بينت الإسبوع الماضي طبيعة مأزق المثقف في رواية فواز حداد (عزف منفرد علي البيانو). فالمثقف العقلي المستقل واقع بين مطرقة السلطة وسندان الجماعات المتأسلمة بهذا الترتيب. والترتيب في هذه الرواية الجميلة ليس صدفة، وليس صدفة أن فاتح يعمل في بنك المعلومات، فالمثقف هو بنك معلومات أمته، وهو زرقاء يمامتها، بالرغم من إساءة الجميع استخدام معلوماته ونبوءاته. وهو لهذا مصدر قلق سلطات الزمن الردئ. فأزمة فاتح هي أزمة المثقف العلماني الذي يعاديه المتدينون، ولايثق فيه التقدميون اليساريون، وترتاب فيه الدولة لرفضه الاستئناس والاحتواء. فهو «مفكر محترم لم يبع قلمه لأية جهة، مع أن بيع الأقلام والعقول للدول الغربية والنفطية أصبح سائدا تحت عناوين دارجة: صحافة حرة، مراكز أبحاث، لجان حقوق إنسان، جمعيات نسوية، جماعات الدفاع عن الحريات ... إلخ».(ص94) في مواجهة المثقف فاتح تقدم لنا الرواية الخبير الأمني الحزبي سليم، «بنبوغه اللافت» وتأرجحه في تقييم فاتح. ففي نفس الزيارة ينتقل في تقييمه له من نقيض إلي آخر، ومن كونه مثقفا محترما، إلي أنه إرهابي متخفٍ أو عميل مزدوج. وإذا كان مثقفنا ليس مثقفا عضويا حسب تعريف جرامشي، فإن الخبير الأمني هو ابن السلطة العضوي، وأداتها في فرض هيمنتها علي الواقع من ناحية، وفي التعامل، نيابة عنها أو ممثلا لها، مع جهاز الأمن الدولي العابر للقارات من ناحية أخري. إلي الحد الذي تجعله الرواية إبن الحزب/ السلطة حرفيا ومعنويا، فقد مات أبوه فداء للحزب حينما كان سليم صبيا في العاشرة في أحداث دامية دارت في مدينة سورية معروفة حينما جزّ فيها الإسلاميون ذات ليلة رقاب الحزبيين وأسرهم وسحلوهم في الشوارع، فدك الحزب المدينة علي سكانها. وشاهد سليم الصبي جثة والدة، تسحل في شوارع المدينة. تيتم مبكرا فرباه الحزب حتي أصبح أشهر خبرائه في مكافحة الإرهاب وأنبغهم. هكذا تشخصن الرواية العلاقة العضوية بين الدولة العربية العصرية والعنف الأمني الذي يدير دولاب عملها. بين مطرقة الدولة وسندان الجماعات المتأسلمة يظل المثقف الطرف الأضعف والأعزل في كل هذه الصراعات. فالرواية تحرص علي أن تقدم من البداية، وبعد أن قدمت لنا الخبير الأمني، الصديق القديم، الذي لا يتذكر فاتح اسمه. وتختار بذكاء أن تزرعه في طفولة فاتح في المدرسة الابتدائية، لأن الدين مزروع في طفولتنا. كما أن ظهوره الثاني، والدال حيث يكشف فيه عن هويته، يرتبط بعنف السلطة و«اختطافها» لفاتح. فعنف المتأسلمين هو الوجه الآخر لعنف السلطة، أو بالأحري للعملة الواحدة. هذا الصديق اللامسمي هو مرسال الجماعات المتطرفه إليه، كما كان سليم مرسال الدولة، لأنه يحذره من أنه داخل «سيناريو محكم، كل خطوة تخطوها تقودك إلي النهاية، أنت ذاهب إلي حتفك».(ص250) ويكشف لنا النص عبره عن مدي تعقد العلاقة بين السلطة وتلك الجماعات، وطبيعة الحراك الجدلي الفعال بينهما من ناحية، وبين كل منهما والسياقات الدولية من ناحية أخري. كما يتيح للرواية أن تدير في ساحتها حوارا مستفيضا وجدلا دالا حول الله والدين، تشكل به هذه الرواية مقاربة مهمة لهذا المحرم الديني الذي كان من محرمات الرواية الثلاثة حتي عهد قريب. بين سندان سالم ومطرقة صديق الطفولة اللامسمي يتجسد مأزق فاتح، وتنكشف لنا عزلته. فليس له جمهور أو جماعة، أو قاعدة يمكن أن يركن لها، ولم تخلق كل أفكاره العلمانية الجريئة لها سندا يزود عن صاحبها، حيث لايجد من يقف حقا بجانبه إلا صديقه حسين الذي يعد أحد أخلص تابعيه، وصديقته هيفاء التي نكتشف بعد قليل مدي سطحية علاقتها به. وكشفت لنا أن سطحية علاقتها به ليست مغايرة لعلاقة زوجته به التي طالما أخلص لها ولذكراها. هكذا أصبح فاتح مهددا بالاغتيال، بعد الكشف عن آليات تمييع أي دعوة حقيقية للتغيير، سواء أكان فكريا أو اجتماعيا. فقد دفعوه إلي حد إعداد نفسه للموت «بذلت جهدي في الاستعداد للموت، وودعت جميع من أعرفهم»(308) لكن الموت غيلة هذا المرة كان من نصيب صديقه المتأسلم لا من نصيبه. فأكثر مفارقات الرواية إثارة للدهشة والتفكير معا، هي أن صديق الطفولة المتأسلم لايدرك أنه كان يسير هو الآخر منوما إلي أحبولة أعدائه، وأنه بينما يظن فاتح أن الرصاصة القادمة سترديه، يجد أنها تصوب بدقة إلي رأس صديق طفولته اللامسمي وترديه. لتفتح الرواية علي جهنمية اللعبة وتعقيداتها، ولتربط بطريقة جدلية دالة مصير المثقف والمتأسلم، بعدما ربطت بين عنف الدولة وعنف المتأسلمين. ولتبق المثقف في «نور ليس أكثر من ظلام دامس» (ص315) Katibmisri @ yahoo. co. uk