قبل أيام كان شريف عامر في لندن، ووجد نفسه يمر من أمام فندق »لاريدجز» الشهير، ودون أن يدري وقف أمام باب الفندق البريطاني العريق، وراح ينظر إلي منضدة بالذات في مدخله، وراحت ذاكرته تستدعي الذكريات، فعلي هذه المنضدة »التاريخية» التي كانت محجوزة دوما ل»الأستاذ» وتحمل اسمه، طالما جلس معه وسمع منه واستمتع بحكاياته و»عزوماته». عندها أخرج شريف عامر تليفونه واتصل بنجل»الأستاذ»: يبدو أنني لن أستطيع الهروب من ذكرياتي معه حتي في لندن. يعرف الملايين شريف عامر كواحد من أشهر مذيعي التوك شو، ويتابعونه من التليفزيون المصري إلي شاشة »الحياة» وأخيراً في »إم بي سي مصر»، ويعتبرونه من أكثر مقدمي البرامج السياسية مهنية وموهبة.. لكن كثيرين لا يعرفون تفاصيل صداقته بالأستاذ محمد حسنين هيكل، وبالتحديد في السنوات الخمس الأخيرة من حياته. لدي شريف عامر تجربة مدهشة وطازجة ومتفردة مع»الأستاذ»، ولديه من الحكايات والذكريات الكثير والمختلف، خاصة عن هيكل الإنسان.. وعندما أصف هذه التجربة بأنها متفردة فليس في ذلك مبالغة ولا مجافاة للحقيقة.. بل ستدرك عندما تسمعها علي لسانه أنها تحتاج لوصف أعلي وأعمق وأكثر دقة وتعبيرا. شريف عامر يروي حكايته مع هيكل الذي لا نعرفه.. عن وجه آخر من »الأستاذ» نظن أنه سيكون مدهشا.. فمازال هيكل قادرا علي أن يبهرك طوال الوقت حتي وهو في العالم الآخر.. لنستمع ونستمتع: 1 إعجابي بهيكل بدأ منذ طفولتي، فمازلت أذكر لقائي الأول معه علي الورق عندما قرأت كتابه»ملفات السويس» لأستعين به في بحث مدرسي عن جمال عبد الناصر وكنت يومها تلميذا في الصف الأول الإعدادي.. وتمر السنون ويكبر الإعجاب ويتعمق، وعندما دخلت مجال العمل الإعلامي سعيت إلي لقاء معه، لكنني أدركت أن المسألة ليست بالسهولة التي تصورتها، فهيكل دائرة مغلقة لا يفتح بابها إلا بشروط ومعايير.. وهو وحده الذي يملك السماح والمنع. وكدت أنسي هذا الحلم، إلي أن كانت ثورة 25 يناير وما تبعها من أحداث، كنت يومها مقدم برنامج»الحياة اليوم»، ووقتها في ظل الأحداث الصاخبة والعارمة أقضي ما يقارب ال18 ساعة في الاستوديو، انخفضت إلي 6 ساعات بعد نحو شهر ونصف الشهر من تنحي مبارك، وعندما كنت في طريقي إلي الأستوديو تلقيت مكالمة من الكاتب الصحفي عبد الله السناوي لم تزد علي جملة واحدة: الأستاذ هيكل ح يكلمك علي التليفون... ووجدتني أنفجر في نوبة ضحك هستيرية بلا معني ولا تفسير، فلم أتخيل أن هيكل هو الذي يطلب أن يكلمني. وبعد 5 دقائق رن الهاتف وكان الأستاذ هيكل بنفسه، بادرني: مساء الخير يا أستاذ.. ولأن الموضوع كان أكبر من استيعابي في البداية فقد ركنت السيارة علي الطريق لأكمل هذه المكالمة، وكان الرجل ودودا للغاية وقال لي إنه تابعني كثيرا خلال ثورة يناير ويري أن ما أقدمه يتصف بالمهنية والقيمة، واعتبرتها وساما طوقني به، وفي نهاية المكالمة طلبت لقاءه فرحب، ومنذ لقائي الأول به في أول مارس 2011 وحتي رحيله لم يكن يمر أسبوع إلا وألتقي به مرتين في المتوسط، فتح لي الأستاذ عقله وقلبه ومكتبه، ودخلت إلي هذه الدنيا المبهرة في كل تفاصيلها، ومنذ أول لقاء وضعت معه اتفاقا غير مكتوب أن تبقي صداقتي به إنسانية لا يختلط فيها الشخصي بالعام وأن يبقي ما أراه وأسمعه في مكتبه وبيته وكل الأماكن التي نلتقي فيها غير قابل للاستغلال الإعلامي. ورغم اقترابي الشديد من الرجل بعد ذلك إلا أنني لم أكن حريصا أو متهافتا علي التقاط الصور معه، والصورة مع هيكل أمر لو تعلمون عظيم، وقد رأيت بعيني شخصيات مهمة ذهبت لتطرق أبواب هيكل لمجرد أن تحصل علي صورة، وقد كنت أهرب من تلك القعدات وأستأذن في الانصراف فورا عندما أحس أن زوّار الأستاذ جاءوا لمجرد »الشو». وسرعان ما اتخذت علاقتي بالأستاذ هيكل شكلا وبعدا إنسانيا، ولا أبالغ إذا وصفته بأنه كان أبويا، أو قل خليطا من الأبوة والصداقة، لدرجة أنه ساعدني في شغلي كمذيع وقت الانتخابات الرئاسية الأولي بعد ثورة يناير، فقد كان المرشحون للرئاسة يتنقلون بين برامج التوك شو الرئيسية، وكان بعضهم يظهر في برامج أخري قبلي، ممن كان يضاعف من صعوبة حواري معهم، إذ كان عليّ أن أحاورهم في مناطق مختلفة وأطرح عليهم أسئلة جديدة، وكان الأستاذ هيكل مشغولا معي بل أكثر مني بهذا الأمر ويسألني في فضول واهتمام: طيب و ح تعمل إيه بقي مع المرشح الفلاني اللي جايلك بكرة؟ وأذكر أنني ذهبت وقتها ذات صباح إلي إدارة المرور لترخيص سيارتي، وأثناء انهماكي في الإجراءات كلمني الأستاذ هيكل: أنت فين يا أستاذ؟.. ورغم أنني أخبرته أنني »مزنوق» في المرور، لم يتراجع وواصل حديثه: فكرت ح تعمل إيه في المرشح الرئاسي اللي جايلك الليلة في البرنامج.. أصله طلع إمبارح وقال حاجات كتير. وكان منظري يبدو مضحكا وأنا واقف في طابور المرور أكتب وراء هيكل الأسئلة والمحاور والنقاط التي يقترحها لأسأل فيها ضيفي في حلقة برنامجي المسائي. وبدافع الأبوة كان هو الوحيد –بالإضافة إلي والدي بالطبع– الذي كان يتدخل ويناقشني في تسريحة شعري وملابسي التي أرتديها في البرنامج، بل كان يتصل بي إذا لم يجدني علي الشاشة عندما أغيب لظرف ما.. يسألني بحنان أب حقيقي: »أنا فتحت البرنامج لقيت لبني»، يقصد لبني عسل زميلتي في تقديم برنامج »الحياة اليوم» وقتها،.. أنت ليه ما طلعتش؟.. ولابد أن أذكر له سببا مقنعا لغيابي. وبمناسبة الملابس: بعد فترة من صداقتي به، وبعد أن توطدت العلاقة وتعمقت كنت أحيانا أذهب إلي مواعيدي معه بالملابس الكاجوال و »الكوتشي»، وهو زي غير مسموح به ويبدو نشازا وسط »الأبهة» والأناقة التي كان عليها الأستاذ وضيوفه، وفي مرة كان موجودا إحدي الشخصيات المهمة، وهو الذي لفت نظري وقال لي بعتاب أمام الأستاذ: إيه يا ابني اللي انت لابسه ده؟.. سأله هيكل بدهاء: أنت تقدر تعمل كده؟.. أجابه الضيف بلا تردد: لا طبعا... فقال له هيكل بابتسامة وهو ينظر ناحيتي: ولا أنا.. بس شريف يقدر. كان يسمح لي بارتداء »الكاجوال» وخرق البروتوكول الصارم في مكتبه، لكنه لم يكن يغفر ذلك علي الشاشة، فالمذيع عنده يجب أن يظهر في الزي الرسمي وبالبذلة الكاملة.. حتي إنه عاتبني مرة لأنني ظهرت وأنا أرتدي»بليزر» بدون كرافتة. كان الأستاذ يعتني لأقصي حد بأناقته ومظهره، وعرفت أنه كان يتعامل مع ترزي خاص خارج مصر يفصل له ملابسه، ويذهب إليه مرة في العام لعمل»بروفات» علي بذلاته الجديدة.. وفي مرة وحيدة قال لي: كرافتاتك كويسة.. واعتبرتها شهادة من أشيك رجل في مصر. امتدت لقاءاتي بهيكل داخل مصر وخارجها، وكان أجملها تلك التي كانت في لندن، وكنت أحرص دوما علي أن تتزامن زيارة الأستاذ السنوية للعاصمة البريطانية مع وجودي هناك لمتابعة ابني حسين الذي يدرس في إحدي جامعاتها، وفي مرة أحببت أن أعمل له مفاجأة ليجدني أمامه في لندن، واستعنت بمديرة مكتبه الأستاذة جيهان عطية لأعرف منها موعد سفر الأستاذ وعلي أي خطوط جوية، ولكن للأسف لم تكن المعلومات التي تلقيتها دقيقة فوجدت الأستاذ هيكل يجلس في الكرسي الذي أمامه علي نفس الطائرة، وفوجئت به وانكشفت »المؤامرة». كان الأستاذ ينزل في فندق »كلاريدجز» الشهير، وله ترابيزة باسمه في مطعمه، وكان عارفا بالمجتمع الإنجليزي أكثر من الإنجليز أنفسهم، وكنت أستمتع معه بالجلوس في الفندق، وطوال الوقت يزودك بمعلومات مثيرة: هنا كانت تجلس الأميرة ديانا.. الذي يجلس خلفنا هو اللورد فلان ويقص عليّ تاريخه وتاريخ عائلته.. الذي دخل حالا هو فلان الذي ينتمي لجماعة الضغط الفلانية المرتبطة بحزب المحافظين.. وكان من الطبيعي أن تجد في مطعم الفندق وردهاته شخصيات دولية ونجوما مرموقين. حكي لي الأستاذ مرة أن ناشر كتبه في لندن كان هو نفسه الذي حصل علي حقوق نشر مذكرات المرأة الحديدية مارجريت تاتشر رئيسة الحكومة البريطانية الشهيرة.. كان الناشر لديه اعتراضات علي صياغة المذكرات، حيث كتبتها تاتشر بترتيب زمني كلاسيكي، رأي الناشر أنه يفتقد للجاذبية والتشويق ولابد أن تبدأ الأحداث من موقف مهم أو أزمة صادفتها أثناء وجودها في »داوننج ستريت» كرئيسة للوزراء، لكن تاتشر رفضت وأصرت علي الشكل الذي اختارته لمذكراتها، وفشلت كل محاولات الناشر لإقناعها.. وهنا طلبت دار النشر مساعدة الأستاذ هيكل، واتفقوا معه علي أن يرسلوا له مخطوط المذكرات ليقرأه، وإذا اقتنع بوجهة نظر الناشر سيرتبون له لقاء ب »الصدفة» مع تاتشر ليتولي مهمة إقناعها بما فشلوا فيه.. ورتبوا أن يتم لقاء بين هيكل وتاتشر أمام باب الأسانسير.. ولما رأته سلمت عليه بحرارة، ولم يكن صعبا بعدها أن يجمعهما الناشر علي مائدة عشاء علي شرف هيكل.. وقبل نهاية ذلك العشاء كان هيكل قد أقنع تاتشر بوجهة نظر الناشر. وأحيانا كنت أصطحب بناتي وزوجتي في زياراتي للندن، وكان الأستاذ هيكل عندما يعرف بوجودهم يصر علي عزومتنا في أحد أفخم مطاعم العاصمة الإنجليزية، ويتولي بنفسه اختيار أصناف الأطعمة، وكثيرا ما يشير علي حسين ابني بأكلة جديدة ويشرح له مميزاتها وطعمها، ويشاركه أحيانا فيها.. وعندما يشعر أن الأولاد لا يحبون المغامرة مثله في الأكل يلجأ إلي الحل المضمون: البيتزا. لم يكن هيكل راضيا علي قراري بإرسال ابني حسين ليلتحق بالجامعة في لندن، فمن رأيه أن الشاب المصري ينبغي أن يتخرج في جامعة مصرية ثم بعد ذلك يمكنه أن يسافر لاستكمال دراسته العليا بالخارج، ولو سافر بعد المرحلة الثانوية مباشرة فإنه سيصاب بحالة من عدم الاستقرار النفسي والثقافي، لكنه سكت عندما ناقشته في مستوي التعليم الآن في مصر.. وكان يتابع معي أخبار حسين وظروف دراسته في لندن، وكنت ألجأ إليه مستشيرا في كل مشكلة تواجهه هناك أو في أسلوب تربيتي له، وكان يحكي لي كثيرا عن الأسلوب الذي اتبعه في تربية أولاده علي وأحمد وحسن.. وكأنه يعطيني دروسا في تربية أولادي بطريق غير مباشر. وأشهد أن الأستاذ هيكل هو الذي علمني كيف أصطحب أولادي إلي المتحف البريطاني، وكيف أجعلهم ينجذبون ولا يملون من مشاهدة الجناح المصري به، وكان هيكل يتولي مهمة المرشد السياحي لأحفاده في زيارة هذا الجناح المبهر.. وهو الذي دلني كذلك علي أن أعظم الأقلام الرصاص هي التي يمكن أن تحصل عليها من المتحف البريطاني.. فقد لاحظت أنه يخرج في كل لقاءاته التليفزيونية وفي يده قلم رصاص جذاب الشكل ومختلف عما نعرفه.. ولما كنت من عشاق الأقلام الرصاص مثله سألته من أين يشتريه، فأخبرني بالسر، وأهداني قلما من هذا الصنف الذي لا يوجد إلا في المتحف البريطاني، وكان قلما مستخدما، قررت أن أحتفظ به مفتخرا أن لدي أحد أقلام هيكل. وأفتخر كذلك أنه أهداني كتابه عن مبارك »من المنصة إلي الميدان» وكتب لي إهداء بخطه، ولم أستطع أن أفك شفرة كلماته المنمنمة، فلجأت إلي مديرة مكتبه الخبيرة بخطه فقرأتها لي : إلي شريف عامر.. محبة وإعجابا واعتزازا وكذلك إيمانا بتواصل أجيال، واحترام.. هيكل». كان وقت هيكل محسوبا بالثانية، جدول يومه مشحون طوال الوقت، كنت تشعر وكأنه إنسان آلي وليس بشرا، فقد كانت لديه قدرة علي أن يعمل طوال الأربع والعشرين ساعة، وكنت أستغرب متي ينام ومتي يقضي وقتا مع أسرته.. المدهش أن هيكل كان يفعل كل شيء ويعطيه حقه حتي هواياته الشخصية.. كان هيكل مثلا من عشاق السباحة وظل يمارسها بانتظام حتي سنواته الأخيرة.. وعندما كنت أزوره في مصيفه السنوي بالساحل الشمالي كان موعدي معه عقب فترة »العوم الصباحي» كما كان يسميه. كان يدهشني كذلك علاقته بالزرع وخبرته بأنواع الأشجار، ولديه في »برقاش» أنواع نادرة لم أرها إلا عنده، وعندما انتهيت من بيتي الجديد وشرعت في زراعة حديقته الصغيرة أبديت إعجابي بشجرة بديعة المنظر عنده فأهداني منها شجرتين زرعتهما في مقابل شباك غرفة مكتبي لتقع عيني عليهما طوال الوقت.. ومرة أخبرته أنني سأشتري نوعا نادرا من الأشجار ظننت أنه لا يعرفه، فإذا به يشير بإصبعه ويقول: زي دي؟.. وكانت هي نفسها الشجرة. وفي »برقاش» كان هناك ركن من الحديقة يسميه هيكل »حديقة الأحجار» يجمع فيها حجرا من كل منطقة وجبل في مصر، وبينها كان يحتفظ بحجر ضخم من نيزك سقط منذ سنوات بعيدة في مصر، وجاءته تلك القطعة علي سبيل الهدية. أما علاقته بالفن التشكيلي وفن العمارة فحدث ولا حرج، وكان يقتني في »برقاش» وفي مكتبه علي النيل لوحات عالمية لرسامين كبار، ولا يمكن أن تتصور حزنه علي ما احترق منها في الهجوم الهمجي علي بيته الريفي. وفي علاقتي به أزعم أنني ضيف هيكل الوحيد الذي هرب من سيجاره الشهير.. كانت هناك شخصيات مهمة تذهب إليه خصيصا لتحظي بتلك الهدية الثمينة، وأن تحصل منه علي »سيجار»، وكان الأستاذ يقتني كل أنواع وماركات السيجار، ويقدم لك إن أراد السيجار الذي يليق بشخصيتك وبمكانتك عنده.. وفي أول لقاء لنا عزم عليّ بسيجار، وتكرر الأمر في اللقاء الثاني والثالث.. وبعدها قلت له: يا أستاذ سامحني.. أنا مش بتاع سيجار.. اسمح لي أدخن السجاير اللي أنا متعود عليها... وظل اعتذاري عن سيجاره مثار سخرية منه لفترة طويلة. كنت سعيدا بتلك العلاقة الإنسانية وحريصا علي أن تبقي بعيدا عن المنفعة الشخصية أو المظهرية، ولذلك لم أحاور هيكل إلا مرة واحدة وفي ظروف خاصة.. كنا قبل أيام من فترة الصمت التي تسبق الانتخابات الرئاسية التي أعقبت ثورة يناير.. ووقتها عرضت عليه الفكرة: غدا سيبدأ الصمت الانتخابي.. ما رأيك يا أستاذ: عندما يصمت الجميع يتكلم هيكل؟.. وأعجبته الفكرة وظهر معي في حلقة شهيرة في قناة »الحياة».. وفي تلك الحلقة عملت سابقة كانت تحدث لأول مرة في حوارات هيكل التليفزيونية ولا أظن أن أحدا فعلها بعدي. كان هيكل مفتونا بالشعر ويحفظ الكثير منه ويستشهد بأبياته ويستخدمها بذكاء في التعليق علي الأحداث السياسية، وكانت له مقدرة فائقة علي ربط الشعر والسياسة.. وفي لقائي التليفزيوني معه ختم حديثه ببيت شعر لأمير الشعراء من قصيدة قديمة عن النيل غنتها أم كلثوم.. وقررت أن أختم الحلقة بصوت أم كلثوم وهي تغني هذا البيت.. ومن المؤكد أن هيكل نفسه فوجئ بهذا »الجنون»، فقد كانت هي المرة الأولي والأخيرة التي يختتم فيها حوارا تليفزيونيا سياسيا لهيكل بأغنية لأم كلثوم. 2 عندما يفتح لك هيكل أبواب مملكته الريفية، ويدعوك لزيارته في »برقاش» فهو تقدير يدرك قيمته العارفون ب»الأستاذ».. وفي المرة الأولي التي نال فيها شريف عامر هذا التقدير قرر أن يغلق هاتفه حتي لا يشغله شيء عن تلك الزيارة »التاريخية». وامتدت الزيارة لثلاث ساعات كاملة، حاول خلالها والده، الكاتب الصحفي الكبير منير عامر، أن يتصل به عشرات المرات لكنه كان يفاجأ بالهاتف المغلق، وهو أمر لم يعتده أبداًمما أثار قلقه وتوجسه، فاتصل بزوجة شريف وبناته بل وابنه حسين الذي يدرس في لندن، لكن أحداً لم يكن لديه علم بوجوده في »برقاش». ولما فتح شريف هاتفه، وهو في طريق العودة، نبهه الهاتف أن والده اتصل به عشرات المرات، ولما عرف منير عامر أن ابنه قضي ثلاث ساعات بصحبة محمد حسنين هيكل لم يملك إلا أن يوجه له سبابا أبويا، ثم علق علي طريقته: »يا ابني جيلي وأساتذتي كان ينتظر الأستاذ هيكل في مواعيد دخوله وانصرافه من مكتبه بالأهرام عسي أن يفوز بشرف ركوب الأسانسير معه.. أنت مين علشان تقعد مع هيكل ثلاث ساعات؟!» وحدث مرة أن كان شريف عامر في مكتب الأستاذ هيكل في وجود محمد فائق، وزير الإعلام الشهير في العهد الناصري، وقال فائق لهيكل منبها: تعرف إن شريف ابن منير عامر؟.. ورد الأستاذ: طبعا عارف.. وأعرف منير كويس.. بس منير معرفة.. إنما الابن هو الصديق. لا يزال لدي شريف عامر »الصديق» الكثير من الحكايات المهمة والمدهشة عن الأستاذ هيكل.. فأنصتوا إليه: »لم يكن الأستاذ هيكل ينسي أبدا أنه صحفي، والصحفي عنده معلومة وخبر، وفي سبيل أن يعرف ويفهم كان مستعدا لأن يلتقي بكل من لديه المعلومة والخبر، لذلك كنت تجد في مكتبه كل ألوان الطيف السياسي من أقصي اليمين إلي أقصي اليسار، بل كان يفتح مكتبه لمن كنا نظنهم أعداءه التاريخيين من جماعة الإخوان المسلمين.. أذكر مرة أنه التقي بوفد إخواني من قيادات الجماعة كان بينهم سعد الكتاتني الذي صار بعدها رئيس البرلمان الإخواني، كنا وقتها بعد ثورة يناير، وجاء الوفد الإخواني لمكتب هيكل، ودار بينهم حوار طويل، المدهش أن هيكل استوقفته معلومة ذكروها عن مؤسس الجماعة حسن البنا، فقاطعهم: أنتم صحيح إخوان بس يبدو أنكم لا تعرفون شيئا عن تاريخ مرشدها الأول.. أنتم قرأتم عنه إنما أنا قابلته وحاورته وأعرفه أكثر منكم.. ثم صحح لهم معلوماتهم عن مرشدهم الأكبر. وفي هذا السياق يمكنك أن تفهم سر موافقة هيكل علي لقاء الرئيس الإخواني محمد مرسي وذهابه لمقابلته في القصر الجمهوري.. مرسي كان حريصا علي أن تجمعه صورة واحدة مع هيكل، إدراكا منه لمكانة هيكل وقدره السياسي والشعبي، وكان مرسي يحتاج لكل ما يدعم شرعيته المنقوصة.. أما هيكل فقد كانت له أسبابه »المهنية» الوجيهة، إذ كان يريد أن يقرأ الرجل الذي ساقته المقادير لحكم مصر، ويعرف إلي أين سيأخذنا هو وجماعته.. وبعد هذه المقابلة كان انطباع هيكل كما سمعته منه: مرسي رئيس في مأزق.. ولن يستطيع أن يدير العلاقات السياسية المعقدة والمتشابكة في مصر الآن. كان هيكل مدركا طوال الوقت أن الإخوان جماعة بلا صديق، وعندما بدا لهم أن الأستاذ اختار معسكر الوطن، ووقف في الخندق الآخر مع ثورة 30 / 6، قرروا أن يعاقبوه، وهو ما تجلي في الحريق الهمجي لبيته في »برقاش»، الحريق الذي أكلت نيرانه عشرات من أندر الوثائق والأوراق واللوحات والكتب.. وأظن إلي حد اليقين أن »الخسائر التاريخية» في الحريق هي أكبر وجع عاني منه الأستاذ في سنواته الأخيرة.. ولا تستطيع أن تنسي نظرة عينيه وما بهما من حسرة عندما تسأله عن الواقعة، وغالبا كان ينتقل إلي موضوع آخر لأنه لا يحتمل الكلام عنها.. مجرد الكلام. الوثيقة عند هيكل كانت تعني »حياة»، ولذلك كان يحرص علي أن يوثق كل لحظة وكل حدث وكل موقف.. مثلا عندما عرض عليه مبارك أن تتكفل الدولة بعلاجه، عندما داهمه مرض السرطان في منتصف التسعينيات، لم يكتف هيكل بالاعتذار للرئيس الأسبق عن عرضه تليفونيا، بل أرسل إليه بخطاب مكتوب يتضمن شكره واعتذاره يوثق به الموقف ويمكنه الرجوع إليه إذا ما احتاج إلي دليل مادي يشهد ويثبت ويؤكد. أنا نفسي كنت أكتشف أنني موجود في جلسات مهمة جدا في مكتبه كان يجري فيها مناقشة وتحديد مصير البلد، لأكون شاهدا حيا عليها وعلي مواقفه فيها.. أذكر أنني كنت أستأذن منه لأنصرف عندما ينتهي الوقت المحدد لي معه، خاصة عندما يصل الضيف القادم ويخبرونه أن فلانا قد حضر، وفلان هذا يكون شخصية مهمة وخطيرة ولاعب أساسي في المشهد السياسي، وفي مرات كان يفاجئني بطلبه: اقعد معنا 5 دقائق.. ولو أعطيتك إشارة تقدر تستأذن وتمشي... وتمر الدقائق ولا تأتي الإشارة المنتظرة، وأجدني موجودا وحاضرا إلي آخر الجلسة، وأجدني أسمع أسرارا ومعلومات »حساسة»، وأدركت بالتجربة أن الأستاذ كان يريدني كشاهد، وربما كان يفعل ذلك مع آخرين يثق أنهم لن يسيئوا استغلال الموقف. في ظل تلك العلاقة التي حرصت علي أن تكون إنسانية في المقام الأول، كنت استشير »الأستاذ» في تفاصيل حياتي، الخاص منها والعام، وكان متفاعلا ومتقبلا من منطق أبوي.. وكنت أثق في نصائحه ورجاحة عقله وخبرته الواسعة بالحياة والناس. أذكر عندما جاءني العرض للانتقال إلي محطة »إم بي سي مصر» ذهبت لأستشيره في هذا القرار المصيري، ووجدته رافضا بحسم، وكان من رأيه أنني حققت نجاحا استثنائيا علي شاشة »الحياة» المصرية، ولا يجب أن أقامر وأغامر بالانتقال إلي قناة عربية مهما كانت المغريات.. وكان له منطقه: بص يا شريف.. أنا محمد حسنين هيكل أهو لما تركت الأهرام عمري ما فكرت إني ممكن أروح جورنال تاني.. لأن القارئ اللي كان بيتابعني في الأهرام لن يذهب معي إلي مكان آخر ويترك صحيفته المفضلة من أجلي.. وكذلك مشاهدك في »الحياة» لن ينتقل معك.. عندما تذهب إلي موسكو يا عزيزي لن تستطيع أن ترتدي ما كنت ترتديه في القاهرة. كان الأستاذ يتكلم من منطلق خوف حقيقي عليّ وحرص علي مستقبلي وبمشاعر أبوية صادقة.. لكن كان لي منطقي ودوافعي وحيثياتي، وقلت له: أنا وصلت لحالة من الزهق، وشايف إني داخل علي أداء روتيني ولا يمكن أن أتجاوز سقف النجاح اللي وصلت له.. وأنا أكره بشدة في شغلي إحساس إني أكون موظف.. فأنا قررت إني أمشي.. وعندي حساباتي وقناعاتي. ومن يقترب من الأستاذ هيكل يعرف أنه يحترم في الشخص إصراره ودفاعه عن وجهة نظره حتي لو كانت تخالفه وتعارضه هو شخصيا.. ولما رآني مقتنعا ومصرا علي موقفي لم يملك سوي أن يبارك خطوتي المصيرية.. لكنه طلب مني طلبا غريبا: في أول أسبوع لك في القناة الجديدة لن تكون هناك أية مقابلات ولا اتصالات بيننا.. وبعد أسبوع وجدته يتصل هو بي وبصوته فرح: مبروك.. أنت خلقت منطقة ومكانة معينة لنفسك وشايف أنك محققها في المكان الجديد.. بص يا شريف أنت موجود في المكان ده والمكانة دي لسبب واحد هو أنك مذيع عندك مصداقية مع الناس.. أرجوك حافظ عليها.. ولازم تبقي فاهم إن المصداقية دي هي رأسمالك الوحيد. وكانت كلماته هذه وشهادته تلك وكأنني حصلت علي جائزة نوبل! وفي كل مرة كنت أتعلم درسا جديدا من هذا الرجل، كيف يفكر، كيف يتصرف، كيف يعيش كل لحظة من حياته، كيف يبقي متواصلا ومتفاعلا مع كل جديد في الحياة: بشر وحجر. أذكر مثلا أن صديقا لي طلب مني التوسط لدي الأستاذ ليقابل وفدا من شباب حركة »تمرد» بناء علي طلبهم، وكان ذلك بعد نجاحهم في إسقاط حكم الإخوان، ولما أخبرته بتلك الرغبة وافق فورا، وحدد لهم موعدا والتقاهم في مكتبه ومنحهم وقته وعقله، وكان هو نفسه يرغب في سماع هذا الجيل الجديد والتعرف علي أفكاره، وكانت نصيحته لهم ألا يسمحوا لأحد »بركوب» الحركة واستغلالها لمصالح شخصية.. وخرج شباب تمرد من عنده وهم منبهرون بشخصيته وقدرته الفذة علي التحليل ورؤية الصورة كاملة. ورغم أن هيكل كان يبدو رجلا محافظا، إلا أنه في الحقيقة كان عصريا جدا، بل كان يبهرني في اهتمامه بالتكنولوجيا.. فصحيح أنه كان يعشق الورقة والقلم، ولا يكتب مقالاته إلا بالطريقة الكلاسيكية القديمة، إلا أن هذا لم يمنعه أن يقتني أحدث ماركات الهواتف والأجهزة اللوحية ويستخدمها في حياته اليومية.. وكانت تصله يوميا نسختان من الصحف المصرية والعالمية: واحدة مطبوعة.. وواحدة الكترونية بطريقة pdf، وحدث مرة أن أهداه أحد أفراد أسرته جهازاً محمولا حديثا، كان الأستاذ معجبا بإمكانياته لكنه لم يكن راضيا عن لونه، وكان أقرب إلي اللون الذهبي، وهو لون رأي الأستاذ أنه شبابي أكثر من اللازم ولا يليق به.. وكنت قد اشتريت وقتها وأنا عائد من سفر للخارج »جرابات» لتليفوني ذات ألوان كلاسيكية، فوضعت واحدا منها في تليفون الأستاذ، ولما رأي شكله الجديد رضي عنه وقال بفرح: يا سلام.. كده بقي شيء محترم. كنت أستشيره كصديق وأب في شئون حياتي الخاصة وكان يسعد بذلك.. أما هو فكان أحيانا يطلب رأيي في الحلقات التليفزيونية التي يظهر فيها بحكم خبرتي في العمل التليفزيوني وتفاصيله من إضاءة وديكور وملابس وزوايا الكاميرا وخلافه..حدث ذلك مثلا في حلقاته مع الإعلامية لميس الحديدي، فلم يكن هيكل يترك شيئا للصدفة في ظهوره التليفزيوني، كان »يذاكر» كأنه يدخل امتحانا، وكنت تدخل مكتبه وقتها فتجد مئات الملفات والخرائط والوثائق، ومساعديه في مكتبه لا يكفون عن الحركة، كل واحد ينجز مهمة محددة.. وعندما يجلس الأستاذ أمام الكاميرا يكون قد سبقها ساعات من التجهيز والتحضير والاستعداد.. لم أر في حياتي رجلا بهذه الجدية مثل الأستاذ هيكل. كنت أحيانا أشعر أن مكتبه هو »مطبخ» صناعة الأخبار والقرارات في مصر، ولا بالغ عندما أقول إن مكتب الأستاذ وبيته في »برقاش» كانا من الأماكن التي صنعت السياسة في مصر طوال نصف قرن، وزارهما كل الشخصيات المؤثرة والفاعلة في صناعة القرار السياسي في بلدنا. طوال الوقت كنت تجد عند هيكل كل جديد.. أذكر أنني قابلته مرة بعد أن وصله أحدث تقرير عن توزيع الصحف في مصر.. التوزيع الحقيقي وليس »المضروب».. ويومها كان متأثرا ومنفعلا للغاية وهو يستعرض الأرقام ويعقد مقارنة بين توزيع الصحف في الستينيات وتوزيعها الآن مع الأخذ في الاعتبار الزيادة الهائلة في عدد السكان.. يومها قال: هذه الأرقام تدل علي أن الصحافة في أزمة.. لكنها تكشف عن أن المجتمع كله في محنة.. لأنه توقف عن القراءة. كان هيكل مريضا مثاليا بامتياز.. فمادام الأمر يتعلق بصحته فهو مستعد أن يكون مطيعا إلي أقصي حد.. ويلتزم بتعليمات الأطباء بلا مناقشة.. لم أعاصر فترة مرضه بالسرطان، ولكنه حكي لي عنه وعنها، وكيف استطاع بقوة الإرادة أن يقهر هذا الوحش المخيف. ولكن المقادير أتاحت لي فرصة الاقتراب منه في مرضه الأخير، وقد كان الكسر الذي أصيب به في قدمه وهو يقضي إجازة صيفية في الغردقة نقطة فارقة ومؤشرا علي النهاية الحتمية، وقد كان هيكل مستعدا لها ومتقبلا ومدركا أنها قدر لا مفر منه ولا مهرب. كان أحيانا ينصحني: »لا تمنع نفسك من شيء نفسك فيه»، وهي نصائح لم يطبقها شخصيا علي نفسه، فقد تخلي طواعية عن تدخين السيجار رغم عشقه له، عندما طلب منه طبيبه ذلك لأسباب صحية، وسمح له بسيجار واحد فقط طوال اليوم..أما محبته لزوجته السيدة هدايت تيمور فقد كانت مضرب الأمثال، وكان مستعدا دائما لأن يفيض في حب »أم الأولاد» ورفيقة العمر. كنت من القلائل الذي سمح لهم الأستاذ هيكل بزيارته عندما انكسرت ساقه وهو ينزل السلم في الغردقة.. وبعدها بدأ يمارس حياته الطبيعية مستخدما »مشاية»، وواظب علي العلاج في مصر والخارج، ولم يكف لحظة عن المتابعة الصحفية، إلي أن حدث التدهور المفاجئ في صحته وأصيب بالفشل الكلوي. وفي تلك المرحلة كذلك كنت من المسموح لهم بالاقتراب وبتواصل يومي هاتفي، وكنت أنتقي الوقت المناسب حتي لا أسبب له أي إزعاج، وطلبت من نجله أحمد هيكل: »وقت ما الأستاذ يحب يشوفني أنا جاهز»، وكان ذلك في الأيام العشرة الأخيرة من حياة هيكل. وبناء علي موافقته ذهبت لزيارته، وحتي وهو في سرير المرض لم ينس أنه صحفي، وأذكر أنه سألني: هل عندك أخبار تزلزل الأرض؟.. واستخدم التعبير الإنجليزي: earth shocking news.. وأجبته تلقائيا: يا أستاذ هيكل.. الأخبار المزلزلة دي دايما بتبقي عندك أنت، عندها ابتسم وقال جملة لا أنساها: كل ما عندي من أخبار ومعلومات تزلزل الأرض سترحل معي. كان ذلك قبل رحيله بأربعة أيام، وكان هو اللقاء الأخير بيننا، وكان كذلك اللقاء الوحيد الذي لم نتفق خلاله علي موعد للقاء التالي، فطيلة خمس سنوات كنت ألتقيه كل أسبوع مرة علي الأقل ومرتين في الغالب، وفي كل مرة كان اللقاء ينتهي بتحديد موعد المقابلة القادمة، وإذا لم نتفق عليه أتلقي اتصالا منه في اليوم التالي: ح نتقابل في اليوم الفلاني. لم نتفق علي موعد في هذا اللقاء، لكنني كنت ممتنا أنه سمح لي بزيارته في سرير مرضه الأخير، ونادرون هم الذين أتيحت لهم هذه الفرصة.. بعدها بيومين تلقيت اتصالا من نجله أحمد هيكل: الأستاذ بيسلم عليك.. موصيني أكلمك وأبلغك سلامه. أدركت أنه »الوداع الأخير»، وعرفت أن الأستاذ في ساعاته الأخيرة طلب من نجله أن يبلغ سلامه لقائمة محدودة من الأصدقاء المقربين، وشرفني أن وضعني بينهم.. وسأظل لآخر العمر أفتخر أن الأستاذ هيكل اعتبرني من أصدقائه.. وممن شملهم وخصهم ب»اللام الأخير».