذا الميدان، والحدود التي يشتمل عليها نطاقه الخاص، هذه الحدود، وتلك الطبيعة، الفارقين له عن نطاق معرفي آخر، وفعالية إنسانية مغايرة، ولكننا ما إن نحاول القيام بهذا الجهد علي مستوي الفنون التشكيلية حتي نواجه بتلك المشكلة التي عادة ما تواجه كل محاولة للتعريف يقوم بها الدارس لفعالية من فعاليات الإبداع الفني للإنسان، ليس لأن هذا النوع من النشاط الإبتكاري مستعصيا بطبيعته علي التعريف، وإنما لأن تلك العملية الإبداعية برمتها التي يقوم بها الإنسان أعقد وأكبر اتساعا، وأكثر اشتمالا علي العديد من المكونات والعناصر والتفاصيل، والتي يصعب معها - لكل ذلك - إمكانية انتظامها في تعريف ما في النهاية مهما بلغ من دقته، وتبقي - من ثم - أي محاولة للتعريف، هي من باب الاجتهاد الذي يقبل النقض، ومن قبيل المحاولة التي تحتمل الخطأ، ويبقي أيضا أن أي تعريف من هذا النوع سيقترب من موضوعه اقترابا ما، من ناحية من النواحي، وزاوية من الزوايا.. أما أن نتصور - خصوصا في ميدان كميدان الفنون التشكيلية - أن ثمة تعريفا جامعا شاملا مانعا لا يأتيه النقض من أي جانب من جوانبه، ولايعتريه الاختلاف والتغيير فيما يقبل من أيام، ويستجد من تطورات، فهذا ضرب من المحال فيما أظن وأعتقد! وحتي يكون كلامنا أقل تجريدا، فهل التعريف الأمثل للفنون التشكيلية أن نقول مثلا.. انها تلك الفنون التي تقوم علي إبداع عمل فني جديد باستخدام مجموعة من المواد المختلفة - المادية تحديدا- التي لم يكن لها معني قبل أن يستخدمها الفنان وأن الفنان بتشكيله الخاص بهذه المواد الحيادية في ذاتها أو المفتقدة للمعني يصبغ علي هذه المواد فيه مغايرة لم تكن لها والأهم انه يطبعها بطابعه الإنساني، ويسميها بميسمه الإبداعي الخاص الدال عليه، والمعبر عن قيمه، في لحظة تاريخية معنية، وظرف اجتماعي بعينه. هل يشكل هذا التعريف نوعا من الاقتراب، وشكلا من أشكال التحديد، باعتبار أن الفنون التشكيلية تفترق عن الفنون القولية أو الأدبية التي تستخدم اللغة (كالشعر والقصة والمسرحية المكتوبة.. الخ) في أنها تشيد عالمها من لبنات مادية ذات حجم وكثافة وكتلة ومساحة وتحيز في الفراغ، وليس من محض كلمات لا جسم مادي لها في ذاتها. فالفنون التشكيلية - ببساطة - تستخدم الأخشاب والأقمشة واللوحات والأحجار والمعادن المختلفة، وكل ما يخطر وما لا يخطر علي بالنا من مواد متباينة، وتشكل من كل هذه المواد الغفل أعمالا فنية ذات قيمة معينة، ومعني خاصا كما ألمحنا من قبل. وربما لذلك سميت «بالفنون التشكيلية» لهذه الخصيصة التكوينية التي تجمع بين القماش والخشب والحديد في كل متناغم ومنسجم ومتناسج لايعود به القماش مجرد قماش ولا الخشب محض خشب، ولا الحديد حديدا فقط، وإنما تتحول هذه المواد البكماء الخرساء ذاتها.. إلي كيان جديد متجاوز عناصره المادية الأولية البحتة هذه.. يمتلك القدرة علي التحليق بك - كمتذوق - إلي سموات أكثر ارتفاعا بالتأكيد، وإلي عوالم أكثر سعة بدون شك، عن محض الحديد والخشب والقماش، بل ان المرء في لحظة من لحظات تأمله للعمل الفني التشكيلي يكاد ينسي تماما - أو يتناسي علي الأقل- أن هذا العمل الفني البديع، الذي يخاطب العقل والروح والوجدان، هو محض هذه المواد المصمتة التي لاتسترعي نظره، ولاتستلفت انتباهه في العادة. هل نقول إذن، أن الفنون التشكيلية، هي هذه المواد الغفل التي تزخر بها الطبيعة المادية + الإنسان الفنان بخياله الفني المتجاوز، وظرفه الاجتماعي الخاص، ولحظته التاريخية المعنية، والأهم درجة وعيه وإدراكه وموقفه ورؤيته لكل ذلك. أم هل نقتصر علي تعريف شكلي آخر يقول، ان الفنون التشكيلية هي التصوير، والرسم، والخزف، والنحت، والتصميم، والعمارة، والصياغة، والإعلان، وأشغال المعادن والخشب والحديد الزخرفي والنسيج والديكور.. الخ.. الخ. أم هل نقول - من منظور تاريخ الفن- ان الفنون التشكيلية هي الشواهد الماثلة، والأدلة المتجسدة، والمؤشرات الحية علي الطوابع الحضارية للأمم المختلفة، وللثقافات المتباينة، فلعلنا قرأنا تاريخ مصر الفرعونية الاجتماعي والسياسي والروحي والعقائدي والحضاري من خلال آثارها الفنية بأكثر مما قرأناه من خلال النصوص المكتوبة المنحدرة لنا والمنقوشة أيضا علي جدران معابدها ومسلاتها ومقابرها وأهراماتها.. الخ، وكذلك فعلنا مع الفن السومري والبابلي والآشوري والفينيقي والإغريقي وفن عصر النهضة والفن القبطي والقوطي والبيزنطي والإسلامي والصيني والياباني والهندي والفن الحديث، وفنون القوميات والحضارات القديمة المختلفة في الأمريكتين، كفنون هنود الويشول، والهنود الحمر، وفن حضارة الأزتيك بالمكسيك.. الخ.. الخ. هل نعود لنؤكد انه لولا ما تركته هذه الحضارات المختلفة وراءها من شواهد فنية ومعمارية، فما كان لنا أن نعرف الكثير عن هذه الحضارات.. هل نقول إذن.. أن الفن هو البصمة الخاصة بكل أمة، الدال علي حضورها ووجودها وتميزها في الأرشيف الخاص بتاريخ الوجدان والإنسان وتاريخ إبداعه. علي أية حال، لا أريد أن يستغرقنا التعريف، ويستوقفنا أكثر مما يجب، لأنه سيظل في النهاية هو بعض من هذا الذي قلناه، أو هو كل هذا الذي قلناه، ولكنه - في الحالتين - لن يفي أبدا بالإحاطة الكاملة بهذا العالم الساحر الجميل، عالم الفنون التشكيلية!
أريد للتأمل الثاني في هذا المقال أن يدور حول هذا السؤال.. أين نحن الآن - كوطن عربي كبير - من الفنون التشكيلية؟ وأين هي منا؟.. هل يحتل فننا التشكيلي المعاصر المكان اللائق به، بالنسبة للتراث الفني الأصيل والمتجذر لهذه الأمة؟ هل حقق، أو استرد بمعني أصح، مكانه الجدير به، والذي فقده في عصور الانحطاط والظلام التي تسيدته طويلا؟.. هل استطاع أن يتحرر من النموذج المستبد والوحيد الذي طرحته وفرضته حضارة المستعمر الأوروبي الذي ران بعسكره وفكره وفنونه وثقافته كلها طويلا علي جسد هذه الأمة، ومازال بشكل أو بآخر؟.. هل تحررنا حقا كفنانين تشكيليين عرب، ولا أفرق هنا بين بلد عربي وآخر - إلا في الدرجة -أقول هل تحررنا حقا علي مستوي البصر التشكيلي والبصيرة الإبداعية.. من سطوة العين الغربية، وزاوية النظر الأوروبية، ومن ميكانيزمات العملية الفنية - فهما ووعيا وإبداعا - كما ترسخت وتأصلت واستقرت لديه (لدي الفنان الأوروبي أقصد وحضارته الغربية)؟ لا أظن أن بوسعي أن أقدم إجابات.. قصاري ما أستطيعه أن أعرض هواجسي وتأملاتي لنتشارك فيها جميعا.. وقبل أن نستعجل الإجابات بالإثبات أو بالنفي أحب أن نتأمل بعض الثوابت والرواسخ في فعالياتنا الثقافية والفنية الآن.. علي سبيل المثال.. ألا نقيس أنفسنا - بوعي أو بدون وعي، بشكل أو بآخر، بإرادةأو بدون إرادة، وفي أي مجال، ليس في مجال الفن التشكيلي فقط، ألا نقيس أنفسنا، ومدي صحتنا وصوابنا علي هذا الآخر الغربي وان كان بعضنا سينكر ذلك وبشكل مباشر، وربما بشدة، لأنني أطرحه بدون أقنعة أو مساحيق.. وإذن دعني أسأل هذا المعترض - إذا وجد - وليجبني.. حينما نتكلم عن «العالمية» في الأدب والفن، أو حينما يحتج أديب أو شاعر أو فنان تشكيلي عندنا.. بأن أدبنا أو شعرنا أو تشكيلنا لايصل للعالمية.. ويتساءل مخنقا عن السبب، مثل هذا الفنان.. ماذا في ذهنه وهو يتكلم عن (العالمية)؟.. أليس في ذهنه أن يحظي أدبه أو فنه أو شعره برضا هذا الآخر الغربي.. هذا المثل الأعلي الأوروبي.. وإلا بالله عليكم ماذا نقصد بالعالمية؟ أريد أن أختصر الأسئلة والهواجس والتأملات.. وأقول.. اننا إذا اتفقنا علي شرعية هذا الأفق الذي تحلق في سماواته هذه الأسئلة.. والا أقول إنها خاطئة أو صائبة وإنما أقول فقط بشرعية طرح مثل هذه الأسئلة.. أقول.. بأي مني إذن نحن نتكلم عن فن تشكيلي يخصنا؟.. وإلي أي مدي نحن واقعون في اخطبوط النموذج الفني الأوروبي باعتباره الحضارة السائدة الآن، والتي فرضت أطروحتها علي كل صعيد، وما معني علي سبيل المثال، أن يخرج لي فنان عربي، في أي مكان من الوطن العربي، بلوحات سريالية مثلا تعيد انتاج السريالية الأوروبية التي أنجزت في الربع الأول من القرن العاشرين السابق، نتيجة العديد من الظروف والملابسات الخاصة بشكل طبيعي مع مجتمعها ومع تاريخها ومع ظروفها ومع تطورها الأدبي والفني والتقني والعلمي.. الخ، ما معني أن يستعير فنان عربي هذه الرؤي في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وبمعزل عن أي ظرف تاريخي أو اجتماعي يبررها؟ والأهم أبن هو " في هذه الحالة بمعني الإبداع" النسج علي غير منوال سابق، بمعني جدة الكشف، وطزاجة الرؤية، وخصوصية الموقف، وأصالة الطرح.. أين هو الإبداع في هذا التقليد مهما بلغ من براعته التقنية في الرسم والتلوين والنقل والاستيحاء؟. وربما يكون من الطريف في هذا السياق.. الإشارة إلي واقعة حدثت ذات مرة في واحد من المعارض الفنية العربية في بلد من البلدان الأوروبية، حينما علق أحد زوار الجناح التشكيلي من الأجانب.. انهم لايهتمون إطلاقا بهؤلاء الفنانين الذين ينهجون في لوحاتهم الطرائق والمناهج وزوايا النظر الأوروبية.. لأنهم يشعرون بأن هذه بضاعتهم ردت إليهم، ولكن ما يشدهم حقا هو تلك الأعمال الصادقة والأصيلة في تعبيرها عن واقعها وتقديمها لأطروحة بصرية وتشكيلية مختلفة وأصيلة ومبهرة بالنسبة لهم، لأنها تطرح جديدا علي أبجديتهم التشكيلية والبصرية المألوفة.. هذا هو الأوروبي أو الغربي الذي نجهد أنفسنا في تقليده واحتذائه، هو نفسه لايعير تلك الصور واللوحات والرؤي التي تقلده أي اعتبار، لأن سيبقي انجازه في النهاية وكشفه وإبداعه.. وسيبقي المقلد مقلدا مهما برع، أما بصمتنا الخاصة، وخصوصيتنا، وإدراكنا لطبيعتنا المغايرة علي كل المستويات، فهي وحدها التي تشد هذا الأوروبي عند ترجمتها فنيا وإبداعيا يكفي أن نتذكر، أننا من بلاد لاتغيب عنها الشمس، وهذه ليست ملاحظة عابرة، بل هي ملاحظة بؤرية وأساسية جدا في ميدان الإبداع التشكيلي.. الأشياء والمرئيات دائما عندنا مغمورة بالضوء، رافلة في الوضوح، ساطعة للعيان.. كل تفاصيل الوجود من حولنا.. وهذه المسألة - جوهريا - لابد أن يتولد عنها وعي بصري مغاير تماما لهذا الوعي المتولد عن بلاد ترفل في الضباب معظم أيام السنة، ولاتري الشمس إلا لماما.. ما معني أن أقلد هذا الأوروبي إذن؟.. ما معني أن أتنازل عن استقلالي الفني والبصري لحساب أن اتبعه بصريا وتشكيليا؟. ليس علي الأوطان العربية فقط أن تتحرر من التبعية بكل أشكالها لهذا الآخر الغربي المسيطر، وإنما علي الفنان العربي أيضا أن يتحرر من التبعية البصرية والرؤيوية للفنان الغربي المختلف عنه والنقيض له.. من أجل ميلاد فن عربي معاصر وحقيقي وأصيل.. ومعاصر هذه لاتعني بحال التبعية للنموذج الغربي، ولكنها تعني ببساطة الوعي بالخصوصية وبالتراث الممتد، في إطار من الوعي أيضا بلحظتنا الحضارية الراهنة بكل أبعادها ومستوياتها وتجلياتها.