لم تكن تلك هي المرة الأولي التي تظهر فيها عرائس أسماء النواوي الورقية علي مسطحها التشكيلي لتعيدنا إلي فترات الطفولة وحكايات الجدة، وتذكرنا برمزية تلك العروسة التي طالما احتملت الوخز والحرق لدرء الحسد والأعين الحاقدة عنا. إذ كانت هذه العروسة هي الأيقونة التي اختارتها أسماء لمشروعها الفني الذي تقدمت به لجائزة الدولة للإبداع في 2014 والتي سافرت من خلالها للأكاديمية المصرية بروما. وقد اختارت الفنانة آنذاك رمزا ينتمي للتراث الشعبي بكل تداعياته، ذلك الطقس الذي عايشته بنفسها من خلال الخالة التي كانت تجمع بنات العائلة وتحرق العروسة الورقية درءا للحسد، إلا أن النواوي قامت بمعالجة شكل العروسة واختارت شكلا للعروسة مستوحي كذلك من شكل »فتاة علامات المرور» باعتباره رمزا دوليا، مع بعض التحويرات الفنية .. تقول الفنانة أسماء النواوي: إن العروسه الورق في التراث المصري هي عروسة الحسد وهي تستخدم في ممارسة شعبية ترتبط بما يعرف ب»السحر الأبيض» حيث يهدف الطقس السحري هنا إلي إبعاد الضرر الحادث بفعل العين الحاسدة. وقد تقام الممارسة علي عروسة ورقية تصنع علي هيئة جميع الحاسدين، وتغرز فيها الإبرة مرات عديدة والراقية تقول: »من عين اللي شافوك ولا صلوا علي النبي.. من عين فلانة ومن عين فلان..» مع ذكر الأسماء الأكثر احتمالاً في الحسد، وتتغير معني العروسة حسب من يحملها، وهنا فكرت أن أقدم في أعمالي علاقة كل بطلة أو بطل بتلك العروسة وما تمثله له. في معرضها الأخير »ميتولوجيا» الذي استضافه جاليري المسار تعاود الفنانة استخدام العرائس الورقية بأكثر من صياغة فهي ليست عروسة واحدة بل عدة عرائس، أحيانا عقد من العرائس، أو وردة تضعها الفتاة في شعرها، إذ تقول الفنانة كان هناك دائما تساؤل ما يؤرقني عن سر استخدام عروسة واحدة في العادة لنحملها بكل تلك الأشياء، ومع مزيد من البحث اكتشفت أنها أيضا رمز لاستمرار الحياة، وقوتها تكمن في ريعان الصبا، وهي رمز للإخصاب والإنجاب. وهنا تظهر العرائس كرمز للقيمة التي تشكل الحافز للإستمرار، فمنا من يري في المعرفة ذلك الحافز وغيره من يري في رحلة بحثه عن السلام الداخلي وهكذا. تعترف أسماء أن الأجواء التي تصور فيها عرائسها هذه المرة أكثر سلاما، إذ كانت من قبل ذلك كانت كل الصراعات والمشاحانات الداخلية، أما الآن فهي أجواء أكثر احتفاء وبراءة وطهرا، تلك الأجواء التي ترتبط بوصول المرء إلي بر الأمان بمعرفته سر استمرار الحياة بالنسبة له. ولا تكتفي أسماء برمز واحد في لوحاتها، إذ يحتشد كل عمل بمجموعة متضافرة من الرموز التي يتعين علي المتلقي معها أن يفكها تباعا، إذ تعتمد أسماء علي مفهوم الرموز التراكمية بمعني أن اللوحة تتكون من مجموعة من الرموز وعلي المشاهد أن يعرف معني كل رمز حتي يدرك معني العمل الفني. فحين وضعت النواوي عروستها الورقية مع زهرة الياسمين فهي تحيلنا لرواية »غربة للياسمين» لخولة حمدي إذ تشبه أسماء في إيطاليا بطلة الرواية “ياسمين” في فرنسا.. إذ تقول : أرادوني مثل زهرة الياسمين تعيش في كل الأجواء، فالياسمين نبات لا يحتاج إلي الكثير من العناية. تكفيه دفعة واحدة من السّماد في ربيع كلّ عام، وتربة رطبة دون فيض من السقيا جميع أنواع الياسمين تفضل النّموّ في مكان مشمس، لكنّها تتحمّل وجود شيء من الظل. لم تصبني الدهشة من تلك النصيحة التي تحاول فيها الأم أن تربي ابنتها علي الرضا بالقليل فنحن نساء الوطن العربي تربينا أن نزهر مهما كانت الظروف، تعلمنا أن نعطي حتي وإن لم نأخذ أي شئ في المقابل... وهو أمر ضاغط جدا، ربما يعلمنا الكثير من الأشياء وربما يساعدنا للوصول للسلام الداخلي ولكن عبر رحلة شاقة. ومما لا شك فيه أن أسماء النواوي معنية بقضايا المرأة، وتلك الصعوبات التي تواجهها سواء في الحياة في هذا المجتمع وما ينتظره منها أو حين تخرج إلي المجتمعات الغربية وتواجه قضايا شائكة خاصة إذا كانت ترتدي الحجاب لتواجه صعوبات من نوع آخر مثل الإسلاموفوبيا، لذا نجد أسماء ذاتها حاضرة كبطلة رئيسية في عدد من اللوحات، ويتحول مسطحها لمسرح من الحكايات محمل بالمعاني وبقصص بطلاته في الغالب ، إذ قليلا ما يظهر الرجل كبطل في أعمالها. ومن الأمور اللافتة في تجربة أسماء أنها تنبهنا إلي عدم الانبهار بالظاهر فالمعاني الخفية قد تغير رؤيتنا تماما، فمثلا تلك الزخارف النباتية الجميلة التي توظفها في بعض اللوحات تحمل دلالة مغايرة، فهي مستوحاة من الحضارة الفارسية، وعلي الرغم من جمال هذه النبتة الا أنها نبات ضار. وهي تمثل كل الأشخاص والمواقف التي يكون ظاهرها جميلا ولكن باطنها يحمل الكثير من الضرر للمرأة. كذلك فإن ذلك الطائر الجارح، الطائر الفينيق أو الفنيكس أو كما يعرف بالعنقاء هو طائر خرافي قوي وجميل وهو عندما يموت يتحول الي رماد ولكن سرعان ما يتحول الرماد الي طائر أقوي وأجمل، هو يشبه المرأة المصرية الكادحة المطالبة أن تكون طائرا فينيقا كل يوم. ومما لا شك فيه أن أسماء التراكمات التي يحملها المسطح لا تنبع فقط من معاني الرموز وإنما تمتد إلي التراكمات الحضارية والفكرية والثقافية التي تخص الفنانة ذاتها، إذ تحيلنا في أعمالها إلي حضارات عدة من خلال بحث مستمر عن اختلاف معني الرمز من حضارة لأخري فمثلا نجد زهرة اللوتس التي تعني في الحضارة المصرية القديمة رمزا لدورة الحياة الجديدة والتي تتأثر بالشمس فتتغير مدي إزهارها علي مدار اليوم بقوة أشعة الشمس، نجدها في حضارة شرق آسيا هي رمز للتطهر والنقاء. ففي إحدي اللوحات التي قدمتها في معرضها الأخير نجد فتاتيها محاطتين بأزهار وأوراق اللوتس الآسوية فلقد اختاروا في النقاء هدفا لاستمرار الحياة. ويبدو اللون أيضا بطلا أساسيا عند أسماء النواوي إذ أنها تستخدم درجات من الأزرق والبني الترابي تعتبر بمثابة بصمة تميز أعمالها، ومع ذلك فقد حرصت أسماء علي الخروج من عباءتها الفنية بتقديم عدد من الأعمال التي لا تنتمي لباقي مجموعة المعرض في مذاقها وألوانها، ومنها مجموعة عروبة التي مزجت فيها الحروف العربية وغلب عليها استخدام درجات من اللون الأسود، وكذلك اللوحتان المستوحاتان من الحضارة المصرية القديمة.. إذ لا تتوقف أسماء عن البحث والتجديد في تجربتها الفنية لكشف المزيد من المعاني والمفاهيم ولاستكشاف ذاتها بالمثل.