تكررت زياراتي لباريس منذ عام 2011 بشكل شبه منتظم، لأسباب الدراسة والمشاركة في المؤتمرات وورش العمل. كنت أقيم في كل مرة في المنطقة الخامسة التي تقع بها كاتدرائية نوتردام وجامعة السوربون والبانثيوم والحي اللاتيني وشارع سان ميشيل وغيرها من المعالم التي يعرفها ويعشقها كل من زار باريس أو تمني زيارتها. أدهشني أن المَعلَم الوحيد الذي لم ألتقط له أو معه صورًا هو كاتدرائية نوتردام أو »النوتردام» كما نطلق عليها، رغم زيارتي لها في أول يوم من زيارة لي لمدينة الحضارة والتنوير، لا تفسير لذلك لديَّ سوي أنني اعتبرت وجودها هو وجود باريس ذاته، فمن الطبيعي أن ألتقط الصور لمعالم باريس لكني لا ألتقط صورًا مع باريس ذاتها... بل أشعر بها، أدركها كمعني وأستقبلها كتأثير وهي نفس مواصفات العلاقة بيني وبين »النوتردام». كما كنت أتعامل معها كأمر دائم ومضمون الوجود أو كما نقول for granted، أمرّ عليها كل يوم مرتين علي الأقل وأربع مرات في المتوسط أثناء إقامتي بباريس، فلماذا الصور؟ ولماذا أفكر في تسجيل اللحظة وهي القائمة دائمًا في كل مرور عليها.. آسرة شامخة لأكثر من 600 عامًا. تتجاوز الكاتدرائية كونها الرمز الديني الكاثوليكي الأهم والأشهر في باريس بل ولا نبالغ إذا قلنا في العالم، لتحتل مكانة معمارية وحضارية استثنائية، فهي التمثيل الأكثر فخامة ورهافة عن الفن القوطي. استغرق بنائها أقل من مئتي عام بقليل (1163-1345) وشهدت كل العصور التاريخية والتقلبات السياسية الفارقة في العصور الوسطي والحديثة التي شهدتها أوروربا. حجزت مكانها، لمئات السنين، باعتبارها أكبر وأعلي مبني ديني في أوروربا كما ألهمت العديد من الكتاب العظام علي مر التاريخ وورد ذكرها في الكثير من الأعمال الأدبية الهامة، بل وكانت مركز الأحداث في واحدة من أشهر الروايات الكلاسيكية رواية »أحدب نوتردام» لفيكتور هوجو. ربما بسبب ذكرها في تلك الاعمال الأدبية، امتزجت مع مخيلتنا التأسيسية لصورة باريس الأولي في أذهاننا حتي أننا لم نفرق بينها وبين المدينة التي تحتويها. اللافت بالنسبة لي أنني لم أدقق يومًا في تفاصيلها سوي في زيارتي الأخيرة لباريس والتي تكررت مرتين في شهر واحد هو شهر مارس الماضي. كنت أسكن في فندق بالقرب من نوتردام، أمرّ بمحاذاتها يوميًا لأصل إليه، في آخر يوم من زيارتي الأولي جلست أتناول إفطاري علي مقهي اسمه »نوتردام»، مواجه لها، مقهي مشمس ومتسع، يملك ناصية كبري ويستحوذ علي أفضل مشهد للكاتدرائية. للمرة الأولي أجدني جالسة قرابة الساعتين أتأمل تفاصيلها المعمارية علي مهل وأنا أشرب قهوتي الأولي والثانية، تفاصيلها الأمامية والجانبية... أطالع السقالات المعدنية والخشبية في الجهة الجانبية منها وأتصور منظرها الأجمل بعد انتهاء الإصلاحات وإزالة تلك السقالات. لم أكن أدرك حينها أنني كنت أختزن مشهدًا يعلم الله ما إذا كنت سآراه مجددًا. ثم عدت بعد أسبوعين من مدينة أكس إلي باريس للمشاركة في معرض الكتاب وافتقدت المشهد من علي ذلك المقهي فعدت لزيارته ولرؤيتها، بل وتوقفت عند محلات التذكارات الملاصقة لها واشتريت كارتين بوستال للكاتدرائية! أحدهم رسم بالفحم والآخر صورة فوتوغرافية، أحدهم للواجهة والآخر للجزء الجانبي. أشعر الآن بتلك الطاقة المبهمة التي دفعتني لأهيم في مجال »النوتردام» قبل الحادث المفجع بأيام قليلة وبعد زيارات عدة لي إلي باريس دون أن يصيبني هذا الاهتمام بها. حين رأيت مشهد النيران تلتهم الكاتدرائية في مساء يوم الاثنين 15 أبريل عام 2019، لم أصدّق وأصابتني حالة من التيبّس الجسدي والشعوري أعقبه شعور حزن ثقيل. راقبت ذلك الدخان المتصاعد بكثافة يشق سماء باريس، تأملته بتركيز، أكاد أراه محملًا بأكثر من رائحة الحريق وذرات الخشب المتفحمة... رأيته متشبعًا بوجوه وملامح إنسانية.. مشاعر.. أمنيات وذكريات. سرحت في تصور عدد البشر الذين جاءوا من أوطانهم محملين بأمنية قديمة لزيارة المكان... رحت أستدعي تلك الوجوه الآسيوية والأفريقية والأمريكية التي كنت أراها أمام المبني عابرة عند مروري وكل منهم يحمل كاميرا تصوير وحقيبة ظهر... ينتظر صامتًا في طابور الدخول أو يقف منفردًا رافعًا رأسه ليستجمع بنظره ارتفاعها الشاهق ويملأ عينيه بواقع طالما رأه مصورًا في الكتب أو علي الانترنت ثم تكسو الوجوه ابتسامة نشوة أو رضا. كذلك تلك الأمنيات السرية التي ملأت أروقة المكان من الداخل.. تلك الصلوات.. الشموع التي أضاءها أصحاب الرجاء والطلب. كم من دعوة متضرعة انطلقت من القلوب والألسنة نحو الرب، كم من توسّل، كم من أمل لا يخيب. وحين انهار برج الكاتدرائية الشهير كان ضلعًا من أضلع التاريخ ينكسر وكان الزمن يبكي. انطلقت في صبيحة اليوم التالي مباشرة قاطرة التبرعات والهبات من الأثرياء لإعادة الكاتدرائية لما كانت عليه قبل الحريق. انطلقت حالما أدرك العالم واستوعب ما رآه منذ ساعات، وحين استطاع البعض التسليم والاعتراف بالخسارة الإنسانية والتاريخية الفادحة. ستعود الكاتدرائية ربما كما كانت وربما مختلفة بعض الشيء.. سيعود الزائرون وتعود الصور والكروت البوستال.. وربما احتفظت الأرض والجدران الداخلية المتبقية بالتضرعات والأمنيات التي انسابت فيها لقرون.. كل ذلك يمكن إصلاحه وتداركه، لكن هذا الجيل الذي رأي المشهد مرأي العين سيبقي محتفظًا بمشهدية فاجعة لا تُمحي.