في أحد أيام عام 1356 وقف الأمير سيف الدين صرغتمش الناصري ليتأمل منشأته الدينية الضخمة بعد اكتمال بنائها. لم تكن مجرد مسجد، بل مدرسة للفقه الحنفي. في خلفيتها يبدو المسجد الطولوني الأكبر عمرا بخمسة قرون، لكنه كان قد استعاد شبابه نسبيا قبل نصف قرن من افتتاح مدرسة صرغتمش. لماذا اختار الأمير المملوكي هذا الموقع تحديدا لبناء مدرسته؟ هل نبع ذلك من إحساسه بأن نفوذه يمكن أن ينافس الملوك؟ ربما. فقد تزايدت سطوته في فترة تعاقب عليه فيها حكام، اتسمت فترة حكمهم بالقصر، حتي أن أحدهم لم يستمر سوي شهور. كان الأمير صرغتمش واحدا من مماليك الناصر محمد بن قلاوون، ترقي في المناصب في عصور خلفاء الناصر، ثم عاد السلطان حسن إلي الحكم عام 1354، بعد ثلاثة أعوام من خلعه. في تلك الفترة كان صرغتمش قد انفرد تقريبا بتدبير شئون البلاد، وهو ما جعل السلطان العائد يضيق من نفوذ الأمير المتزايد، فقبض عليه عام 1358، وحبسه في الإسكندرية حيث مات، ونُقلت جثته لتُدفن تحت قبة مدرسته. وللمفارقة فقد بدأ السلطان حسن بناء مسجده الشهير بميدان القلعة، في نفس عام اكتمال مدرسة صرغتمش. احتفل الأمير بافتتاح مدرسته في شارع الصليبة، وصارت مركزا لعلماء المذهب الحنفي، خاصة من الفرس الذين اهتم بهم صرغتمش، حتي أن هناك تأثيرات فارسية في عمارتها. تسبب بناؤها في إغلاق بابين من أبواب مسجد ابن طولون، والآن أصبح باب المدرسة نفسه مغلقا، بعد أن سقط أحد أسقفها منذ نحو عام، والغريب أنه لم يمض علي مشروع ترميمها إلا عشرون عاما! طرازها يمضي علي نسق العمارة المملوكية المشابهة. ورغم تكرار الطراز فإن الواقف في الصحن المكشوف يشعر بسكينة روحانية، تمتزج بجماليات تجعل للحظة نكهة خاصة، فالمبني ليس فقط من أبدع المباني وأحسنها مثلما وصفه المقريزي، بل يمنح زائره طاقة روحية هائلة، وينقله بين أزمنة وأماكن عديدة. إطلالة سريعة علي القبة تحيل إلي مثيلاتها في سمرقند، لتضيف طرازا للقباب يظهر لأول مرة في مصر، وتسجل القبة رقما قياسيا آخر بكونها الأولي من نوعها الباقية فوق محراب مدرسة، رغم أنها هدمت وأعيد بناؤها عام 1940. ويذكر عالم الآثار الكبير حسن عبد الوهاب، أنه خلال إصلاح أرضية الصحن عام 1945 تم العثور علي لوح كبير يضم صور حيوانات وطيور، وهي ظاهرة غريبة ربما تكون الأولي من نوعها في مسجد. بقيت المدرسة وغابت سيرة مؤسسها، ولم تعد حاضرة إلا عند المتخصصين، أما العامة فربما لا يتقنون نطق اسمه بطريقة صحيحة!