إن الأصيل والحقيقي في الحياة لا يحتاج إلي دفاع عنه إنه يدافع عن ذاته من خلال الطاقة الجمالية والفنية الكامنة فيه والمكتسبة عبر الزمن ، فالأعمال الفنية في لحظة إبداعها هي انعكاس مباشر وتكثيف للحظة إنسانية وحياتية معينة بما تحمله من أبعاد ثقافية واجتماعية وسياسية ، وهنا تصبح الأعمال الفنية عبارة عن رسائل معتمدة عابرة للتاريخ وللجغرافيا ، فكثيرا ما نجد حضارات كبري - الفرعونية والإغريقية علي سبيل المثال - قد قامت وملأت الدنيا ضجيجا ثم انتهت ولم يتبق منها إلا فنونها - العمارة والتماثيل والجداريات - لتحكي لنا عن هذه الحضارات ..!! وتخوض الثقافة العربية حالة خاصة من التصارع بين «ثقافة الذاكرة» التي هي تثبيت لما حدث وبين «ثقافة الإبداع» وهي تجاوز لما حدث بهدف إنشاء واقع جديد أكثر جمالا واحتمالا ، لذا فلابد وان هناك لغة تعبيرية بصرية خاصة بنا يمكننا أن نتخاطب بها ونخاطب بها العالم ننقل لهم ثقافتنا وفكرنا وفلسفتنا في الحياة . وفي هذا السياق تأتي أهمية محاولات تحديث الذائقة العربية بصريا وجماليا . وتأتي أهمية الفن والفنون كلغة تخاطب عالمية تشتبك مع كثير من الترسبات التاريخية الراسخة في الثقافة العربية علي أنها ثقافة سمعية «حكائية» تعتمد علي مفهوم الراوي والسير الشعبية - أبوزيد الهلالي وعنترة وسيف ابن ذي يزن - وليست ثقافة «بصرية» تهتم بالشكل أو الصورة خصوصا في هذا العصر الذي اختطفته التكنولوجيا وما تقذفنا به ليلا ونهارا من عصف صوري ..!! إن الرأي الذي يقول إن الوطن العربي يملك الكثير من عوامل الوحدة والتاريخ المشترك التي تمكنه من القدرة علي إيجاد ثقافة موحدة , ومنها هوية واضحة للفن التشكيلي الحديث ، هو رأي يميل إلي الأمنيات والعواطف في عصرنا الراهن أكثر مما يميل الي حقائق وآليات مرتبطة بالواقع بكل أبعاده الثقافية والسياسية والتاريخية ، وفي هذا السياق تتجاذب وتتقاطع العديد من الآراء في كل الإتجاهات حول مفهوم الهوية بين مؤيد معارض .. وكأنه «قميص عثمان» الذي يرفع في وجه كل المخالفين والمختلفين ..!! ويدور حاليا صراع فكري بين المثقفين العرب حول مفهوم الهوية وأهميته للعالم العربي ، فالبعض يدعو الي ضرورة بناء «هوية فنية عربية» ترتكن الي موروث ثقافي عريق تمتد جذوره الي أعماق التاريخ .. وضرورة المحافظة علي ما تتمايز به الثقافة العربية وسط كل ثقافات العالم ، بينما يتحدث البعض الآخر عن «أوهام الهوية» وبأنه مفهوم ماضاوي قد تجاوزه الزمن سيؤدي الي الإنفصال عن العصر .. والانقطاع عن الواقع المعاش والانغماس في الماضي ..!! وهذه الآراء في مجملها تحتاج الي مراجعة ونقاش جدي ، فمن المؤكد أن التراث العربي زاخر بأشياء كثيرة تستحق أن نحافظ عليها ونفخر بها .. لكن من المؤكد أيضا أنه ليس كل ما في ثقافتنا وتراثنا جيد ويصلح لتفاعل صحي مع هذا العصر ، والسؤال الذي يفرض نفسه هو لماذا يرتكز مفهوم الهوية علي مفرادات ومعاني «التراث» فقط ، ولا يرتكز علي مفهوم «المعاصرة» أيضا ، فهل الهوية تعني بالضرورة الانتماء الي «الماضي» والتاريخ ولا تعني الانتماء الي «الحاضر» والعصر الحديث ..!! ثم منذ متي كان التراث مجالا للتقديس والخنوع والسيطرة ..؟ لماذا لا يكون التراث قاعدة للانطلاق صوب فضاءات المعرفة والإبداع الرحبة ، رحابة الحرية والوجود ذاته ، فلماذا لا تكون الهوية دعوة للتفاعل الحضاري بدلا من أن تكون ذريعة للعزلة والانغلاق ...!! لقد كبل الفنان المصري والعربي نفسه بسؤال الهوية في سياقه التوافقي ، ذلك أن التوافق لا يمكن أن يحصل في مجتمع يحتاج الي وصفة تحررية ، تديره قوي تتخذ من الهوية في صورتها التراثية الضيقة خيوطا خفية لتحريك الجماهير والتحكم فيها ، فمفهوم «الهوية» لا يعني الجمود بل هو مفهوم متنامي ديالكتيكي مرن قابل للتعديل والتطوير وتقبل أي قيم جديدة تجمع عليها الجماعة الوطنية ، خصوصا في ظل ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات التي غيرت كثيراً من التوجهات والمفاهيم والعلاقات وجعلت العالم قرية صغيرة ، فاليوم ما من شيء محلي إلا الفلكلور ..!! فالفكر الإنساني يؤثر ويتأثر بما يموج به العالم من تيارات واتجاهات ، وكثيرا ما تأثرت الحضارة الأوروبية بالحضارة العربية في أزمنة سابقة ..!! والفنون هي في البداية والنهاية عمل إنساني يتفاعل معه الجميع بصرف النظر عن النوع أو اللون أو الجنس ، ورغم ذلك مازال المجتمع العربي يشتبك في جدال فكري حول جدوي الحداثة من عدمها في حين دخلت الحضارة الغربية حقبة زمنية وفكرية مغايرة هي حقبة ما بعد الحداثة ، لذا فمن الضروري العمل علي قيام وعي عربي نقدي قادر علي الفرز والاختيار بين الاتجاهات الثقافية والفنية لاختيار ما يتوافق مع احتياجاتنا لمشروع الحداثة المصرية والعربية . فالهوية في الفن هي معادلة خاصة بين الذات والزمان ، فالعالم مختلف لكنه ليس واحدا ، وحتي في ظل العولمة أيضا ليس واحدا لأن التكوين الثقافي الإجتماعي والجغرافي والتاريخي حتما مختلف من منطقة الي أخري .. وإلا بدا جميع الفنانين كنتاج لمصنع واحد بنفس القالب ، وهذا يعني التأمل في المنتج الخارجي لكن دون أن يكون لهذا عواقبه علي العمل الفني بل يأخذ ما يراه يثري وجدانه وأفكاره بالبحث في منهج التفكير ذاته وفي التقنيات الجديدة .. أي يأخذ ما يساعده في أن يقدم عملا حاملا لبصمته الجينية وله في نفس الوقت لغته العالمية ..!! وتعد فكرة التفاعل بين الحضارات هي المحرك الأساسي لمعظم حوادث التاريخ الإنساني سواء كان هذا التفاعل علي شكل «حوار» أو علي شكل «صدام» فالثقافة والفنون في النهاية هي نتاج سلوك إنساني جامع علي مر التاريخ ، وعندما نتكلم عنها يجب حينها أن ننسي فواصل الجغرافيا المصطنعة ..!!