في الأوقات العصيبة التي تمر بالأوطان تتزلزل الأفكار وتهتز الأفئدة، يُرسل الله رحماته السابغة علي ألسنة العلماء، فتهدأ القلوب بعد بأس وتأمل بعد يأس وتنشرح بعد قبض.. والعالم الكبير الدكتور علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء، والمفتي السابق، أحد هؤلاء العلماء المُجددين، فكان أول من جابه الجماعات الإرهابية بالحُجة وأبان عوارهم.. وكان لنا مع فضيلته هذا اللقاء: في البداية يُحدثنا فضيلة الدكتور علي جمعة بحديث سيدنا رسول الله، قال صلي الله عليه وسلم: »تَرَكْتُكُمْ عَلَي الْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لاَ يَزِيغُ عَنْهَا إِلاَّ هَالِكٌ» تركنا وترك معنا كتاب الله وهو كنزٌ من الكنوز، تركنا وترك معنا سنته الشريفة، وقال فيما أخرجه الإمام أحمد في مسنده: »تَركْتُ فيكم ما إنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي أَبَدًا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتِي»، وقد كان، حفظ الله الكتاب من التحريف، وأقام المسلمين في حفظه، ووفقهم إلي ذلك من غير حولٍ منهم ولا قوة، وعلَّمهم العلوم التي توثق النص الشريف، ونُقل إلينا القرآن الكريم غضًّا طريًّا علي مستوي الأداء الصوتي لأي حرف من حروفه، وكذلك السنة وصلت إلينا بعد أن قام العلماء بوضع نحو عشرين علمًا للحفاظ عليها من علوم الرجال والجرح والتعديل ومصطلح الحديث والدراية والرواية والشرَّاح إلي غير ذلك من العلوم التي حافظت علي سنة نبينا المصطفي والحبيب المجتبي صلي الله عليه وسلم. وصية جامعة يتساءل فضيلة المفتي السابق: ما الذي نريده في حياتنا؟ وهل ترك لنا النبي صلي الله عليه وسلم وصية جامعة وأخلاقًا كريمة وهو الذي يقول: »إنما بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ» هل ترك لنا شيئًا يتحدث عن ذلك؟ وكيف نحول ما تركه لنا إلي برامج عملٍ يومية وإلي سلوكٍ يعيشه الفرد منا في حياته وفيمن حوله حتي تتطور مجتمعاتنا وتعود مرةً أخري إلي الأسوة الحسنة إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم كما يحب وكما يُرضي الله عنا سبحانه وتعالي. من هذه الوصايا الجامعة، اخترت حديثًا رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالي عنه وأرضاه، يقول فيه: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: »مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا؛ نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ»، ولنَعِدّ هذه الوصية الجامعة ونعرف عناصرها؛ فهذا هو العنصر الأول.. وثانيًا: »وَمَنْ يَسَّرَ عَلَي مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ»، »و» يعني ثالثًا: »وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ»، رابعًا: »وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ في عَوْنِ أَخِيهِ»، خامسًا: »وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَي الْجَنَّةِ»، سادسًا: »وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ في بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلاَّ» أولا: »نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ» ثانيًا: »وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ» ثالثًا: »وَحَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ» رابعًا: »وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ»، سابعًا من الوصية الجامعة: »وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ».. رواه مسلم فهو صحيح. بناء الإنسان ويُتابع د. علي جمعة: إذن هناك وصايا سبع في حديثٍ جامع هذه الوصايا لو تأملناها وتدبرناها، وجدنا أنها تدعونا إلي العلم والتعلم، ووجدناها تدعونا إلي التكافل الاجتماعي، ووجدناها تدعونا إلي الانتماء الوطني، ووجدناها تدعونا إلي بناء الإنسان بتنميةٍ شاملة إذا أردنا أن نُعبِّر بألفاظ أدبيات العصر، هذا الحديث تُستفاد منه معان كثيرة. احتياج علمي ويتساءل العالم الجليل: هل يحتاج وطننا إلي العلم وإلي البحث العلمي وإلي الدرس وإلي التعلم؟.. ويُجيب: نعم نحتاج إليه أشد الاحتياج، وهو في قائمة أولوياتنا علي القمة، فليس هناك علي خريطة وطننا في الأولويات ما هو قبل العلم، بالعلم نستطيع أن نتحد، وبالعلم نستطيع أن نقوي ونصبح مجتمعًا قويًّا، والنبي صلي الله عليه وسلم يقول: »الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ»، والعلم قد شمل النصيحة الخامسة والسادسة: »وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ في بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلاَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ»،إذن فمحور هذه الحضارة هو القرآن الكريم عليه الخدمة، ومنه المنطلق، وإليه العودة، وبه التحاكم؛ فهو المعيار الذي جعله الله سبحانه وتعالي محفوظًا معجزًا ناطقًا باسم الرسالة الإسلامية إلي يوم الدين؛ ولذلك فلابد لكل حضارةٍ ولكل مجتمعٍ قوي أن يجعل نفسه محورا يخدمه، ولقد كان كذلك القرآن في حضارة المسلمين خدموه بالكتابة، وأنشأوا، وأبدعوا الخط العربي، خدموه بالتفسير، خدموه بعلومٍ شتي أنشأوها فحافظوا علي اللغة، واللغة والفكر وجهان لعملةٍ واحدة، فاستقام فكرهم لما استقامت لغتهم، خدموه بالفقه والإدراك، خدموه بعلوم الحياة، لأنه أمر بالسعي في الأرض، وبالنظر فيها، وبمعرفة الحقيقة والبرهان، خدموه في حياتهم بتحويله إلي برنامجٍ يومي. التكافل الاجتماعي ويُضيف د. علي جمعة أن التكافل الاجتماعي نراه في قوله: »مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ»، وفي قوله: »وَمَنْ يَسَّرَ عَلَي مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ»، فإنك إذا ساعدت معسرًا وأقلته من عسرته؛ فإن ذلك يعود في النهاية بالخير علي المجتمع وعليك أنت نفسك ليس فقط من قِبَل الثواب، وإنما أيضًا بطريقةٍ اقتصاديةٍ يؤمن بها الاقتصاديون المعاصرون، ويسمون هذا التعويم: أي أننا نُعوِّم هذا الذي كاد أن يغرق، وبتعويمه يعود النفع والمصلحة علي الفرد وعلي المجتمع. الانتماء الوطني ويُشير إلي أن رسول الله صلي الله عليه وسلم وهو يأمرنا بالانتماء الوطني في عبارة جامعة: »وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ في عَوْنِ أَخِيهِ» لم يقل هنا المسلم، وإنما وسع الدائرة، لتشمل الانتماء الوطني والتعددية الدينية التي قال فيها قبل ذلك: ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُر﴾ (الكهف:25)، وقال: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ (الكافرون:6)، وقال: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ (البقرة:256)، وقال: ﴿مَا عَلَي الرَّسُولِ إِلَّا البَلَاغُ﴾ (المائدة:99)، وقال: ﴿َسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ﴾ (الغاشية:22)، وقال: ﴿فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ (النساء:80) هنا يأتي ويقول: »وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ في عَوْنِ أَخِيهِ»، انتماءٌ وطني، ولُحمة وطنية، وتكاتف بين الناس، وتعايش لم نر مثله طريقًا في الوصول إلي المجتمع القوي.. وصايا سبعة لو أننا تأملناها، ثم فهمناها، ثم بعد ذلك حولناها إلي برامج عمل نعيش فيها ونُفعِّلها في حياتنا؛ لأصبح هذا المجتمع من خِيرة المجتمعات في أمور الدنيا وفي أمور الآخرة، واللهم اجعل الدنيا في أيدينا ولا تجعلها في قلوبنا.