قليلا ما كان يصفو أبي ويحكي عن حياته في الصعيد، عندما كان يسهر للصباح لحراسة الأرض خشية أن يسرق اللصوص القطن المزروع؛ فيواجههم ويواجه العفاريت التي تظهر له في صورة نخلة تسير وتتحرك نحوه، أو صورة خراف تطارده، لكنه كان يغلب اللصوص والعفاريت، فقد كان يستعد لقدوم الاثنين ويواجه كلا منهما بالطريقة التي تناسبه. لكن انشغل أبي بمشكلته بعد موت أمي المفاجئ في أوائل عام 1956، وأحضروا له من الصعيد فتاة صغيرة ليتزوجها وأنجب منها الكثير، وبات حائرا بيننا وبين زوجته الجديدة، وكان يشبه نفسه برجل أنجب أولادا، ثم جلس علي حافة البئر ورمي حصاة فيها دون أن يقصد، فصاح الجن القابع في قاع البئر: - روح يا من رميت الحصاة، إن كنت رجلا تصبح امرأة، وأن كنتِ امرأة تصيرين رجلا. وتحول الرجل إلي امرأة وتزوجت رجلا أنجبت له أولادا، ثم ضاقت بالحياة مع زوجها، فعادت إلي البئر ورمت فيها حصاة، فقال الجن القابع في القاع: - روح يا من رميت الحصاة، إن كنت رجلا تصبح امرأة، وإن كنتِ امرأة تصيرين رجلا. فتحولت المرأة إلي رجل كما كان، واخذ أولاده وعاد إلي بيته، فأصبح له أولاد أنجبهم من ظهره عندما كان رجلا، وأولاد أنجبهم من بطنه عندما كان امرأة. فكان يقول عندما يتشاجر الطرفان: - مش قادر أقول يا ضهري، ولا قادر أقول يا بطني. ومن الحكايات التي حكاها لي أبي في الأوقات القليلة التي يصفو فيها، حكاية الشيخ الذي أنجب ابنتين فزوج الكبري لمزارع يعتمد علي ماء المطر، والأخري تزوجها فخار، يصنع من الطين القلل والأزيرة وأواني الطهي. ذهب الشيخ لزيارة أبنتيه في يوم شديد البرودة غزير المطر، فقال له المزارع وهو سعيد:» ادعُ الله أيها الشيخ بأن يزيد من المطر لكي ينمو زرعي، وأجد القوت لإطعام أطفالي «. وقال الآخر: ادعُ الله لي أيها الشيخ بألا يسقط المطر حتي لا يذوب طيني الذي صنعت منه الفخار، وحتي لا تطفأ النار التي أشعلتها. فعاد الشيخ إلي زوجته وقال لها: - إن أمطرت السماء صوتي (اصرخي) وإن لم تمطر صوتي أيضا. نشرت هذه الحكاية في أكثر من جريدة ومجلة في مصر وفي البلاد العربية، وأعجب بها البعض، ورفضها البعض. فقال فتحي سلامة عنها: إنها تشبه الحكم المكتوبة في النتائج المعلقة علي الحائط. وأبدت ماجدة الجندي إعجابها بها، في وجود زوجها جمال الغيطاني الذي لم يعلق لكنني أحسست بأنه غير معجب بها. وتحدث عنها حسني نصار في إذاعة الإسكندرية عندما سألوه عن القصص التي أعجب بها ولا يستطيع نسيانها، فذكر حكايتي هذه، وذكر قصة عبد الوهاب الأسواني التي تحكي عن زوج من قرية الأسواني، متزوج من أربع نساء، ضاق بزوجة منهن ( فلنفترض أن اسمها زينب)، لم تطعه وأغضبته، فصاح مهددا: - والله لمطلقك الليلة. وأخذ يبحث في أوراقه الخاصة وهو مازال يهدد ويتوعد، بحث عن قسيمة الزواج، وأمسكها ولوح بها لزينب: - سيطلقك المأذون الآن. وذهب إلي المأذون وقال له : طلق زينب. فأمسك المأذون قسيمة الزواج وصاح: - لكن هذه ليست قسيمة زينب، وإنما قسيمة حميدة. فشرد الزوج قليلا، ثم صاح: - لسه حاروح البيت، طلق، طلق. ونشرتُ أول مجموعة قصصية لي صدرت عن هيئة الكتاب عام 1988 بعنوان الاختيار، وتضمنتها هذه الحكاية، وحكي لي الصديق محمد السيد عيد، بأن الكاتب النوبي حسن نور قال في اجتماع أدبي: إن هذه الحكاية مأخوذة من قصة انجليزية، مقررة علي ابنه الذي يدرس في مدارس اللغات. وقدم النص الانجليزي، وحكايتي، فقال محمد السيد عيد: - مصطفي لا يعرف الإنجليزية. وقال الدكتور يسري العزب لحسن نور: - هات الورق ده، وسيب لي الموضوع. حزنت كثيرا لما حدث، فقد كنت أعتبر نفسي أكتب في منطقة خاصة بي، وبعيدة عن كتابات الآخرين. وأخذت أفكر فأبي لا يعرف الإنجليزية، وهو والكثير من أهل بلده، تعلموا تعليما غير نظامي، وأجادوا القراءة لحرصهم علي قراءة القرآن وكتب التفاسير. فكيف وصلت هذه الحكاية إليه، كما أن عالم القصة قريب من المنطقة التي نشأ فيها أبي. الذين يعتمدون في الزراعة علي مياه المطر. والذين يعملون في صناعة الفخار. وهل هذا العالم يتناسب مع طبيعة الانجليز، هل هناك من يصنع الفخار في الهواء الطلق معتمدا علي أن الصعيد قليل المطر؟!. والفخرانية موجودون بكثرة في بلدتنا، وأجداد أمي كانوا يعملون في الفخار، ومازالوا يسمونهم للآن: الفخرانية. وتعاملت مع هذه الحكاية في خوف، فلم أعد أرسلها للنشر، وعندما شرعت في جمع الحكايات في كتاب مستقل، رفضت هذه الحكاية، وفوجئت بيعقوب الشاروني وقد قدم سيناريو لنفس الحكاية ورسمها الفنان البطراوي ونشرت في جريدة الأهرام، تابعت السيناريو وتذكرت كل ما حدث لهذه الحكاية.