ولأن أعداء النور في بلادنا العربية كثيرون, ولأن هناك دائما من يبيعون أنفسهم للشيطان, وأحيانا دون مقابل, فإن أعداء الكواكبي أصبحوا أكثر من قدرته علي إحصائهم. لو كان الاستبداد رجلا وأراد أن يحتسب وينتسب لقال: أنا الشر, وأبي الظلم, وأمي الاساءة, وأخي الغدر, وأختي المسكنة, وعمي الضر, وخالي الذل, وابني الفقر, وبنتي البطالة, وعشيرتي الجهالة, ووطني الخراب, أما ديني وشرفي وحياتي فالمال, المال, المال لا نعتقد أن هنا تشريحا لحال العالم الثالث, وتحديدا بلاد العرب في عصرنا الحديث أفضل من هذا التشريح الذي كتبه عبد الرحمن الكواكبي قبل ما يقرب من150 عاما, في كتابه طبائع الاستبداد الذي صدرت عنه طبعة حديثة اخيرا, ربما تكون الطبعة المائة. وما كتبه الكواكبي في الاستبداد من الاهمية بحيث صار في مكانة مهمة لدي الاسلاميين والعلمانيين والملحدين والماركسيين والليبراليين, وكل الاتجاهات والأفكار تقريبا. وإذا كانت الثقافة اليوم في عام2011, تعتمد بشكل كبير علي طائفتين هما أهل الصحافة, وأهل المحاماة, فإن الكواكبي الذي ولد في حلب بسوريا, في مثل هذا اليوم لعام1849, كان من أوائل من تنبهوا إلي أهمية هاتين المهنتين, فما يربط بينهما, ليس فقط أن نقابتيهما بالقاهرة متجاورتان, في شارع واحد, ولا أنهما حملتا لفترات عبء استضافة المحتجين ضد الاستبداد, ولكن لأنهما تعيان معا, أو هكذا يفترض لسيادة القانون, العدو الأول للمستبد. عمل الكواكبي أولا بالصحافة, فكتب في جريدة الفرات التي كانت تصدر في حلب, وبحسب حفيده سعد زغلول الكواكبي فإن جده احترف الصحافة براتب شهري, مما يدل علي انه لم يكن هاويا يلجأ إلي الصحافة. بعدها أنشأ صحيفة خاصة, فأصدر في حلب صحيفة الشهباء عام1877, ثم أصدر عام1879 جريدة الاعتدال شار فيها علي نهج الشهباء لكنها لم تستمر طويلا فتوقفت عن الصدور. درس المحاماة, وعمل في قطاعات حكومية, ثم اتخذ مكتبا للمحاماة في حي الفرافرة, أحد أحياء مدينة حلب قريبا من بيته, وكان يستقبل فيه الجميع من سائر الفئات ويساعدهم ويحصل حقوق المتظلمين ويسعي إلي مساعدتهم, وقد كان يؤدي في معظم الأحيان دون أي مقابل مادي, حتي اشتهر في جميع أنحاء حلب بلقب أبو الضعفاء. ولأن الاستبداد لا يحب الضعفاء, ولا أباهم, فإن حكومة السلطان عبد الحميد لم تتحمل وجوده, فتنقل الكواكبي بين البلدان, حتي استقر نهائيا في أم الدنيا, مصر المحروسة. وفي مصر عاد الكواكبي للكتابة في الصحف, واهتم بملف التعليم وإصلاحه, إيمانا بدور التعليم في مقاومة الطغيان الذي يهوي الجهل كما يهوي الخفاش الظلام. ولأن أعداء النور في بلادنا العربية كثيرون, ولأن هناك دائما من يبيعون أنفسهم للشيطان, وأحيانا دون مقابل, فإن أعداء الكواكبي أصبحوا أكثر من قدرته علي إحصائهم, وقد نجح هؤلاء في التخلص منه نهائيا بالسم عام1902 بالقاهرة, بعد أن ترك لنا كتابين هما: أم القري وطبائع الاستبداد, بينما اختفي كتابان آخران لم يتح له نشرهما, وربنا يرحم الجميع.