هذا هو الضلع الثالث من أضلاع المثلث الروائيالمتميز للدكتور كمال رحيم ، أولهم (قلوب منكهة) ، وثانيهم (أيام الشتات) ، وثالثهم (أحلام العودة) ، ويتذبذب مسرح الأحداث فيالأجزاء الثلاثة ما بين مصر وفرنسا ، أو بما هو أدق بين القاهرة وقرية المنصورية بمحافظة الجيزة من جانب ، وباريس من جانب آخر. وفيهذا الضلع الثالث يتحرك (بطلنا جلال) جيئة وذهاباً بين هذه الأماكن الثلاثة ، ويتحرك معه حشد من حواليخمسة وسبعين شخصية روائية من جنسيات مختلفة ، مصريون وفرنسيون ومغاربة وتوانسة ولبنانيون وهنود ، من مختلف الأعمال والأعمار والطبقات ، تجاراً ورجال أعمال وفلاحين وموظفين ونساء بيوت ، بل وكناسين مثل الخال شمعون الذي احترف هذه المهنة بعدما هاجر من مصر إلي باريس. وكما تحرك بطلنا جلال مكانياً جيئة وذهاباً ، فإنه تحرك كذلك زمانياً جيئة وذهاباً بين حاضره الروائيوإطلالات من حين لآخر علي ماضيه ، وقد وظف مبدعنا هذه الإطلالات ، كذاكرة لتقديم الصورة البانورامية للسيرة الروائية لبطلنا . وإحدي ميزات روايتنا هذه ، احتشادها بمأثورات شعبية تساهم فيتقديم البيئة الروائية ، واختيار ألفاظ شعبية لها شحنات تجعلها أشبه بالعيار المصوب نحو الهدف ، كقول جلال معقباً علي زيارة ثقيلة الظل من بعض النسوة "وبعد أن انكشحوا من البيت" (ص100) ، وهذا مجرد مثال والقارئ سوف يلحظ أن الرواية مزدحمة بحشد من هذا اللون من ألوان التعبير . كذلك فإن روايتنا مطعمة من حين لآخر كالحلية ببعض الأغانيوالأشعار ، وهيإشارة ذكية لزمن وقوع الأحداث الروائية ، لاسيما أن مبدعنا قد وظفها فيبعض المواقف العاطفية بين بطلنا جلال وحبيبته نادية ، كما أنه اختتم بها روايته. كذلك تساهم التشبيهات سواء بالنسبة للإنسان أو الجماد ، مساهمة كبيرة فيخدمة الحدث الروائي، مثال ذلك عندما دعاه العم إبراهيم الذي يستأثر بنصيب جلال فيما ورثه من أرض زراعية للقائه ، فأثناء تأهبه لهذا اللقاء يقول جلال عن أخته ليلي"وأسرعت إلي الدولاب تخرج ليملابسي... وتتأملنيثم خطوة إلي الوراء محدقة فيهيئتيوهيكليكأنما أنا موظف فيالدرك الأسفل من السلم الإداري، واتته الفرصة للقاء أحد مسئولية الكبار يرجوه فيشئ أو يتوسل له كييدفع عنه أذي..." (ص163) . وبالنسبة للجماد ، فيمكننا أن نقرأ رؤية بطلنا لجدران بيت العم إمام وولده الشيخ مسعود ، حيث يقول "الجدران بطوب نيئ باش بعضه بفعل المطر ، وبقر القيظ وندي الفجر بعضه الآخر ، مخلفاً فجوات عميقة يمكن لدجاجة أن تلبد فيها وفيحضنها ثلاثة كتاكيت". (ص183) ، وهيتشبيهات كما تري مستمدة من البيئة الريفية التي يدور فيها الحدث الروائي. كذلك يحرص مبدعنا علي الإشارة فيروايته إلي بعض الأحداث العامة لربطها بفترتها التاريخية ، مثل اختطاف أمريكا لطائرة مصرية فيالجو وإجبارها علي الهبوط فيجزيرة صقلية والقبض علي أربعة من ركابها الفلسطينيين ، بتهمة اختطاف سفينة إيطالية وقتل أحد رعاياها ممن كانوا علي متنها. أو الأحداث المحلية ، مثل القبض علي "إسلام ابن الحاجة تقية ، ... وعيل تانيفيأول الشارع اسمه خالد" (ص52) ، وذلك بتهمة انتمائها إلي إحدي الجماعات الإسلامية . كما يرصد روائينا التطور البيئيللحجر والبشر علي حد سواء ، مثل إزالة وابور الطحين الذي كان موجوداً بقرية المنصورية الكائنة بمحافظة الجيزة والتي بها أهل (محمود) والد جلال ، وكذلك زوال ساحته التي كانت تعج بالبشر والدواب. كما اختفي كذلك الأكتع الذي كان يقف علي الميزان ، ورفيقه الذي كان ينظم الوافدات من حاملات قفف الحب ، وباعة المشروبات والمأكولات ، وحل محلهم أربع بنايات من تلك التي نسميها مساكن شعبية ، (ص105 ، 106) ، وعلي المستوي الخاص أيضاً ، مثل إقامة العم إبراهيم عم جلال بيتاً من أربعة أدوار علي أنقاض البيت القديم . والمحور الدراميلروايتنا (أحلام العودة) ، هو استمرار للمحور الدراميالعام لهذه الثلاثية ، حيث مصر وفرنسا أو الشرق والغرب يتنازعان بطلنا جلال ، مصر بإيجابيات نشأته بها وسلبيات مستواها الحضاري، وفرنسا بسلبيات إحساسه بالغربة فيها وإيجابيات حضارتها المتفتحة ، وفيالنهاية يشعر بطلنا بالكآبة والضياع بين شوارع باريس التي لا تعرفه ، وشوارع مصر التي لم تعد تعرفه. وهو ما دار بنفسه وهو يخوض شوارع باريس ، أو بتعبيره "الدنيا لها قلب وروح وشفاه تبتسم ، فلماذا أنا لست فرحاناً وأبدو كالمكتئب .. هل لأن تلكم الشوارع ليست شوارعي؟ لا حبوت عليها يوماً ، ولا كان ليفيها صبا .. وما بال شوارع مصر وأخنانها ، فكأنها الأخري لم تعد شوارعي.. الأولي لا تعرفني، والثانية لم تعد .." ، (ص238) . وتكشف لنا الرواية ، عن أنه كانت هناك ثلاثة عروض أمام بطلنا جلال : استمرار التجارة فيباريس مع شريكه اللبنانيأبيالشوارب ، أو إقامة مشروعات زراعية فيمصر لتصديرها إلي فرنسا ، أو الاشتراك مع أمه وأسرتها فيإقامة كازينو للقمار بشرم الشيخ. وقد رفض هذا العرض الأخير رفضاً قاطعاً ، بينما عاني من تردد بين العرضين الأولين ، وهو يسأل نفسه للمرة الألف ، من أنا ؟! ولمن أنتمي؟! ولماذا أنا من دون الناس خرجت من رحم يهودية وظهر شهيد؟! (ص211). بل وندرك مدي ما يعانيه من صراع ، حين ينساق لما يغريه بالإقامة فيفرنسا ، ثم يعود ويصفه بأنه وسوسة شياطين ، ويهيم بعد ذلك فيبلده مصر "بجماله وقبحه ، بقنوطه وضحكاته ، وأحرص علي أن يكون ليوطن له نبض وعروق ، وليس شيئاً مطموراً فيدهاليز القلب وعتامات الغربة والشتات" (ص213 ، 214) ، فهذا من قبيل صراع النفس الذي يدور داخل البطل إلي جانب صراعات أخري تملأ هذا العمل ، كصراعه الخفيمع أمه اليهودية وصراعه من أجل (نادية) التي أحبها فيالصغر . لكن ثمة صراعاً آخر خارجياً مع العم إبراهيم حول أرضه المغتصبة ، والغريب أن هذا العم لا ينكر عليه حقه ، إلا أنه فيالوقت ذاته لا يريد أن يسلمه له. ولم تحل المشكلة إلا بعد وفاة العم بأن يبيع جلال لأبناء عمه الأرض بسعر يقترب من سعر السوق ، وحصيلة الثمن علي قسطين ، أما حقه فيالبيت فلم يفلح فيالحصول عليه . وقد أضاف الدكتور كمال رحيم قصة داخل روايته ، هيقصة ثلاثة تجار أو نصابين هنود خدعوه وخدعوا شريكه أبا الشوارب ، وإن كان بطلنا ومنذ البداية قد شك فيأمرهم وفيتصرفاتهم غير العادية. وقد أبدع مؤلفنا فيتقديمهم لقارئه بأبعادهم الجسمية وملابسهم المميزة وتصرفاتهم غير المألوفة ، والإنجليزية التي يتفاهمون بها عن طريق مترجم بإدعاء أنهم لا يعرفون الفرنسية ... إلخ. وقصة هؤلاء المحتالين الهنود مضافة إلي المحور الروائي، وكان من الممكن مواصلة الحكيبدونها ، فلعل الكاتب حرص علي إضافتها لطرافتها . ونتساءل فيختام روايتنا : هل التقي الشرق والغرب أم تصادما ، لنكتشف أن روايتنا تتميز بتقديم إجابة متفردة علي هذا التساؤل الذي طالما أثارته روايات عربية تناولت موضوع التقاء الحضارتين العربية والغربية وانعكاسه علي شخصياتها ، علي نحو ما نجد لدي توفيق الحكيم في(زهرة العمر) و(عصفور من الشرق) ، ويحيحقيفي(قنديل أم هاشم) ، وثلاثية سهيل إدريس : (الخندق العميق) و(الحياللاتيني) و(أصابعنا التي تحترق) ، و(جسر الشيطان) لعبد الحميد جودة السحار ، و(موسم الهجرة إلي الشمال) للطيب صالح ، فقد كان الغرب يمثل فيمعظم هذه الروايات الاستعمار من جانب ، والثقافة والحرية من جانب آخر. أما ثلاثيتنا الروائية لكمال رحيم ، فربما كانت أول رواية فيحدود علمي تناولت لقاء عربيمع عرب غادروا بلادهم إلي بلد غربي، انعكاساً للهجرة العربية إلي الخارج التي ازدادت مع النصف الثانيمن القرن العشرين ، خاصة إلي أوروبا. إذ كان محور روايتنا هذه (أحلام العودة) ورواية (أيام الشتات) التي سبقتها ، هو تعامل جلال المصريمع عرب آخرين ، بينما الفرنسيون فيوضع هامشيفيالسكرتارية أو الترجمة ، وكان أحد المحاور الروائية هو تصرفات هؤلاء العرب المستوطنين المتميزة مقارنة بالمصريين أقرباء جلال فيمصر الذين كان تعاملهم معه يتفاوت حضارياً بالإيجاب نادراً أو بالسلب غالباً ، بحيث يمكن اعتبار روايتنا رواية هجائية لمصر المعاصرة (النصف الثانيمن القرن العشرين) ، وما المقارنة بالمستوي الحضاريللعرب المقيمين فيباريس إلا جانباً من جوانب هذه الهجائية هذه مجرد لقطات من هذا العمل الثريالمثير بجاذبيته ، رغم حرص مبدعه علي عنصر الوصف ، وصف الجماد والشخوص الذين يقدمهم من خلال تصرفاتهم وحوارهم. وواضح أن كمال رحيم قد احتشد للسيطرة علي عمله الإبداعيهذا الذي تقع أحداثه بين الشرق والغرب ، أو تتعدد شخصياته التي تنتمي إلي أكثر من جنسية ، فقد قدمهم بأبعادهم الجسمية والنفسية واللغوية وتطورهم العمريوالسلوكي، مما يعد إضافة لها بصمتها من خلال حلم من أحلام الإبداع المتميزة .