هكذا يشعر كل الإماراتيين تجاه حكيم العرب الشيخ زايد ذلك العبقري الذي كان يملك خيالًا فطريًا لا مثيل له وقدرة وإرادة علي تحويل ذلك الخيال إلي واقع. تاريخ جديد في كل مرة أزور فيها بلدًا للمرة الأولي في حياتي يخيل إليّ أنني بحاجة لقراءة كتب التاريخ من جديد فالقراءة بعد السفر تختلف تمامًا عن القراءة قبله. في القراءة القبلية تترك نفسك للكاتب ليطوف بك في جنبات التاريخ، لن تدرك وقتها إن كان قد بالغ أو قد أصاب قلمه هوي، بينما في القراءة البعدية تستطيع أن تضع كل كلمة قرأتها في ميزانك الخاص بعد أن تكون قد شاهدت بنفسك من الدلائل والبراهين ما قد يرجح لديك صدق المؤرخ من عدمه وتتمكن وقتها من أن تكون شاهداً بنفسك علي ذلك التاريخ وربما تكون أحد صناعه. عدت منذ أيام من زيارتي الأولي لدولة الإمارات العربية المتحدة. أخجل من القول بأنها الزيارة الأولي لي لدولة عربية وقد بلغت من العمرعتيًا. لا أتصور أن مواطنًا عربيًا في أي بقعة عربية لم يتمكن حتي الآن من زيارة جميع الدول العربية من المحيط للخليج ومن سطلنة عمان للمغرب ليس فقط بسبب الظروف الاقتصادية والسياسية التي يمر بها العالم كله وليس فقط المنطقة العربية والتي جعلت فتح الحدود بين الدول العربية من رابع المستحيلات، وجعلت كل يوم يشهد المزيد من القيود علي تحركات الناس فأصبح المواطن في كل مكان في العالم يسير تحت وطأة كاميرات المراقبة التي أصبح عددها يفوق تعداد سكان العالم. دخول الإمارات يتم إليكتروينا بمجرد أن تضع باسبورك بنفسك علي جهاز الإسكانر فوضعت الباسبور علي الجهاز فلم يستجب فسألني الضابط: هل هذه أول مرة تزور الإمارات؟ فقلت: نعم فطلب مني أن أتوجه لأخذ بصمة العين ثم سلمني الجواز في أقل من دقيقة وهو يقول مبتسمًا: في المرة القادمة عند دخولك الإمارات لن تحتاج للمرور علي إدارة الجوازات وستتمكن من العبور إليكترونيًا. تخطيط مصري أقول وبمنتهي الصراحة إنني لم أكن أتوقع كل هذا الجمال الذي رأيته في الإمارات منذ أن وطأت بقدمي أرض مطار أبو ظبي الدولي ولعل أكثر ما لفت نظري بعد حسن الاستقبال وسهولة الدخول روعة ونظافة مطار أبو ظبي. كان ظهر الجمعة قد أزف فسألت عن أقرب مسجد يمكنني الصلاة فيه فوجدته داخل إحدي صالات المطار علي بعد أمتار قليلة من صالة الوصول. كنت قد غادرت مطار القاهرة بعد فجر الجمعة ورغم روعة المسجد الموجود في صالة 3 بمطار القاهرة واتساعه ونظافته إلا أنه لا توجد به مثلا لوحة توضح مواقيت الصلاة ولا ميكروفون للآذان فاجتهدنا أنا ومجموعة من المصلين في تخمين وقت الصلاة. لا أدري هل تكلفة هذه اللوحة من الممكن أن يرهق ميزانية المطار مثلا أم أنه مجرد الإهمال الذي يفسد الأشياء الجميلة ويشوهها؟. لم تكن مفاجأة لي أن أعرف أن صاحب هذا التخطيط الجميل لمدينة أبو ظبي هو المهندس المصري عبد الرحمن مخلوف الذي استعان به الشيخ زايد في الستينيات وقبل إعلان قيام دولة الإماراتالمتحدة لتخطيط المدينة بما يستوعب المشروعات والتوسعات الجديدة والزيادة السكانية المتوقعة. لم أتملك نفسي من الدهشة وحتي الآن فكيف يكون لدينا مصري بهذه العبقرية في التخطيط في الوقت الذي يكون فيه لدينا أسوأ تخطيط للمدن بل نضطر كثيرًا للاستعانة بخبراء أجانب؟! هل هو زامر الحي الذي لا يطرب أم أن الإمكانيات التي تتوافر للمصريين بالخارج هي التي تساعد علي ظهور نبوغهم وتفوقهم؟ كانت وجهتي الأولي في الزيارة إلي مدينة بدع زايد أو مدينة زايد وهي إحدي مدن المنطقة الغربية التي يطلق عليها منطقة الظفرة وتضم مع مدينة زايد العديد من المدن والمناطق منها المرفا والسلع وغياثي وليوا أو مزيرعة وجزيرة دلما وغيرها. لفت نظري جمال الأسماء التي تطلق علي المدن والأحياء والشوارع ليس فقط في منطقة الظفرة ولكن في جميع أنحاء الإمارات العربية المتحدة. أسماء موحية بالتفاؤل والحب والجمال فكلما ذهبت إلي مكان استقبلتك الأسماء الجميلة وقيل لي إن الشيخ زايد رحمه الله هو من غرس تلك العادة عند حكام الإمارات الذين نقلوها بالتالي لحكام المناطق فنشروا أسماء السعادة، الفلاح، الشهامة، التحلية، السميح وغيرها من الأسماء التي تجعلك تبدأ يومك مبتهجًا. قانون موجع »من لم يربه أمه وأبوه يربيه الزمن» هكذا نقول في مصر ولكنهم في الإمارات يقولون أن من لم يربه أبواه يربيه قانون المرور. احترام المرور في الإمارات العربية من المسلمات. ذلك الاحترام الذي يبدأ من التدقيق الرهيب عند الحصول علي رخصة القيادة. سمعت قصصًا عديدة خلاصتها أنه من شبه المستحيلات أن تحصل علي الرخصة من أول مرة، طبعًا لا مجال هنا للحديث عن وساطة في الرخصة. حتي من يكون في بلاده قائدًا بارعًا ولديه رخصة منذ سنوات لا يعترف بها ويتم اختباره من جديد ولا يحصل علي رخصة القيادة إلا عندما يكون مؤهلًا لذلك فعلًا. ثم تأتي بعد ذلك تلك العقوبات الرهيبة التي يتم فرضها علي من يخالف نظم المرور في الإمارات وعلي حد تعبير أحد الأصدقاء القانون هنا موجع ولا يفرق بين المواطن وبين الوافد ولا بين الوزير والغفير. وهي من القواعد التي أرساها الشيخ زايد وطبقها علي نفسه قبل أي أحد فقيل لي إنه كان يقود السيارة بنفسه وفي أحد الميادين (يطلق علي الميدان في الإمارات دوار) اصطدم الشيخ زايد بسيارة هندي في حادث مروع نقل علي إثره الشيخ للمستشفي في غيبوبة أفاق منها بعد ثلاثة أيام وكان أول ما فعله سأل عن الهندي فقيل له إنه تم التحفظ عليه لحين الإطمئنان علي صحته فطلب أن يحضروا له خبير مرور لا يخشي في الحق لومة لائم ولما جاءه سأله عن المخطئ فقال تأدبًا: أخشي أن أسيء الأدب لو قلت إن الغلط كان من جانبكم فطلب الشيخ زايد الإفراج عن الهندي فورًا وتعويضه جراء حبسه ظلمًا عدة أيام. وفي مرة أخري وفي دوار آخر توقف صحفي مصري كبير بسيارته ليفسح الطريق لسيارة الشيخ زايد الذي ترجل من السيارة وقال له: يا أستاذ فلان لقد استعنا بكم لتعلمونا النظام قبل كل شيء وهذا التصرف منك قد يفتح الباب لأبناء البلد ليحذوا حذوه وهو ما قد يحيل الشوارع إلي فوضي عارمة!. عمر الأحمد حرصت بمجرد وصولي لأبو ظبي علي الاتصال بصديقي الإماراتي عمر الأحمد الصحفي المرموق بجريدة الاتحاد الإماراتيه. عمر خريج هندسة طيران وعمل مهندسًا للطيران ثلاث سنوات لكن حبه للصحافة والكتابة طغي علي حبه للهندسة فاتخذ قرارًا جريئًا منذ عدة سنوات عندما قرأ إعلانًا بجريدة الاتحاد تطلب محررين جددًا فلم يتردد وقدم ونجح وأصبح من أهم الصحفيين في الإمارات. تعرفت عليه العام الماضي في رحلة صحفية للصين جمعتني مع مجموعة من أحب الأصدقاء والكتاب من مصر وعدة دول عربية. كان يحتفل بمولد ابنه عبد الله بن عمر الذي أسماه علي اسم والد فظننت أنه مولوده الأول لكنه قال لي إن ابنه الأول هو زايد تيمنًا بالشيخ زايد ثم أردف قائلًا بتلقائية شديدة: الاثنين آبائي.هكذا يشعر كل الإماراتيين تجاه حكيم العرب الشيخ زايد ذلك العبقري الذي كان يملك خيالًا فطريًا لا مثيل له وقدرة وإرادة علي تحويل ذلك الخيال إلي واقع يفوق ربما ما تخيله الرجل في الروعة والجمال وحسن إدارة موارد البلاد بما يحقق للمواطن فعلًا السعادة التي تجسدت مؤخرًا في تعيين وزيرة للسعادة. بالمناسبة شعار إسعاد المواطنين في الإمارات ليس مجرد شعار للاستهلاك المحلي لكنه حقيقة ملموسة يشعر بها أي زائر للإمارات التي تحرص فعلًا علي أن يكون المواطن سعيدًا بتيسير كل سبل الحياة الكريمة وتسهيل أية إجراءات حكومية حيث تنتشر في ربوع الإمارات فروع لمركز اسمه »تم» يستطيع المواطن فيه أن يتعامل مع جميع الأجهزة الحكومية دفعة واحدة ويسدد فواتيره مثلًا أو يقدم طلبًا ما أو أي شيء من هذا القبيل. حكي لي عمر الأحمد مثلًا أنه عندما وضعت زوجته طفلهما عبد الله قام المستشفي بإخطار وزارة الصحة عن طريق النت بموعد ومكان الولادة وجميع البيانات فقامت الوزارة بالتالي عن طريق النت بطلب صورة للمولود من والده والاسم الذي اختاره له وفي اليوم التالي وجد عمر في بريده بطاقة الهوية لطفله الجديد مع التأكيد علي أنه خلال أسبوع أو أقل يستطيع استلام جواز السفر الخاص به وفوجئ مع هوية عبد الله برسالة من الشيخ محمد بن زايد ولي العهد موجهة إلي الطفل يرحب به ويؤكد له حرص بلاده علي أن يشب وينمو في مناخ رائع حتي يكون مواطنًا صالحًا تحتاجه بلاده في المستقبل. يقول عمر إنه بكي تأثرا بالخطاب قائلًا لي: تخيل وقع هذا الخطاب علي عبد الله عندما يكبر بإذن الله. أصدقاء العمر لا أتخيل لهذه السفرية طعمًا لولا وجود أصدقاء لي ممن سافروا للعمل في صحف الإمارات سواء في أبو ظبي أو في دبي ولو خصصت اليوميات كلها لذكرهم لاحتجت لاحتكار يوميات الأخبار شهرًا كاملًا ومنهم إبراهيم سليم الذي كان علي اتصال دائم بي منذ اللحظة التي أخبرته فيها بقرار السفر والذي لم يدخر جهدًا لتوفير كل ما يلزمني لتكون الرحلة ممتعة من لحظة وصولي وحتي مغادرتي. وحسام عبد النبي الذي لم يتركني لحظة طوال زيارتي لدبي وسامح عوض الله الذي استعدنا معًا ذكريات السفر لأمريكا وسيد سلامة صديق العمر الذي لم أره منذ فترة طويلة ومحمد جلال الذي حالت ظروف دون اللقاء لكن لم تتوقف اتصالاته ليطمئن عليّ يوميًا ومحمد هارون الذي اقتطع من وقته حرصًا منه علي الترحيب بي وكذلك فعل المصور الفنان مصطفي رضا رغم انشغاله بتصوير مباريات بطولة الآسيان وباسم عبد السميع وأحمد لطفي وعبدالفتاح منتصر ومؤمن أحمد ومصطفي أحمد وغيرهم الكثيرون ممن لا أبلغ لو قلت إنني أحتاج لتخصيص يوميات كاملة لكل واحد منهم وكله كوم وما فعله ابن أختي الحبيب محمد علي عبد الدايم كوم آخر فقد جعلني أفتخر به بين الأصدقاء الصحفيين حيث رغم صغر سنه إلا أنه يتقدم في مجال عمله بالسياحة بشكل كبير يجعلني أتوقع له مستقبلًا باهرًا في هذا المجال. أما المفاجأة الحقيقية فكانت في الصديق المهندس طلعت محمد الذي ما إن عرف بوصولي لأبو ظبي إلا وقام بالاتصال بي ليتفرغ لي طوال الرحلة لتذليل أي مصاعب كما أعد لي أكثر من جولة للتعرف علي معالم أبو ظبي السياحية وظل مرافقًا لي حتي توديعي للمطار في ساعة متأخرة من الليل ولم يتركني إلا مؤكدًا لي أنه قد وضع من الآن برنامج زيارتي المقبلة للإمارات. نهاية الرحلة قضيت في الإمارات 17 يومًا بالتمام والكمال لم أسمع خلالها كلاكس سيارة ولو مرة واحدة وعند عودتي وقبل مغادرتي محيط مطار القاهرة كنت قد استمعت أكثر من 70 كلاكس في سبع دقائق!