اعتداء يومى على صاحب رائعة "الاستبداد" التى يرفعها الثوار العرب سرقوا سورها وأقاموا مقهي بجوارها قبل أكثر من مائة عام وضع عبد الرحمن الكواكبي كتابه الشهير »طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد« ليصبح طوال هذه الفترة أحد المراجع المهمة في تشريح العلاقات وأشكال الحكم في العالم العربي، وعندما ثارت الشعوب العربية علي حكامها أخيراً تحول الكتاب وصاحبه إلي أحد الرموز المؤثرة، يستعين به المحللون في نقد الأوضاع، ويرفع الثوار أقواله شعارات تنادي بمطالبهم. لكن ومع استمرار كتابات الكواكبي في التأثير إلي يومنا هذا تبدو المفارشقة فيما يتعرض له تراثه من اعتداء يومي، وما يبدو أن الفاتورة التي دفعها الرجل لقاء كتاباته، والتي وصلت إلي حد اغتياله، لم تكن كافية، فالشهرة والاحترام اللذان نالهما عند الجمهور، واجهتهما السلطة برفض عظيم لأفكاره، وهو بالتأكيد أمر طبيعي من سلطة لها الصفات التي قام بتشريحها، كل ما قام به الكواكبي سواء في الوظائف الرسمية التي تقلدها في حلب مسقط رأسه (كان معظمها عملاً تطوعياً بلا أجر) ومروراً بعمله الصحفي، ومؤلفاته، كانت تصب في محاولة إصلاح وتقويم السلطة المستبدة وذلك لإيمانه بأن الاستبداد هو أصل كل العلل والمشاكل في العالم العربي، وأن الحل الوحيد كما رأي هو وضع الحكومات »تحت المراقبة الشديدة، والمحاسبة التي لا تسامح فيها«، وهي الفكرة الأساسية التي تسعي الشعوب العربية الآن إلي تطبيقها. في 1902 دس أحدهم السم للكواكبي في فنجان قهوته منهياً حياة مفكر كبير وشجاع، لم يبال بالمصاعب التي زرعتها السلطة في طريقه، بداية من تقديمه للمحاكمة في سوريا والحكم عليه بالإعدام بتهمة إثارة العامة ضد الحكومة، قبل إعادة المحاكمة وتبرئته من التهمة، ومروراً بإغلاق الجرائد التي أسسها واحدة وراء الأخري، وانتهاء بسرقة مخطوطات أعماله بعد قتله، ليتبقي لنا فقط كتاباه »طبائع الاستبداد«، و»أهل القري«. هذه الأيام يتعرض الكواكبي لظلم جديد، يشترك فيه هذه المرة السلطة والناس الذين طالما دافع عنهم، فمقبرته المدفون فيها في باب الوزير توشك الآن علي الاندثار، البعض سرق سورها الحديدي لتصبح في الشارع، ثم جاء آخرون ليقتحموا حرمتها ويقيموا مقهي بجوارها، هذا إضافة إلي وجود شكوك قوية في أن بعض معالم المقبرة قد تغيرت بحيث اختلطت مع من بجوارها! هل يمكننا اعتبار هذا استمراراً للمحاولات القديمة في اخفاء كل ما له علاقة بالرجل وكتاباته؟ هذا ما أفكر فيه شخصياً، غير أن السيدة ضحي حفيدة عبد الرحمن الكواكبي، لا توافقني وتري أن ما يحدث الآن لمقبرة جدها إهمال ليس أكثر، لكنها حتي وهي تنفي شبهة التعمد فإنها تعرف أنه لابد من التحرك سريعاً لإنقاذ مقبرة الراحل قبل ضياعها نهائياً. ضحي التي عاشت من زمن في نيويورك وعملت كمديرة لشركةمقاولات، قررت مؤخراً الاستقرار في مصر، هي من فترة تفكر في العودة إلي الشرق الأوسط كما تقول، وفعلت ذلك في العام 2009، ورغم حبها لبلدها سوريا وتواجد أهلها هناك، لكنها خرجت منها صغيرة، وكل أصدقائها يقيمون في مصر الآن: »كم كبير من السوريات ومنهن من كن معي في المدرسة اخترن مصر للإقامة فيها، كنت أزورهن علي فترات وشجعنني علي البقاء هنا، قررت التجربة خاصة أن لي ولدين كبرا وأصبح كل منهما في ولاية، ووجدت نفسي وحدي، جئت إلي مصر ووجدتني مرتاحة للبلد وناسها«. في 2009 زارت المقبرة لم تكن حالتها جيدة، وجدت سورها مسروقاً، لكن لم يكن هناك مقهي، حدث هذا من شهور، لا تعرف متي علي وجه التحديد، إن كان في أواخر العام الماضي أم بداية هذا العام، تحديد التاريخ بدقة ليس مهماً في هذه الحالة، الأهم هو التحرك لإنقاذ الوضع وإعادة الأمور إلي ما كانت عليه، علي هذا خاطبت كل الجهات التي تظن أنها المعنية بالمسألة، فهي لا تعرف من الجهة المسئولة.. أرسلت خطابات إلي عماد أبو غازي وزير الثقافة وقتها، ثم شاكر عبد الحميد من بعده، وسمير غريب رئيس جهاز التنسيق الحضاري والذي اهتم بالموضوع وأرسل مجموعة من المهندسين لمعاينة الوضع وعلي إثر ذلك بعث بخطاب إلي محافظ القاهرة للسماح بإزالة المقهي، ووعد أنه فور إتمام ذلك سيقوم ببناء حائط حول المقبرة وهذه المرة من الطوب وليس الحديد كي لا يُسرق من جديد. كان ذلك من شهور تقارب الخمسة، وبعدها لم يحدث شيء، ظل الأمر علي ما هو عليه، الكواكبي في مقبرة يتم انتهاك حرمتها من قبل متسامرين علي المقهي لا يعرفون من الذي يرقد بجوارهم، أو يعرفون ولا يشكل ذلك فارقاً لديهم. ضحي التي تري في الكواكبي: »بطلي في كل شيء، أفكاره، وطريقة كتابته، أقرأ له كثيراً وهو إنسان مهم لدي، وأشعر أني أخذت شيئاً من جيناته«، تتمني أن ينتهي هذا الأمر للتفرغ لإنشاء ناد ثقافي باسمه، والعمل علي جمع مخطوطاته المتفرقة في أنحاء العالم. أين الكواكبي؟ المشكلات الحالية تأتي لتضاف إلي كم سابق من الإهمال أدي إلي مطالبة والد ضحي »عبد الرحمن« (يحمل اسم الجد نفسه) وأخيه سعد زغلول قبل سنوات، بنقل رفات الكواكبي إلي سوريا، وإلي حلب تحديداً حيث مسقط رأسه، فقبل أعوام زار وفد من السينما السورية القاهرة لتنفيذ فيلم عن حياة الكواكبي، وفاجأهم الوضع المزري للقبر، فالسور الحديدي كان قد سُرق نصفه، وشاهد القبر، الذي يحمل بيتين من الشعر كتبهما حافظ إبراهيم تأبيناً للمفكر الكبير، محطم وملقي علي الأرض. أثير الموضوع وقتها علي صفحات الجرائد فكان أن جري ترميم المكان، ولكن بطريقة متعجلة وبدائية فوقعت الكارثة، فعند الترميم لم يتم تحديد قبر الكواكبي من بين مجاوريه الاثنين، والنتيجة أن حظي صاحب القبر علي يمين الكواكبي ببيتي شعر حافظ. هنا رجل الدنيا هنا مهبط التقي هنا خير مظلوم هنا خير كاتب قفوا واقرؤوا أم الكتاب وسلموا عليه فهذا القبر قبر الكواكبي بينما قبر الكواكبي هو الأوسط وهذا علي حد تأكيد عم ضحي سعد زغلول الذي كان يزور القبر مع زوجته وعائلته قبل أن يبدأ الانهيار. وعلي ذلك فإن من يزور الكواكبي حالياً لا يزوره هو بالفعل! تقول ضحي أنه قد أثير وقتها مطالبات بنقل رفات الكواكبي إلي سوريا، وإلي بلدته حلب تحديداً، لكن أمر نقل الرفات وقتها توقف لاعتراض مصر علي ذلك بدعوي أنه مفكر عربي قومي، وأن لمصر فيه مثل ما لسوريا. وعلي هذا ظل رفات الكواكبي في مصر لكن بلا راحة!