تراصّّوا كقطع الطوب في مركب متهالك، لا يحتمل سوي نصف عددهم الذي تضاعف مع تضاعف احتياجهم لأبجديات الحياة، أحلامهم البسيطة كمحيطهم الأبسط،عمل وسكن وعيشة آدمية تليق بكونهم بشرًا. لا يبالون بصخب الحياة، فقد عاشوا علي هامشها ولم يكونوا يوما جزءًا منها. حين طافت أحلامهم في أفق الغد، عادت منكسرة مترعة باليأس، يكبلها الفقر الذي يكرهونه في طينة أعماقهم، بعد أن نبذتهم الحياة كنبذ النواة. انتحي أحدهم جانبًا وجلس القرفصاء، ينبش الماضي فتبلجت لناظريه ذكريات الشقاء، حين جمع في بوتقة أيامه الحاضرة هَمَّ الماضي وغموض المستقبل، تذكر زوجته التي يسكن في أحشائها جنينٌ ينبض وينتفض خوفًا من المجهول، وشقيقته التي تدخل مدار العنوسة بخطي ثابتة، لفقر الحال وقلة الحيلة. جال بناظريه علي من حوله فصدمته وجوهٌ تحوي قسماتها تاريخًا من الوجع، حوَلتها إلي أطلال، بعد أن أذلتها قساوة العيش وقضي عليها فقر مدقع لا يدانيه فقر. كان البرد يهرِّئ أجسادهم الهزيلة، التي لم تذق يوما طعم الدفء، يحملون فوق أكتافهم مسئوليات تخر لها الجبال، حينها عاقبتهم المقادير، ورفض الحظ أن يبتسم لمن لم يبادلوه الابتسام، فتركوا وراءهم حكايات تفيض مرارة بعد أن ضيق عليهم الحوج الخناق، يبحثون عن الفرج في أرض الله الواسعة، ويحمل كلٌّ منهم أحلاما مشروعة قد تقضي علي واقع افترسهم وغرس في قلوبهم أنيابه. لم يندهش فحالهم كحاله وإن اختلفت التفاصيل، وظل طوال الليل يفكر في هذا الشقاء المتخبط في وهدة الأمل، حتي أرغت العاصفة وأزبدت، وتحول السكون إلي ضجيج مطبق وصراخ يتعالي، يملكهم الفزع وتُرعد فرائصهم الرجفة، وبدا الجزع متجليا في وجوههم. وفجأة أحس بيد تقبض عليه بأصابع متشنجة، وترمقه عيون شاخصة كأنها فقدت الإدراك، حينها زاغت عيناه فزعًا واحتبست الكلمات في حلقه، وألجمه الصمت، وتيبست أطرافه من هول المشهد ليري صورة أخري من الجحيم، فوجد نفسه يغوص في لجة مظلمة ويختفي حلمه في ظلال المجهول، يصول بينهم شبح الفناء، فينزع الأرواح ويخطف النفوس، لكنه قاوم، وظل يقاوم حتي خارت عزيمته واكتسحها الموج الهائج فهانت عليه أحلامه، ووجد في نفسه ترحيبًا بالموت، الذي رآه أهون عليه مما هو فيه من تنازع وتجاذب وعذاب، فاستسلم للبحر الذي كان يتربص به حين فتح فاه وابتلعه كما ابتلع غيره ممن جمعتهم الظروف علي سطحه، ليفرُّوا من أعباء الماضي وما به من بؤس وآلام جسام، لتستقر أجسادهم في القاع تصحبها فقاعات أحلامهم الموءودة كالخارج من العتمة إلي القبر.