لا يوجد حياة إلاّ بوجود وعاء ما تحيا فيه ويحميها من الشّوك والديدان، فليس الجسد سوي صدفة للروح، وليست القشور السميكة سوي جلود للأشجار والنباتات، وليس التّراب إلاّ درع الجذور، والضوء وجه الشمس، والالتماع هوية البرق والنجوم. والمجري يحفظ مياه النّهر، مثلما تحفظ الأقلام حبرها، والورود عطرها، والقمم ثلوجها، والعواصف جبروتها، والبراكين حممها الملتهبة. والعالي الرفيع، بحاجة إلي أسفل سميك كي يبقي ويستمر.. فلولا الجذور العميقة لم، ترتفع أغصان الشجر، ولولا الحجارة الكبيرة والثقيلة لِمَ بقيت الأهرامات العظيمة شامخة إلي يومنا هذا. إنّ ضوء الشعلة الضئيل يُهدينا إلي رؤية الطريق الواسع العريض، ولا يحمل الشعلة إلاّ وعاء أكبر منها، فلكي نرتفع ونري، يجب أن ننزل أوّلاً إلي الجذور والأعماق، وكلما كان الأساس أكثر عمقاً وأصلب، كان البناء عالياً. والعين الصغيرة الرقيقة، قد تري مناظر أقسي منها وأكبر، وتُبصر من خلال صفائها وهدوئها صخب البحار وأعاصير المحيطات وثوران البراكين. ويتّسع القلب علي صِغر حجمه للجميع إذا كان قلباً مُحبّاً ومخلصاً، ويضيق بأقرب الأشخاص، إذا كان لئيماً حقوداً. وقد يتفوّه اللسان بكلمات تعجز جبال العالم عن حملها، وتكتب الأصابع النحيلة كلمات تُدهش العقول ويصعب أحياناً علي الكثيرين فهمها واستيعابها. إن الأشياء العظيمة لا تُقاس بحجمها وقدرتها وثقل وزنها، بل بتأثيرها وإحداث الخير والجمال ومنح الحب والأمل لِمَن يعيش حولها. ألاّ تمنحنا النّحلة عسلاً فيه دواء وشفاء لأصعب الأمراض؟ وألا تُدهشنا الفراشات الملوّنة بجمالها وروعتها رغم أنها صغيرة ناعمة؟! وألا تُحدث الأقلام الرفيعة بأيدي العباقرة ما لا تحدثه السيوف أو تقدر عليه المدافع والطائرات؟ ويمزّق رأس الخنجر الناعم جلود التماسيح الثخينة، ويصطاد الفخ الصغير ضِباعاً أكبر منه، ويقود الطفل بيده الطّرية الرقيقة حبلاً يجرّ خلفه قطيعاً من الجِمال.. بعضنا يقيس ويوزن كلام الآخرين لا من حيث المعني والمغزي، بل من حيث حجم القائل وكِبر الكرسي الجالس عليه. وبعضنا لا يحسب حساباً للأحياء الضئيلة الضعيفة، القابلة للنّمو والتّفتّح والثوران، مُتناسين أن الحرائق الكبيرة حدثت من شرارات صغيرة، ونقطة الماء قد تكون هي ذاتها المسؤولة عن طفح الكيل وتشقّق السدود وتصدّعها وإحداث الفيضانات والانفجار !! "إن عيب العقلاء والحكماء في هذه الدّنيا إنّهم أقلّية" والمصيبة الكبري، أن الحقيقة ثقيلة، والعقول التي تحاول حملها وحلّها، ضعيفة خفيفة!